البديل الجذري من الدفاع ضد التجريبية إلى الدفاع عن التجريبية :
يؤشر الجزء الثاني من مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" لانعطاف مهم، انه التحول من الدفاع عن تيار البديل الجذري ضد تهمة التجريبية - وبالتالي محاولة إعطاء فهم للنظرية وتكونها ينفي عنه هذه التهمة – إلى الدفاع عن التجريبية بحد ذاتها، بعد إعطائها مضمونا آخر مختلفا تمام الاختلاف تبدو به التجريبية كجزء من الماركسية، انطلاقا من هذا المضمون. حيث يسير منطق النقاش الفلسفي لدى الرفاق وفق خوارزم algorithme طريف وساذج : "نعمل على أن نبدو بمظهر غير التجريبيين، فإذا فشلت هذه المحاولة، نحاول أن نبين أن التجريبية هي أصلا شيء حسن، وأنها لا تتعارض مع المادية الديالكيتكية بل هي جزء منها". نقرأ، في الجزء الثاني من المقال، الإجابة عن تساؤل يطرح في مستهله (التجريبية، النظرية، الميتافيزيقا، أية علاقة ؟) :
"ان التجريبية والنظرية مستويان في تطور الفكر عبر التاريخ. فإذا كانت النظرية حقلا واسعا من المعرفة الإنسانية وتعكس درجة تطورها. فكذلك التجريبية هي بدورها مستوى في مسار تطور الفكر عبر التاريخ، قدمت الفكر النظري نحو اكتشاف قوانين متقدمة لتفسير الوجود. والسؤال : ما العلاقة بين الفكر النظري والفكر التجريبي ؟ يختلف الفكر النظري عن الفكر التجريبي في مستوى وطريقة تقديم الشيء (الكائن) والحصول على المحتوى المعرفي وفي التطبيق وفي العلم. فمثلا، الفكر التجريبي يعكس الشيء في علاقته وتمظهره الخارجي للوصول إلى الحدس. أما الفكر النظري، فيعكس جانب علاقته الداخلية وقوانين الحركة والتطوير العقلاني لمعطيات المعرفة التجريبية. وشكل المنطق التجريبي يأخذ الأحكام المنفصلة مشيرا إلى واقعة – حقيقة – أي نظام أحكام تصف الظاهرة. وبالنسبة للفكر النظري يأخذ شكل نظام من التجريد، مليء بالمحتوى يعكس القوانين ويفسر الشيء. وعلى مستوى التطبيق. المعرفة التجريبية محدودة والنظرية غير محدودة. وفي ميدان العلم، تعد التجريبية نقطة انطلاق البناء النظري، والبناء النظري هو النتيجة النهائية التي تتوج مسار تطور المعرفة. ولهذا كان المحتوى الأساسي للفكر التجريبي يأتي من التجربة مباشرة. ومحتوى الفكر النظري ليس رواية ما جرى وما يجري، بل معرفة الحقيقة الموضوعية والملموسة، أي قوانين الحركة."(لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء – الجزء الثاني).
من الواضح أن في النص هذا تلاعبا لغويا بالألفاظ يروم منها تأدية وظيفة غير وظيفتها في النظرية، أي أن هذا التلاعب اللغوي ليس سوى مدخل لتلاعب نظري أعمق منه جاء ليخدمه، لذلك كان حتى كشف هذا التلاعب اللغوي وسيلة نحو كشف التلاعب النظري وإبطاله، ففي وحدة النقيضين بين شكلي التلاعب : اللغوي والنظري، عملية تورية amphibologie وجب تفكيكها وإعادة ترتيب عناصرها لتبين الفلسفة التي جاءت هي كآلية من آليات تبريرها القسري. ويظل السؤال مطروحا : أين تتجلى بالضبط آلية هاته التورية ذاتها وما أهدافها في الفلسفة والنظرية ؟ ان أول ما قد يلاحظه القارئ، هو هذا التوظيف الخاص الذي هو للفظ "التجريبية" في النص، حيث تكافئ درجة المعرفة الحسية، الذي لا يعني التجريبية كمذهب فلسفي بمعنى "empirisme"، ولهذا الاستبدال أهدافه. لكن كي نميز هاته الأهداف، وجب أن نتطرق بعض الشيء إلى العلاقة ما بين الدرجة الحسية للمعرفة – التي يستعمل أصحابنا هنا لفظ "التجريبية" للإشارة إليها – وبين التجريبية كمذهب فلسفي.
لقد كان الحل العلمي
لإشكالية العلاقة مابين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية اختراقا من
الاختراقات الثورية للمادية الديالكتيكية وإحدى قطائعها المعرفية الأساسية.
مع العقلانية من جهة، الذي يعتبر اكتشاف قوانين حركة الطبيعة والمجتمع
والفكر إبداعا حرا للفكر وبناء نظريا قائما بذاته في استقلاله عن كل معرفة
حسية، ومع التجريبية من جهة ثانية، التي ترى المعرفة غير ممكنة الا كمعرفة
حسية، وتنكر أي دور للمفاهيم والنظريات في إنتاج المعرفة بالواقع. ان مشكلة
العقلانية هي كونها تفهم سيرورة تكون المعرفة بالمقلوب، حيث تنطلق من
المعرفة العقلية التي هي بالنسبة إليها نقطة بدايتها ونهايتها معا، بينما
مشكلة التجريبية هي كونها تتوقف، في سيرورة تكون المعرفة، عند المعرفة
الحسية التي هي بالنسبة إليها بدورها، نقطة بدايتها ونهايتها معا. لقد بينت
المادية الديالكتيكية كيف أن المعرفة الحسية – كانعكاس ذاتي للعالم
الموضوعي – هي، خلافا للعقلانية، منطلق تكون المعرفة عند الانسان وليست،
خلافا للتجريبية، منتهاها أيضا. فسيرورة processus الفهم العلمي لقوانين
حركة الواقع، أي العلاقات الضرورية بين عناصره، هو انتقال مستمر من المعرفة
الحسية إلى المعرفة العقلية، هو صيرورة devenir المعرفة الحسية معرفة
عقلية.يؤشر الجزء الثاني من مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" لانعطاف مهم، انه التحول من الدفاع عن تيار البديل الجذري ضد تهمة التجريبية - وبالتالي محاولة إعطاء فهم للنظرية وتكونها ينفي عنه هذه التهمة – إلى الدفاع عن التجريبية بحد ذاتها، بعد إعطائها مضمونا آخر مختلفا تمام الاختلاف تبدو به التجريبية كجزء من الماركسية، انطلاقا من هذا المضمون. حيث يسير منطق النقاش الفلسفي لدى الرفاق وفق خوارزم algorithme طريف وساذج : "نعمل على أن نبدو بمظهر غير التجريبيين، فإذا فشلت هذه المحاولة، نحاول أن نبين أن التجريبية هي أصلا شيء حسن، وأنها لا تتعارض مع المادية الديالكيتكية بل هي جزء منها". نقرأ، في الجزء الثاني من المقال، الإجابة عن تساؤل يطرح في مستهله (التجريبية، النظرية، الميتافيزيقا، أية علاقة ؟) :
"ان التجريبية والنظرية مستويان في تطور الفكر عبر التاريخ. فإذا كانت النظرية حقلا واسعا من المعرفة الإنسانية وتعكس درجة تطورها. فكذلك التجريبية هي بدورها مستوى في مسار تطور الفكر عبر التاريخ، قدمت الفكر النظري نحو اكتشاف قوانين متقدمة لتفسير الوجود. والسؤال : ما العلاقة بين الفكر النظري والفكر التجريبي ؟ يختلف الفكر النظري عن الفكر التجريبي في مستوى وطريقة تقديم الشيء (الكائن) والحصول على المحتوى المعرفي وفي التطبيق وفي العلم. فمثلا، الفكر التجريبي يعكس الشيء في علاقته وتمظهره الخارجي للوصول إلى الحدس. أما الفكر النظري، فيعكس جانب علاقته الداخلية وقوانين الحركة والتطوير العقلاني لمعطيات المعرفة التجريبية. وشكل المنطق التجريبي يأخذ الأحكام المنفصلة مشيرا إلى واقعة – حقيقة – أي نظام أحكام تصف الظاهرة. وبالنسبة للفكر النظري يأخذ شكل نظام من التجريد، مليء بالمحتوى يعكس القوانين ويفسر الشيء. وعلى مستوى التطبيق. المعرفة التجريبية محدودة والنظرية غير محدودة. وفي ميدان العلم، تعد التجريبية نقطة انطلاق البناء النظري، والبناء النظري هو النتيجة النهائية التي تتوج مسار تطور المعرفة. ولهذا كان المحتوى الأساسي للفكر التجريبي يأتي من التجربة مباشرة. ومحتوى الفكر النظري ليس رواية ما جرى وما يجري، بل معرفة الحقيقة الموضوعية والملموسة، أي قوانين الحركة."(لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء – الجزء الثاني).
من الواضح أن في النص هذا تلاعبا لغويا بالألفاظ يروم منها تأدية وظيفة غير وظيفتها في النظرية، أي أن هذا التلاعب اللغوي ليس سوى مدخل لتلاعب نظري أعمق منه جاء ليخدمه، لذلك كان حتى كشف هذا التلاعب اللغوي وسيلة نحو كشف التلاعب النظري وإبطاله، ففي وحدة النقيضين بين شكلي التلاعب : اللغوي والنظري، عملية تورية amphibologie وجب تفكيكها وإعادة ترتيب عناصرها لتبين الفلسفة التي جاءت هي كآلية من آليات تبريرها القسري. ويظل السؤال مطروحا : أين تتجلى بالضبط آلية هاته التورية ذاتها وما أهدافها في الفلسفة والنظرية ؟ ان أول ما قد يلاحظه القارئ، هو هذا التوظيف الخاص الذي هو للفظ "التجريبية" في النص، حيث تكافئ درجة المعرفة الحسية، الذي لا يعني التجريبية كمذهب فلسفي بمعنى "empirisme"، ولهذا الاستبدال أهدافه. لكن كي نميز هاته الأهداف، وجب أن نتطرق بعض الشيء إلى العلاقة ما بين الدرجة الحسية للمعرفة – التي يستعمل أصحابنا هنا لفظ "التجريبية" للإشارة إليها – وبين التجريبية كمذهب فلسفي.
من الطبيعي أن للتجريبية والعقلانية مجموعة من الأطروحات الأخرى التي تتفرع من أطروحاتها الرئيسية، الا أن جذرية القطيعة المادية الديالكتيكية مع كل بنائهما النظري ينطلق بالضرورة من جذريتها، وبالضرورة علميتها، في نقض الأطروحة الرئيسية. في هذا النقض مضت المادية المعاصرة (الجدلية) بعيدا في فهم تكون المعرفة الإنسانية وتطورها حيث أصلت لها نظريا كسيرورة تاريخية. حيث أن الانتقال من المعرفة الحسية (التي تتناول ظاهر الواقع وعلاقاته الخارجية، وبالتالي المحدودة في القدرة على وصفه) إلى المعرفة العقلية (التي تنفذ نحو قوانين حركته أي علاقاته الداخلية الضرورية، وبالتالي التي تتجاوز الأولى نحو القدرة على تفسيره) يتم بشكل حركة تاريخية للإنسانية في فهمها المتعمق يوما بعد يوم للعالم الموضوعي، في انتقالها من المظهر إلى الجوهر، ومن الجوهر الأقل عمقا إلى الجوهر الأعمق، ومن الطبيعي أن يرتبط بالضرورة، حل إشكالية العلاقة مابين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية، على مستوى الابستيمولوجيا (نظرية المعرفة)،بإشكالية أعم فلسفيا، هي إشكالية العلاقة مابين المظهر والجوهر.
نترك التفصيل في هاته النقطة لنعود، بسرعة، إلى الألغام الفلسفية الثاوية تحت استعمال لفظ "التجريبية" للتدليل على المعرفة الحسية. هذا الاستعمال الذي يحاول أن يظهر به رفاق البديل الجذري، أرثوذوكسيين في نقلهم للمصطلحات من كتب لينين. ينسون أن لينين حينما استعمل مصطلح "التجريبية" بمعنى "l’empirique " – والأصح هو ترجمتها ب"التجريبي" - فمن الواضح تمييزه عن التجريبية كمذهب فلسفي أي بمعنى « l’empirisme »، والفرق شاسع فيما بينهما. فحين تحدث لينين أيضا عن التجريبية النقدية في كتابه "المادية والتجريبية النقدية" فقد تحدث عنها بمعنى empiriocriticisme (لاحظ ما تعنيه دائما لاحقة isme في الفرنسية كدلالة على التمذهب) وبالتالي بمعنى empirisme الموصوفة بأنها "نقدية critique". وبالتالي فان حديث لينين في "ملخص علم المنطق عند هيجل" لما يسميه رفاقنا "التجريبية" هو حديث عن التجريبي، في مقابلة له بالعام، المفهوم، وبالتالي النظري(14).
وان كان من هدف وراء الاستعاضة عن "التجريبي" ب"التجريبية" لدى الحديث عن المعرفة الحسية، فلن يكون غير واحد من اثنين : فإما إلغاء أي مكان يمكن أن تحتله التجريبية كمذهب فلسفي في الحقل الدلالي للبديل الجذري – الذي يفترض بالضرورة موقفا منه في بنائه النظري – عبر الإيهام بكونها تماثل التجريبي، مما يجعل أي نقد للبديل الجذري لاغيا اذا تم على قاعدة تصنيفه في خانة التجريبية، لأن هاته لا تعني لديه سوى التجريبي، الذي هو "مستوى في تطور الفكر عبر التاريخ"، وبالتالي هو ينكر وجودها أصلا. وإما، وهذا هو الأسوأ، اعتبار التجريبية أصلا، كمذهب فلسفي، في تطور المعرفة الإنسانية عبر التاريخ، مكافئة للتجريبي وبالتالي جزءا من عملية إنتاج المعرفة. وفي الحالتين، التضليل الممنهج للتمايز الموجود بين التجريبي والتجريبية، عبر إضاعة القارئ الناطق بالعربية بين هذا وذاك، بلا تمييز بين الاثنين. الا أن يمكن القول، أنه مهما تكن الآليات التي تتوسط لهاته الاستعاضة، فإنها تتخطى، بالطبع، حدود اللخبطة اللغوية لأنها تخدم هدفا في النظرية لولاه ما كانت اللخبطة وما قامت لها ضرورة في منطق الفكر. هذا الهدف، هو في النظرية، أن يظهر "البديل الجذري" بمظهر المعيد للمعرفة الحسية إلى موقعها وعرشها فيها، أي في النظرية المادية للمعرفة. وأن هذه الإعادة لا تتحقق الا عبر تسفيه أي نقد يقوم على نقد تجريبيته، انطلاقا من إعطاء التجريبية، التي هي التجريبي في حقيقة الأمر، موقع الأولوية في الحركة المعرفية. هذا معناه أن الدفاع ضد التجريبية، الذي يتخذ شكل الدفاع عن التجريبية، عند رفاق البديل الجذري، ليس في حقيقته النظرية سوى حركة انتقال لهم من الدفاع ضد التجريبية، إلى الدفاع الصريح عن التجريبية، فحين يتعقلن هذا الدفاع بالمماهاة الكاذبة مابين التجريبية والتجريبي، وتمنطق هاته بالتالي كل آلياته اللاحقة بمنطقها، يتكشف أكثر جوهر التخبط الفكري والفلسفي الذي تبوء محاولات إعطائه شكلا نظريا متماسكا، بالفشل عند كل مرة. ولتقريب الرؤية أكثر لنتخيل ما قد ينتجه لنا عدم التمييز أيضا مابين العقلي والعقلانية، أي بالتحديد مابين العقلي بما هو le rationnel والعقلانية بما هي le rationnalisme، لنقول، مضيفين ومطورين قول رفاق البديل الجذري، أن "التجريبية والعقلانية مستويان في تطور الفكر عبر التاريخ" ! نستطيع أن نتصور مهزلة مماثلة، حينما لا نميز بين الإصلاح بمعنى réforme والإصلاحية بمعنى réformisme، وقد نقول، نسجا على منوال ما سبق، أن الإصلاحية والثورة مستويان في تطور الحركة الجماهيرية مثلا ! منكرين، في الحالات الثلاث، الفرق الجوهري والحاسم بين المفهوم المادي الديالكتيكي عن التجريبي والمفهوم التجريبي عنه، مابين التصور المادي الديالكتيكي عن العقلي والتصور العقلاني عنه، مابين الفهم الثوري للإصلاحات ومابين الفهم الإصلاحي لها.
نعود إلى الحديث عن المعرفة الحسية والمعرفة العقلية في علاقتها بإشكالية العلاقة مابين الظاهرة والجوهر كما تطرحها وتحلها المادية الجدلية. يرى كاتبو "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" أنه : "يمكن الوقوف بنفس طريقة "انجلس"، على علاقة تجارب "فارداي" بنظريات "ماكسويل". ففي بداية القرن 19 برزت تجارب العالم البريطاني "مايكل فاراداي" صاحب أسس الكهرمغناطيسية والاكتشاف العظيم "حقول القوة" التي تصف اختراق حقول القوة الكهربائية والمغناطيسية للمكان والذي يعتبر المكان الفارغ غير فارغ على الإطلاق، بل مملوء بخطوط القوة. وكانت أعماله عبارة عن رسومات تعكس تجاربه دون معادلات رياضية. ("فاراداي" لم يدرس الرياضيات نتيجة فقره الشديد في طفولته، لأن أبويه كانا عاملين") ويعد من أعظم العلماء في التاريخ، وأعماله أعطت انعطافا قويا للبحوث النظرية. وكان نقطة انطلاق "ماكسويل" لصياغة معادلاته الشهيرة، واستلهم منه "اينشتين" ولا زال الفيزيائيون يستلهمون منه. ولا زالت أعماله تقدم إمكانيات عظيمة للحضارة الإنسانية. وهكذا نتلمس علمية قول لينين "ان الفكر بارتقائه من الملموس المحدد إلى التجريد لا يبتعد عن الحقيقة. بل يقترب منها...من الحدس الحي إلى الفكر المجرد ومنه إلى الممارسة، ذلك هو الطريق الديالكتيكي لمعرفة الواقع الموضوعي." مثلما قربتنا نظرية "ماكسويل" و"اينشتين من الواقع الموضوعي بارتقائهما على المعطيات التجريبية فراداي."(لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء – الجزء الثاني).
الأكيد أن هنالك الكثير مما يمكن استخلاصه من الشكل الذي به يستثمر رفاق البديل الجذري مثال ماكسويل، والذي يملأ الكثير من مساحات الفراغ حتى في عرضهم الابتدائي للعلاقة بين "التجريبية" والفكر النظري. لكن لننظر أولا في تقديمهم لهذا المثال قبل أن نعلق عليه. وحسبه فان الانتقال من تجارب فاراداي ونظريات ماكسويل، هو مثال للانتقال من "التجريبية" إلى الفكر النظري، فأعمال فارداي وتجاربه اقتصرت على التدوين التجريبي للواقع وتسجيل معطياته - نظرا لأنه لم يدرس الرياضيات في صغره – لكنها كان الأساس عند ماكسويل في صياغة معادلاته المعبرة عن قوانين الكهرمغناطيسية. وهذه قفزة للفكر من الدرجة الحسية للمعرفة إلى الدرجة العقلية. مرة أخرى، يحاول رفاق البديل الجذري لي عنق علم الفيزياء وتقليم أطرافه حتى يتلاءم مع الإطار الفلسفي للتجريبية، لكن الأمر يهون عندما نأتي لإلقاء نظرة على ما تتعرض له النظرية المادية الجدلية في المعرفة من تشويه، للأهداف نفسها.
يستند وضع تجارب فاراداي في خانة "الفكر التجريبي" ونظريات ماكسويل في خانة "الفكر النظري" – حيث للأول "التجريبية" المحضة وللثاني النظرية المحضة – إلى هيكل تفسيري فقير لتطور المعرفة الإنسانية يرى عملية الانتقال من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية عملية لتلاحق المعرفة العقلية والمعرفة الحسية، انه لا يرى في هاته السيرورة (processus) للانتقال سوى عملية تلاحق تأتي فيه النظرية على أساس من "التجريبية"، ولا يرى فيها صيرورة (devenir) للمعرفة الحسية معرفة عقلية. والفرق شاسع بين فهم هاته السيرورة كتلاحق، وبين فهمها كصيرورة. ان فهمها الأول كتلاحق هو ذو طبيعة ميتافيزيقية حتى في قراءة وتأويل النظرية المادية الديالكتيكية للمعرفة، مما يؤدي به إلى الرجوع نحو ما قبلها، كما يحدث بالضبط حين نلاحظ ما يسقط فيه الفكر من نكوص نحو المادية الأنثروبولوجية حينما يضيق "الممارسة" و"الأطروحات حول فيورباخ" ضمن حدود التقييد التجريبي والبراغماتي لها. أما الفهم الثاني (فهمها كصيرورة) فهو ذو طبيعة ديالكتيكية ينطلق من التناقضات الداخلية للمعرفة الحسية والتي تؤدي الى تطورها نحو معرفة عقلية، ضمن الحقل الخاص للابستيمولوجيا، ومن التناقضات الداخلية للمادة المتحركة مابين المظهر والجوهر، ضمن الحقل العام للفلسفة. والطريقة التي ينحل بها هذان التناقضان بصورة مستمرة، وينتقلان، مع كل تطور جديد للحركة، إلى أطر بنيوية جديدة.
فلننطلق بداية من التناقضات التي تلازم المادة حتى يتسنى لنا بناء فهم صحيح للتناقضات التي تلازم معرفتها، ولنطل بعضا على التناقض بين الظاهرة والجوهر. ان المظهر (Apparence) تمثل بالنسبة للشيء مجموع صفاته وعلاقاته الخارجية - وهي أكثر حركية - التي تتبدى للحواس مباشرة، أما الجوهر (Essence) فهو مجموع الصفات والعلاقات الداخلية له – وهي أكثر استقرارا – حيث أن المظهر هو الشكل الذي يتجلى فيه الجوهر. لقد حلت المثالية بشكل لا علمي مطلقا إشكالية العلاقة القائمة بين الجوهر والمظهر، في اتجاه اعتبار هذا الأخير مثاليا (مفهوم "المثل" لدى أفلاطون، و"المطلق" عند هيجل") أو في اتجاه ما ذهب إليه كانط في التمييز بين الفينومين (المظهر، الذي يعد بنظر كانط ذا طبيعة ذاتية صرفة) والنومين (الذي وحده موضوعي)، حيث أن طبيعة العقل – التي هي كرة مستديرة حسب كانط، وليست سهلا لامنتاهيا – لا تسمح بمعرفته. وتذهب الأداتية، كشكل من المثالية، عند جون ديوي، نحو اعتبار التمييز بين المظهر والجوهر، ليس أصلا سوى عملية ذاتية، كما أن الظواهريين والماخيين، يماهون مابين المظهر والإحساسات، حيث أن مظهر الشيء هو نفسه الإحساس به (انعكاسه الذاتي في الدماغ).
ان الحل المادي الجدلي لإشكالية العلاقة ما بين المظهر والجوهر يرتكز إلى كونهما وحدة نقيضين لا يمكن، إزاءها، لواحد منهما أن يوجد دون الآخر، فكما لا يمكن أن يوجد مظهر لا يعبر عن أي جوهر – المظاهر الخالية من الجواهر – فلا يمكن أن توجد هنالك جواهر "خالصة" لا تتمظهر. لقد عبر لينين عن هاته الوحدة في قولته الشهيرة "الجوهر يظهر، والمظهر جوهري". وهي وحدة تناقضية تؤطر التناقض القائم بينهما، حيث أن الجوهر هو دائما العنصر المحدد، والمظهر يتحدد، هذا الأخير الذي يتبدى مباشرة بينما الأول يخفى ويحتاج للجهد من أجل اكتشافه. والجوهر هو أعمق من المظهر رغم أن المظهر له جوانب عديدة ومتنوعة وهو أكثر حركية حتى أن المظهر الواحد قد يكون تجليا لجواهر مختلفة بل ومتضادة. والتناقض في الشيء لا يتوقف على التناقض بين الجوهر والمظهر، بل ان التناقض موجود صلب الجوهر نفسه. الا أن الخلاصة المستقاة على مستوى نظرية المعرفة، واضعين جانبا تناقضات الجوهر هو ذاته، هي التناقض بين الجوهر والمظهر بداية يحدد الطبيعة التناقضية والمركبة لسيرورة المعرفة – مابين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية – حيث أن المعرفة الإنسانية تسير بطريقة التغلغل اللانهائي من المظهر نحو الجوهر، وبالتالي التعمق اللانهائي للمعرفة الحسية نحو المعرفة العقلية.
الا أن مجموعة من الإشكالات تظل مطروحة، دون حلها بصورة صحيحة، لا يمكن للفكر أن يستمر واقفا بثبات على أرضية المادية الديالكتيكية. منها : اذا كان الانتقال في المعرفة من المظهر نحو الجوهر، وبالتالي من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية، الذي يأخذ في العلم مثلا الشكل النوعي للانتقال من الملاحظة والوصف نحو التفسير، وبالتالي اكتشاف القوانين الموضوعية التي تحكم حركة المادة، عملية لانهائية. ما هي الحدود بين هذين المستويين ؟ فإذا كانت هذه الحدود ترسمها قفزة من معرفة المظهر (حسيا) إلى معرفة الجوهر (عقليا)، فأين نضع بالتالي الطبيعة اللانهائية لاكتشاف الجوهر والاستيعاب المستمر للإنسانية له ؟ من السهل أن نعرف، بالانطلاق من المادية الديالكتيكية، أن الجوهر ليس معطى نهائيا يتم اكتشافه مرة واحدة، لكن هل يوجد سور صيني عظيم ما بين الجوهر والمظهر، وبالتالي بين شكلي المعرفة، نعرف بواسطته نقطة انتهاء الأول/الأولى وابتداء الثاني/الثانية ؟ وإذا لم يكن هذا السور موجودا، فكيف نعرف، مجددا، الحدود بينهما ؟ بل وقبل معرفتها، ما الذي يحدد موضوعيا، باستقلال عن إرادتنا ووعينا، هاته الحدود، وهذا الانتقال من هذا إلى ذاك، ويتولد ذاك عن هذا ؟
لعل الإجابة على هذا الإشكال صعبة في بنائها، ولعل طرحه أصعب. لكن، للتوغل في بناء الإجابة بأقصى ما يمكن من الدقة والعلمية، لنلق نظرة على إحدى الانعكاسات الخطيرة لهذا الإشكال على الحركة الشيوعية العالمية، من تجربتها نفسها. إذ أنه بعد الانقسام الصيني-الألباني ابتداء من نهاية السبعينيات وبدايات الثمانينيات – والذي أتى بعد سقوط ديكتاتورية البروليتاريا في الصين سنة 1976 وصعود دينغ سياو بينغ – أصدر حزب العمل الألباني مجموعة من المؤلفات والكتب يقوم فيها بمهاجمة التراث النظري لماو، كان أبرزها كتاب "الامبريالية والثورة" لأنور خوجا، لكن ما يهمنا اليوم، بالنسبة للموضوع الذي نناقش، هو دراسة لفاسيلاك كوريتا نشرت سنة 1984 بعنوان "الجوهر المعادي للماركسية، لفكر ماو تسي تونغ" وبالضبط إحدى فصوله التي تتناول الابستيمولوجيا، المعنون تحت "المغالطات الماوية في نظرية المعرفة"(15)، نستند هنا، الى ترجمة هذا الفصل المنجزة من طرف P.Boblusco عن النسخة الأصلية باللغة الألبانية (Vassilaq Kureta, Tirana, 8 Nëntori, 1984).
في هذا الفصل يناقش الكاتب عدة قضايا مثيرة فعلا للانتباه كما هي مثيرة للجدل أيضا. منها، أنه يأخذ على ماو كونه في مقالتي "في الممارسة العملية"(1937) و"من أين تأتي الأفكار السديدة؟" (1957) يفصل فصلا ميتافيزيقيا ما بين الدرجة الحسية للمعرفة ودرجتها العقلية، إذ يقول : "في تعارض تام مع الديالكتيك الماركسي، يقسم ماو تسي تونغ سيرورة المعرفة إلى مرحلتين يفرد لكل منها وجودا مستقلا، هذا التقسيم يعكس عودة إلى التصور الفلسفي ما قبل الماركسي، في حين يعتبر التحريفيون الصينيون أن الأمر يتعلق ب"اكتشاف" لماو تسي تونغ" ثم ان "...التقسيم الميتافيزيقي، الميكانيكي، للسيرورة الواحدة للمعرفة تقود ماو إلى تصورها كسيرورة من القفزات." يتحدث كوريتا هنا، عن تحليل ماو للانتقال من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية، وموقع الممارسة في سيرورة تكون المعرفة، حيث يرى، كما هو واضح، أن تقسيم سيرورة المعرفة إلى مرحلتين لدى ماو، واعتبار الانتقال من الأولى إلى الثانية يتم بشكل قفزة نوعية – تتم أخرى، لدى تطبيق المعارف في الممارسة – يتعارض كليا مع المادية الديالكتيكية ومضمون نظريتها للمعرفة. بالطبع فان كوريتا له حججه في هذا الانتقاد الذي أعتبره الألبان آنذاك جوهريا في البرهنة على تحريفية أطروحات ماو تسي تونغ بنظرهم، ولا نريد هنا التطرق لهذا النقاش الذي هو بحاجة إلى دراسة مستقلة – ان لم نقل سلسلة كاملة من الدراسات والبحوث – بقدر ما نروم – وبالقدر الذي يهمنا في دراسة الأسس الفلسفية للبديل الجذري - تبين الأسباب النظرية التي أدت بكوريتا إلى بناء هذا الموقف، وهي أسباب لا توجد في إسهامات ماو الفلسفية بقدر ما توجد في منهجية تعاطي كوريتا مع سيرورة المعرفة وفهمه للتصور المادي الديالكتيكي حول تطورها، وذلك لأنه أخفق في حل إشكال العلاقة ما بين حدود المعرفة الحسية والعقلية من جهة، ومابين الطابع اللانهائي لعملية المعرفة، من جهة أخرى، وبالتالي سيرورة تولد المعرفة بالجوهر من رحم المعرفة بالمظهر. إخفاق لم يفلح في تجاوزه ذكر المقتطفات من لينين، أو اعتبار أن "المعرفة الحسية لا تستثني العنصر العقلي" و"المعرفة العقلية لا تستثني العنصر الحسي" دون وضعه كل عنصر في موقعه، في كل مرحلة من مراحل تطور المعرفة، والنظر إلى تمرحل هاته المعرفة انطلاقا من تبدل مواقع هاته العناصر ذاتها.
ان دروس هذا الإخفاق، على المستوى الفلسفي، مهمة جدا في فهم المنزلقات التي ينزلق إليها "البديل الجذري" في تحليله للانتقال من التجريبي إلى النظري، أي بالتحديد، إخفاقه حيث أخفق كوريتا. ذلك أن قولنا بأن موقف كوريتا في "المغالطات الماوية..." يعكس أخطاء منهجية لدى كوريتا نفسه، لا ينفي كون التصور الذي انتقده يمكن أن يوجد، ولا ينطلق من موقع وجود نفي هذا التصور عند ماو تسي تونغ(16)، وإنما هو ينطلق مما هو أعمق من ذلك، هو الفلسفة والمنهج القادرين على حل إشكالية التمرحل في المعرفة، والاختلاف النوعي بين مرحلتيها. وفي هذا نرتكز على ضرورة الانطلاق من قوانين الديالكتيك، لكن كي ننطلق فعلا من قوانين الديالكتيك يجب أن ننطلق من فهم صحيح للعلاقة التي تؤطر علاقة هذه القوانين فيما بينها، وكيف تتجلى ضوابط هاته العلاقة، وفهمها انطلاقا من هذه الضوابط، في نظرية المعرفة وغيرها على السواء.
وهنا نقول بوضوح وصراحة : ان كل فهم الديالكتيك ينطلق من قانون آخر غير التناقض كقانون جوهري، هو فهم زائف. فالقول مثلا، بتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، دون الانطلاق من التناقض الذي يولد هذا التحول، يجعل المجال مفتوحا لجميع التأويلات المعادية الديالكتيك. لأن التحول أصلا من الكم إلى الكيف، ليس سوى تجل لحل التناقض ما بين الكم والكيف، هذا التناقض الذي يتميز، في مرحلة معينة من تطوره، بغلبة الكم على الكيف (التغيرات الكمية تحتل موقع الطرف الرئيسي في التناقض، والتغيرات الكيفية تحتل موقع الطرف الثانوي)، يتسم في مرحلة ثانية بغلبة الكيف على الكم (التغيرات الكيفية تحتل موقع الطرف الرئيسي، والكمية موقع الطرف الثانوي)، إذ لا يمكن أن تتولد التغيرات الكيفية من العدم بل إنها تتولد من رحم التغيرات الكمية، وتبخر الماء هو من تجليات هذا القانون في الطبيعة مثلما نفي علاقات الإنتاج الجديدة لعلاقات الإنتاج القديمة (حيث تنشأ الأولى في رحم الثانية) هو من تجلياته في المجتمع. أما في المعرفة، فان فهما ديالكتيكيا سليما للانتقال من المعرفة الحسية للمعرفة العقلية، يجب أن ينطلق من التناقض الداخلي في المعرفة الحسية نفسها. فحين نتحدث عن قفزة نوعية انتقلنا بها في المعرفة من الحسي إلى العقلي، فهذا لا يعني المرحلة الحسية للمعرفة لم تكن تتضمن عناصر عقلية، لأن المعرفة الإنسانية كظاهرة اجتماعية، لا تلغي العناصر العقلية لدى استقبال الإحساس، وإلا، انتفى كل فرق بين الانسان والحيوان، هذه العناصر التي ليست موجودة بصفة ماقبلية بل هي تكسبها إياها الطبيعة الاجتماعية للمعرفة. هذا يستلزم ما نعنيه، حين نقول أن المعرفة تكون في مرحلتها الأولى معرفة حسية، هو أن العناصر الحسية للانعكاس تحتل موقع الطرف الرئيسي للتناقض، في علاقتها بالعناصر العقلية، وأن التراكم الكمي لهاته الأخيرة تحت تأثير التجريد المستمر وتلخيص التجربة الحسية، يؤدي في مرحلة معينة من تطوره، إلى صيرورتها طرفا رئيسيا في التناقض، في علاقتها بالعناصر الحسية. والى صيرورة المعرفة الحسية بالتالي معرفة عقلية، وبالتالي لا توجد معرفة حسية "خالصة" معزولة وقائمة بذاتها، ولا معرفة عقلية "خالصة" وقائمة بذاتها.
لن نخوض في دراسة الأشكال الخاصة لهذا التناقض من وجهة نظر علم الفيزيولوجيا، ونترك هذه الدراسة إلى مساهمة لاحقة. الا أنه يمكن أن نقول، ابستميولوجيا، أن المحدد المادي لهذا التناقض في معرفة العالم الموضوعي هو الوحدة التناقضية التي تجمع المظهر والجوهر، في تحول الواحد منهما إلى الآخر بصورة مستمرة. فما هو جوهر، يتحول إلى مظهر في شروط أخرى أو من نواح أخرى. مثال ذلك هو أن ظهور مرض وراثي عند شخص ما، هو مظهر لوجود مورثات معينة على صبغياته (المعتبر هنا كجوهر)، لكن وجود هذه المورثات (الجوهر) ليس سوى مظهر لجوهر أعمق، هو ترجمة محددة للبروتينات وبالتالي انتظام محدد لجزيئات الحمض النووي. فتحول المظهر والجوهر الواحد إلى الآخر يشتق من التناقض بينهما ومن الطبيعة اللانهائية للجوهر. هذا ما عبر عليه لينين ب"الجوهر من الدرجة الأولى، ومن الدرجة الثانية...وهكذا". هذا هو المظهر الأول للتناقض مابين المظهر والجوهر، أما المظهر الثاني، فهو أن الانعكاس الحسي للمادة، وبالتالي المعرفة بالمظهر، لا تعني أن هاته المعرفة تقصي، كمعرفة بالمظهر، كل معرفة بالجوهر وان كانت جنينية وغير مكتملة، بل تكتمل في سيرورة الانتقال إلى الجوهر أعمق فأعمق، وتتحول إلى الطرف الرئيسي للتناقض في سيرورة هذا الانتقال، التي هي نفسها صيرورة المعرفة بالمظهر، معرفة بالجوهر.
ان فهما علميا متماسكا للتناقض بين المظهر والجوهر، في إطار وحدتهما الجدلية، هو الذي يمكن على أرضيته أن نعرف أي مأزق محرج وضع فيه رفاق البديل الجذري أنفسهم في تقديمهم وتحليلهم للانتقال من "تجارب فاراداي" إلى "نظريات ماكسويل" في الكهرومغناطيسية، بشكل يبدو فيه وكأن ما قدمه فارداي هو التجريبي المحض، والتدوين الحسي لمعطيات الواقع – لأنه، ويا له من تفسير، لم يدرس الرياضيات في صغره – إلى أن أتى ماكسويل ورفعه إلى المستوى النظري، إذ قدمه في معادلات رياضية. هذا المثال الذي يضربه الرفاق في تيار البديل الجذري كتعبير للانتقال من "التجريبية" على حد تعبيرهم، إلى الفكر النظري. هو في الحقيقة مثال نضربه نحن على تجريبية مقاربتهم لتطور المعرفة الإنسانية، وعلى كون منهج الديالكتيك الذين هم أوفياء له، ليس في الحقيقة الديالكتيك الماركسي-اللينيني، بل هو ديالكتيك أعرج وممسوخ، يشبه الديالكتيك المادي شيئا ما، لكنه ليس هو.
أول ما نتلمس فيه غياب ديالكتيك ماركس وحضور هذا الديالكتيك الأعرج في ابستيمولوجيا البديل الجذري، هو هذا الفصل الميتافيزيقي ما بين التجريبي والنظري، حيث في التجريبي، الحضور المطلق هو للتجريبي، والغياب المطلق هو للنظري. أما النظري فهو يقوم على أساس التجريبي، لكن بتغييبه كليا. فما فعله فاراداي، بنظر رفاق البديل الجذري، هو فقط "رسومات تعبر عن تجاربه دون معادلات رياضية" وبهذا فانه كان فكرا "تجريبيا"،و معادلات ماكسويل الرياضية وحدها كان فكرا "نظريا"، وهنا نتساءل : إذا كان ما قدمه فاراداي، لا يتجاوز التدوين الحسي لمعطيات الواقع – لأنه، ونعيد ذكرها للتسلية والمرح فحسب، لم يدرس الرياضيات في صغره - فما الفرق بينه وبين باقي الناس ؟ ألا يعايش أي شخص نلاقيه في الشارع ظواهر الكهرومغناطيسية يوميا، في حياته، وبالتالي كل شخص هو، بهذا الفهم، فاراداي ؟ أم أن الفرق بينهما، هو أن فاراداي وحده قام بتجارب علمية ودون نتائجها على شكل رسومات، بينما الشخص الآخر لم يقم بذلك لأنه، لم يدرس الفيزياء في صغره ؟
ان حصر نتاج فاراداي في "الفكر التجريبي" يطرح مشاكل أخرى مستعصية في نظرية المعرفة، لكن قبل المرور إليها، يجب أن نسجل أن هذا الحصر عند رفاق البديل الجذري هو نتاج لحصر ثان، وهو حصر التجريبي في التجريب دون التجربة، بمعنى، أن التجريبي الذي يقدمونه بصيغة "التجريبية "، لا يفهمون منه، كتجريبيين، سوى التجريب expérimentation، ويقصون تضمنه للتجربة expérience وهي أعم من التجريب (لأنها تضم التجربة اليومية أيضا من جهة، إلى جانب التجربة العلمية. كما أنها تضم التجربة غير المباشرة إلى جانب التجربة المباشرة، من جهة أخرى). فما الذي يؤسس للفرق مابين فاراداي وباقي البشر، هو أنه تخطى حدود التجربة اليومية إلى الآفاق الذي تفتحه له التجربة العلمية (التجريب)، لكن للانتقال إلى هذا المستوى من البحث، في فهم أي ظاهرة، تقطع الإنسانية أشواطا وتراكم كما هائلا من الملاحظات اليومية المباشرة. وبالتالي فان التجريبي ليس هو التجريب وحده، لأن هذا الأخير ليس معزولا عن التقدم النظري للإنسانية في فهم الظاهرة، بطريقة نستطيع بها أن نقدم "الفكر التجريبي" هاهنا و"الفكر النظري" ها هناك، حيث يكون لكل منهما وجوده المستقل القائم بذاته، بدون الأخذ بعين الاعتبار الصيرورة التاريخية للانتقال من الوصف إلى التفسير في العلم، وبالتالي، انتقال المعرفة من معرفة حسية إلى معرفة عقلية، ومن معرفة بمظهر الشيء، إلى معرفة بجوهره، عبر سيرورة لانهائية لحركة المعرفة الإنسانية من المظهر إلى الجوهر، ومن الجوهر الأقل عمقا إلى الجوهر الأعمق.
أما تطبيق منهج البديل الجذري في مقاربة العلاقة بين التجريبي والنظري، فسيؤدي بنا إلى وادي المهازل. فسيرورة علم البيولوجيا نحو اكتشاف المادة الوراثية مثلا، عرفت مجموعة من التجارب العلمية قبل أن يتم اكتشاف جزيئة الADN. العالم غريفيت Griffith قام بتجربة شهيرة ملخصها ما يلي : أخذ عينتين من المكورات الرئوية R و S، حيث أن المكورات الرئوية S قاتلة وR غير قاتلة. وقام بتسخين المكورات الرئوية القاتلة حتى فقدت سميتها، ووضعها مع المكورات غير القاتلة، وقام برج المحلول الذي يحتوي عليها معا، وحقنه لفئران مما أدى إلى قتلها في الحين. هذا يعني أن سمية المكورات القاتلة انتقلت إلى المكورات غير القاتلة، وهي مادة انتقلت، لم يكن يعلم غريفيت طبيعتها – ربما، لم يدرس الكيمياء في صغره - وسماها بالعلة المحولة. أما أفيري Avery فقد انطلق من تجارب غريفيت معمقا إياها، فلأجل تحديد طبيعة العلة المحولة، قام أفيري ومساعدوه بإضافة أربعة أنواع من الأنزيمات، كلا على حدة، إلى العلة المحولة، الأولى محللة للبروتينات (Protéases)، والثانية محللة للدهون (Lipases) والثالثة محللة للحمض النووي الريبوزي (ARNases)، والرابعة محللة للحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين (ADNases). حيث أن الفئة الرابعة من الأنزيمات وحدها أدت إلى فقدان العلة المحولة لفعاليتها في تجربة قتل الفئران، مما يدل على أن هاته العلة ليست شيئا غير جزيئة الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين (ADN).
المعروف أن العلم بعد أفيري قطع أشواطا إضافية – وهو لا يزال يقطعها – لأجل تحديد البنية الكيميائية للحمض النووي ووظائفه الحيوية وآليات انقسامه وتغيره وانتقاله من جيل إلى جيل، وبهذا هو ينتقل بشكل مستمر من المظهر إلى الجوهر. لكن السؤال الذي يطرح ذاته هنا : هل يمكن أن نصنف، مقولبين بذلك تاريخ علم البيولوجيا في قالب التجريبية الساذج، شقا من الأبحاث العلمية لاكتشاف المادة الوراثية، في خانة "الفكر التجريبي" المحض والخالص وشقا آخر في خانة "الفكر النظري" المحض والخالص ؟ هل لكل من "التجريبية" بتعبير رفاق البديل الجذري، والنظرية، كمستويين في تطور الفكر عبر التاريخ، حقبة خاصة به، أو على الأقل، أبحاث علمية خاصة تكون إما تجريبية صرفة أو نظرية صرفة ؟ هل توجد طريقة ما، لتقديم تطور علم البيولوجيا وفق منهج البديل الجذري، "تجارب غريفيت ونظريات أفيري" أو "تجارب غريفيت وأفيري ونظريات واطسون"، لتتلاءم مع قصة "تجارب فاراداي ونظريات ماكسويل" ؟ من الواضح أن السير على هذا النهج سيؤدي إلى النظر إلى وحدة الوصف والتفسير، التجريبي والنظري، المعرفة الحسية والمعرفة العقلية، المظهر والجوهر، كوحدة شكلية ومفتعلة. وبالتالي إلى تغييب التناقض الكامن في الوصف نفسه، الذي يؤدي إلى خروج التفسير من رحمه، والانتقال من التجريبي إلى النظري، من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية، ومن المعرفة بالمظهر إلى المعرفة بالجوهر.
هزال هذا المنهج وبؤسه ينفضحان أكثر اذا ما واجهناه بتاريخ فهم الإنسانية للمجموعة الشمسية على سبيل المثال. لقد قطعت الإنسانية في ذلك أشواطا ابتداء من الملاحظة اليومية لظاهرتي الشروق والغروب (كما فهمها الدين) نحو نظام بطليموس الفلكي، ثم الثورة الكوبرنيكية في علم الفلك، التي عمقها كبلر بعد 80 عاما. ولا زالت تتقدم في فهمها يوما بعد يوم. ان دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس كجوهر، يظهر في مظهر الشروق والغروب، وتعاقب الفصول، الذي يوحي بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض. وهذا لا يعني أن التصور الأول الذي بناه الانسان كان تصورا "فينومينولوجيا" خالصا خاليا من كل نفاذ للجوهر، بل أنه يعكس جانبا منه، هو جانب الحركة، حيث كان يعرف الانسان، على الأقل، أن أحدهما يتحرك، لكنه كان قاصرا على النفاذ إلى جوهر هاته الحركة نفسها وكان بالتالي، رئيسيا، معرفة بالمظهر. كما أن الانتقال إلى نظام بطليموس أو كوبرنيك لم يكن نهاية لسيرورة المعرفة هاته، بل فرش الأرضية لها لتنطلق نحو النفاذ إلى الجوهر الأعمق، وبالتالي فان معرفة الانسان بالأرض والشمس تتطور بشكل مستمر من معرفة حسية إلى معرفة عقلية، من التجريبي إلى النظري، من الوصف إلى التفسير. دون أن يعني هذا أن جزءا من تاريخها هو ل"الفكر التجريبي" وجزءا آخر هو ل"الفكر النظري" بتعلة أن "التجريبية والفكر النظري مستويان في تطور الفكر عبر التاريخ".
لم ننته بعد من نقد مثال "تجارب فارداي ونظريات ماكسويل" وتأويله لدى رفاق البديل الجذري، إذ أنه فضلا على ما يحمله من تضييق للتجريبي في التجريب، يحمل تضييقا آخر هو تضييق النظري في المعادلات الرياضية. ان تصوير الانتقال من الرسومات التي وصف بها فاراداي تجاربه، إلى المعادلات الرياضية لماكسويل، كشكل لحركة المعرفة من "تجارب فاراداي" إلى "نظريات ماكسويل". يعطي للقارئ الحق في طرح سؤال جدي : اذا كانت المعادلات الرياضية، هي البارامتر الغائب عند فاراداي – الذي لم يدرس الرياضيات في صغره - الحاضر عند ماكسويل، فهل هذا يعني أن الانتقال من التجريبي إلى النظري كان هو التعبير عن هاته التجارب بمعادلات رياضية ؟ هل مشكلة اكتشاف القوانين الداخلية، والعلاقات الضرورية في الواقع، تحلها المعادلات الرياضية، أم أن هاته المعادلات ليست سوى نمذجة لقوانين مكتشفة، تعمقها النمذجة ولا تؤكدها ؟ أليس في هذا تسفيه للنظرية، باختزالها في مجرد نمذجة رياضية، وغض النظر عن الجوهري والأساسي فيها، والذي هو اكتشاف القوانين التي تحكم وجود وتطور الأشياء، باستقلال عن مسألة ما اذا نمذجت هاته القوانين رياضيا أم لا ؟
هذا فضلا على ما يحمله هذا التضييق نفسه من نتائج كوميدية / تراجيدية في آن،على قيمة العلوم الأخرى، ونتحدث عن العلوم التي لا يمكن نمذجة القوانين التي تكتشفها في شكل رياضي. البيولوجيا مثلا، أو الاقتصاد السياسي، أو علم النفس. فحين يصير اكتشاف القوانين الموضوعية لحركة المادة (الجوهر، الانتقال إلى المعرفة العقلية) مكافئا لنمذجتها في صيغ ومعادلات رياضية فهذا يطرح معضلة كبرى. لأننا سندفع مرغمين تحت تأثير ذلك، لرفض موضوعية قانون معين اذا لم يكن معبرا عليه بمعادلات رياضية، فقوانين الفيزيولوجيا مثلا، لا يمكن وضعها في قالب الرياضيات ولا نمذجتها وفق منطقها. فالتجريد العلمي لا يأخذ دوما الشكل الرياضي، والقول بغير ذلك يعني نسيان ألف باء الديالكتيك. لقد أكد ماو كثيرا في مقاله "في التناقض" على أهمية الأخذ بعين الاعتبار خصوصية التناقض. فالتناقضات المختلفة تحل بطريقة مختلفة نوعيا، لكن ما يجب إضافته، بالاشتقاق من تأكيد ماو السابق نفسه، هو أن معرفة التناقضات المختلفة نوعيا تتم بطرق هي الأخرى، مختلفة نوعيا. فالمعرفة هي نفسها حل لتناقضات فيما هي عكس (réflexion) لحقيقة تناقضات أخرى، والتناقضات الموضوعية التي تتجه لتملكها نظريا سيرورة المعرفة، تحدد شكل هذا التملك النظري الذي هو نتاج لهاته السيرورة، وبالتالي نتاج تناقضاتها الخاصة التي تنشأ وتنحل بصورة لانهائية. و الا، كان علينا القبول بكون دراسات بافلوف الفيزيولوجية غير علمية (أو، نحصرها في إطار "الفكر التجريبي"، عملا بتقسيم البديل الجذري)، أو أن قانون التلاؤم الضروري بين القوى المنتجة، وقانون تفاوت التطور، والقانون الاقتصادي الأساسي لنمط الإنتاج، وقانون التطور المتوازي للاقتصاد الاشتراكي...كلها ليست قوانين، فقط لأنها غير منمذجة رياضيا، أو أنها، في حكم "الفكر التجريبي"، حتى يأتي الله بماكسويل من عنده، يقدمها في شكل معادلات رياضية ! ليس هذا تقويلا لرفاق البديل الجذري ما لا يقولون، لكنه تتبع حريص للنهاية الطبيعية التي يؤدي إليها منطقهم، وما يمكن تأسيسه فعلا، على هيكلهم الابستيمولوجي، المشيد على عجل.
الا أن أقرب المحطات التي يوصل إليها هذا المنطق في النظرية، هو أن الطريق لإخراج الحركة الماركسية-اللينينية المغربية من أزمتها الراهنة، بنظر رفاق البديل الجذري، هو البدء أولا بمرحلة "التجريبية"، بدون أي نظرية، لنصل فيما بعد إلى مرحلة "النظرية"، نكون تجريبيين اليوم، وغدا سنكون نظريين، فما على الماركسيين-اللينينيين في المرحلة هاته الا أن يكونوا فاراداي، غدا سيكونون ماكسويل. يجب أن نرتمي في الماء، غدا سنتعلم السباحة. وكأننا لسنا في الماء، وكأن عقدة العقد التي تواجهنا ليست سوى بناء تنظيم (أو تيار، أو ربما جمعية أو حزب، وتختلف الصيغ باختلاف الأمزجة) نقوم عبره بالاحتكاك بالواقع لجمع المعطيات والوقائع، والقيام بالتجارب، لنقوم فيما بعد، أو يقوم غيرنا – وهذا يتوقف على ما اذا كنا قد درسنا الرياضيات في الصغر – باكتشاف القوانين الموضوعية وإستراتيجية التغيير الثوري. وذلك بإهمال مهمة بناء الخط الإيديولوجي والسياسي (اللهم بعض "أعمال ماركس وانجلز ولينين" كما سيأتي في لاحق تحليل البديل الجذري)، أو إرجاء هذه المهمة وتأجيلها حتى أجل غير مسمى، بحجة أن "التجريبية والنظرية مستويان في تطور الفكر عبر التاريخ"، هذا الأجل قد يكون، في أقرب التقديرات، يوم القيامة. بإهمال مهمة إنتاج البرنامج السياسي الثوري الذي على أساسه يمكن أن تكون وحدة الماركسيين-اللينينيين المغاربة، والإجابة التنظيمية اللينينية التي يمكن أن تصهر طاقات المناضلين والجماهير وتتقدم بهم في سيرورة بناء الحزب الثوري للبروليتاريا. ان التمعن، بخلاصة، في مناقشات البديل الجذري الابستيمولوجية حول النظرية والتجربة والممارسة وغيرها، يوضح أنها ليست دفاعا عن نظرية المعرفة الماركسية الا من حيث الشكل والكلمات، أما جوهرا ومضمونا، وكما يكشف منطقها الفعلي والنتائج الموضوعية لتطوره، فهي الهلوسة ليس دونها شيء.
الملموس والمجرد ومنهج ماركس في "رأس المال"، جديد البديل الجذري:
يقول ماركس، متحدثا عن تناوله لموضوع الاقتصاد السياسي، وتاليا المنهج الذي اعتمده في بحثه النظري الأساسي "رأس المال" : "ان منهج الصعود من المجرد نحو الملموس ليس بالنسبة للفكر سوى الطريق لتملك الملموس". بينما يقول رفاق البديل الجذري من جهتهم : "ويعد رأس المال "ماركس" نموذجا كلاسيكيا للصعود من الملموس إلى المجرد، ومن التجربة إلى النظرية". بطريقة توحي أنهم أدرى من ماركس بالمنهج الذي انتهجه، وأنهم قد يتقدمون بمبادرة تصحيحية له، بهذا الصدد. لكن الأهم هو معرفة الأسباب التي دفعت بهم إلى إبداع هذا الجديد النظري، والتي تتلخص، بنظرنا، بمضامين مختلفة كليا يقدمونها لمقولتي "المجرد" و"الملموس"، عن المضامين التي يعطيها إياها ماركس. هذه عملية تشبه، حشو مفهومي "النظرية" و"الممارسة" (وكذا هو الأمر وقع لمفهوم "التجربة" و"التجريبي") بالمحتويات التي تقدمها لها الفلسفات الوضعية والتجريبية والبراغماتية، مما يؤدي إلى فهم لجدلية النظرية بالممارسة مختلف كليا عن فهمها الماركسي-اللينيني. وجب إذن، لتبديد كل لبس، ولقطع الطريق أمام كل تلاعب، توضيح مفهوم ماركس المادي الجدلي، لمقولتي "الملموس" و"المجرد"، المختلف جذريا عن مفهوم الفلسفة السابقة على الماركسية، والذي يؤسس، بالتالي، لمقاربة علمية لعلاقتهما معا.
لكن، ولأجل ربط مسؤول لهذا بالنقاش الجاري، فلننظر أولا في السياق الذي يستحضر فيه أنصار تيار البديل الجذري العلاقة بين المجرد والملموس. إذ أنه مواصلة على قصة "التجريبية والنظرية مستويان في تطور الفكر عبر التاريخ" يقولون : " فالتجربة والنظرية مستويان مستقلان نسبيا، والحدود الفاصلة بينهما هي لحظة تصبح التجربة نظرية ولحظة يصبح ما اعتبر نظرية متاحا للتجربة في مرحلة عليا. إذن حركة الديالكتيكية للمعرفة: من التجربة إلى النظرية ومن الملموس إلى المجرد، وأن الخلط ما بين المعرفة التجريبية والنظرية، وعدم الوعي بعلاقتهما وحدودهما، يؤدي إلى سوء فهم لجوهر الفكر النظري ولقدرته على عكس الموضوع بطريقة معمقة وشاملة، وإلى تجميد الحركة وحصر النظرية في حدود بناء محتويات ومضامين في لغة تترجم خصائص مختلفة لما هو أمام الحواس، ليتم تزييف الفكر النظري في الشروط التاريخية. وفي هذا الحال، أي تجريد يتم إنشاؤه يكون فارغا من تصور العلوم. وهي عودة دون وعي، الى مفهوم التجريبية في الفكر المادي الأنجلو-فرنسي للقرن 17 و18. وهذا الفهم كان ناجحا في تحديد الرابط بين الفكر والإحساس، وعكس المحتوى المعرفي لنتائج علوم العصر. لكنه كان ضعيفا في التفسير للمضمون. ويحد المعرفة في التجربة الحسية، أي ما تعكسه التجربة على مستوى حواسنا باعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة. لكن التفكير النظري لا ينتهي مع تشكيل تجريدات معزولة مثل المعرفة التجريبية، بل يعطي معرفة ملموسة للموضوع، غير محسوس، وغير منتشر، جديدة وأعلى. والتجريدات الغنية بالمحتوى والمضمون ليست سوى وسيلة لتحقيق الهدف، لهذا نقول إن الفكر النظري يتجرد من الملموس المحسوس، ثم يرتقي ويرتفع لملموس مجرد مكتشف. "القيمة مفهوم عام محروم من الإحساس، ولكن أكثر عمق وحقيقة من قانون العرض والطلب" (لينين). ويعد رأس المال" ماركس" نموذجا كلاسيكيا للصعود من الملموس إلى المجرد ومن التجربة إلى النظرية. وإن عملية الصعود ليست مقتصرة على مجال الاقتصاد السياسي وعلى دراسة المجتمعات، فهي تشمل جميع مجالات العلوم. فحركة الفكر من الملموس إلى المجرد هي قانون عالمي في الشروط التاريخية لتطور المعرفة الإنسانية. « (لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء – الجزء الثاني).
يبدو اذن اكتشاف حركة الفكر من الملموس إلى المجرد بما هو"قانون عالمي في الشروط التاريخية لتطور المعرفة الإنسانية" كتعميق للاكتشاف السابق حول "التجريبية والنظرية كمستويين في تطور الفكر عبر التاريخ"، كما أن ذكر"رأس المال" لماركس ك"نموذج كلاسيكي" على تحقق هذا القانون، يندرج أيضا، تناول التمييز بين "الملموس المحسوس" و"الملموس المجرد" ضمن هذا الإطار، وما يلحق به من نقد للتجريبية (التجريبي في حقيقة الأمر، مجددا) في مفهومها "المادي الأنجلو-فرنسي للقرن 17 و18". لكن وكما قلنا سابقا، فان وضع هذا القول في موقعه يتطلب، بداية، التعرض لمفهوم ماركس عن "المجرد" و"الملموس"، حتى تكون العودة إلى نقد مفهوم البديل الجذري عنه، عودة إلى نقده على أرضية مفهوم ماركس نفسه. هذا المفهوم الذي لا يمكن الوعي بأساسه المادي الجدلي وأبعاده الثورية في مقاربة الممارسة النظرية، دون وعي صحيح بطبيعة مشكلة العلاقة بين الملموس والمجرد نفسها، والإجابات المختلفة التي قدمتها مختلف تيارات الفلسفة، تبعا لموقفها من المشكلة الأساسية للفلسفة نفسها.
لقد كانت التصورات اللاهوتية للسكولائيين في العصر الوسيط تتجه لاعتبار كل الأسماء/المفاهيم (وحيث لم يكونوا يميزون بين الاسم والمفهوم) تعبر عن خصائص الأشياء وعلاقاتها، في نطاق المجرد. أما هاته الأشياء نفسها، فكانوا يدعونها بالملموس. وهذا التصور كانت له دعامات ايتيمولوجية – اشتقاقية – في اللغة اللاتينية، إذ أن "concretus" تعني "الممتزج"، "المركب"، "المتداخل". أما "abstractus" فتعني "المأخوذ إلى الخارج" و"المستخرج" و"المستقى". لقد كان كل هذا مدمجا في المعاني اللغوية والأصول الايتيمولوجية للكلمتين، بقدر ما كان أيضا تعبيرا عن سيادة هذا التصور الفلسفي. الا أن التضاد الشديد ما بين الاسميين والواقعيين في العصر الوسيط، لم يكن يستند إلى ما هو ايتيمولوجي في معنى "المجرد" و"الملموس"، فالاسميون والواقعيون كانوا يعتقدون على السواء، بأن مفردة "الملموس" هي أداة للتمييز الحسي ما بين الأشياء الملاحظة والمفردة ومابين غيرها : المفاهيم. حيث أن "المجرد" هي، في ضوء هذا الفصل، هي المفاهيم والأسماء التي تعبر عن "أشكالها العامة" وحسب. أما الفرق فكان قائما على أرضية أخرى، هي أن الاسميين، يعتبرون الأسماء والمفاهيم توصيفات ذاتية للأشياء المفردة "الملموسة"، بينما الواقعيون يعتبرون أن لها وجودا سرمديا في العقل الإلهي. ولقد كان التصور المسيحي-الكنسي للعالم بأوروبا آنذاك، المجسد رئيسيا في الواقعية، يرى أن "المجرد" المعزول والفارغ من الأحاسيس، له من المصداقية أكثر من "الملموس". لأن "المجرد" هنا له معنى السرمدي، المطلق، غير القابل للقسمة، الكوني...أما "الملموس" فله معنى العابر، الظرفي، لأن "المجرد" هو بنظر هذا التصور، الجوهر اللامرئي الذي يتكون منه العالم. و مع الفلاسفة الماديين للقرن 16 و 17 فقط، وبالتحالف مع العلوم الطبيعية، بدأ هدم التصورات الدينية والسكولائية حول العالم، وأعادت تأويل مقولتي "المجرد" و"الملموس" بطريقة جديدة. فالملموس هو من ذاك الحين، الواقع الوحيد موضوع الدراسة والفهم، أما المجرد فقد صار مرادفا للتعبير عن المعطيات الحسية/التجريبية في شكل كلمات، أي إشارة للدلالة على الملموس.
لكن هذا الفهم سرعان ما طفق يدخل في تناقض حاد مع شروط تطور العلوم الطبيعية التي أخذت، على إثرها، الفلسفة تتحول أكثر فأكثر نحو الرؤى الميكانيكية، حيث أن الخصائص الفضائية والهندسية للأشكال المجردة صار معترفا بها كخاصيات موضوعية وحيدة للأشياء والظواهر، أما "الملموس" فاعتبر كمجموعة أوهام ذاتية تخلقها أعضاء الحس، فهو – الملموس، كما فهم آنذاك – كنتاج لنشاط الأعضاء الحسية، وبالتالي كحالة نفسية-فيزيولوجية للشيء نفسه، تماما كتلوين ذاتي للشكل الهندسي "المجرد"، ووظيفة المعرفة على أساس هذا، هو إزالة هذا التلوين للوصول إلى الهيكل الذي يملأه. أي، بكلمة، الانتقال من الملموس إلى المجرد. وهذا ما يحدد، تاليا، النزوع القوي لدى الاسميين نحو اعتبار أي مفاهيم غير رياضية، كإشارات مخترعة من طرف الانسان بشكل سطحي، من أجل حفظ معطيات المعرفة التجريبية في الذاكرة، أو للتواصل ضمن المجتمع، مثلما اتجه دافيد هيوم وجورج بركلي، كمناصرين للمثالية الذاتية. لكن هذا النزوع بكل نقاط ضعفه – وهنا يكمن جوهر المشكل – كان لدى الماديين أيضا في ذلك العصر، وهنا نتحدث عن لوك، هوبز وهيلفيسيوس الذين كانت تهيمن هاته الرؤية لمقولتي "المجرد" و"الملموس" على مجمل أعمالهم الفلسفية. ودفعت لديهم إلى أقصاها حينما تم ربطها بالدراسات السيكولوجية وأيضا اللغوية والنحوية. فالمادي هيليفسيوس مثلا، يعرف التجريد كوسيلة من أجل "تثبيت عدد كبير من الأشياء في الذهن "، كما أن هوبز يعتبر أنه لأجل التفكير بشكل صحيح، يجب فهم كيف نتكلم ونفهم الكلام بطريقة صحيحة، ولنلاحظ أن مثل هذا الفهم تم استعادته في ما بعد لدى فلسفة التحليل اللغوي والوضعيين المناطقة (فتجنشتاين مثلا).
ان نواقص هذه الرؤية قد أدت إلى تعرضها للنقد من موقعين متناقضين، الأول هو نقدها من طرف الماديين الأكثر اتساقا، أي نقدها من اليسار. والثاني هو نقدها من طرف المثاليين واللاأدريين، أي، ان جاز التعبير، نقدها من اليمين. وقد تصدى لمهمة النقد المادي لمقاربة التجريبية لجدلية الملموس والمجرد، الفليسوف المادي العظيم اسبينوزا، والذي قام بعملية تفكيك ونقد شاملين لهذه الرؤية. لقد اعتبر اسبينوزا أن مفهوم الجوهر (substance)، وهو "المبدأ الأول للطبيعة"، لا يمكن أن يتصور تجريديا أو بصورة عامة، ولا يمكن أن نذهب أبعد في فهمه أكثر هو في الواقع. فالحقيقة لا يمكن بلوغها ببساطة تجريد أو تعميم للمعطيات الحسية، و"الأفكار الفعلية" لا يمكن لها ان تنبثق بهاته الطريقة. فقيام الاختلافات، الاتفاقات، والتعارضات بين الأشياء وضمنها، هي بحسب سبينوزا، عملية غير متحكم فيها من طرف العقل، وهذا يعني – وهنا يكمن جوهر نقد اسبينوزا للتجريبية، وجذريته في الدفاع عن خلاصة المادية – أن لها طابعا موضوعيا مستقلا عن العقل نفسه، لها طابع مادي. فهو في بناء الحقيقة / المعرفة، لا ينطلق من "التجربة الفوضوية chaotic experience" – وتبريرها الفلسفي في التصورات التجريبية - ليذهب في رحلة من التجريد العقلي لأجل ترتيب معطياتها عقلانيا والوصول إلى المجرد. والسؤال من أين تأتي هاته المفاهيم العامة، وهاته المقولات والمبادئ ان لم تكن نقطة الوصول ؟
ان جواب سبينوزا على هذا السؤال يتركز في كون هاته المقولات والعموميات والمبادئ، تتحدد ماقبليا في الذهن البشري وتتفعل بفعل الاستبطان أو الحدس. من الطبيعي أن تقود القراءة السطحية لإجابة اسبينوزا، لاعتبارها أقرب إلى إجابة المثاليين الذاتيين (كانط مثلا أو لايبنتز) منها إلى المادية. لكن الحال غير ذلك، لأن ما يقصده اسبينوزا بالذهن البشري ليس هو ذهن الانسان الفرد، بل هو ذهن الإنسانية ككل. هو الذي يحتوي "أدوات ذهنية" يقوم بها الانسان بمعرفة الواقع، وتكون هذه "الأدوات الذهنية" لا يتم دفعة واحدة، ولكن بشكل تدريجي، حيث أن اسبينوزا يشبه هاته العملية بتكون أدوات الصناعة عند الانسان، يقول اسبينوزا : "ان منهج العثور على الحقيقة يمكن وضعه على قدم المساواة مع إنتاج الأدوات المادية، فلأجل عمل الحديد، تلزم مطرقة. والمطرقة لا يمكن أن تكون موجودة اذا لم تصنع بعد. ولكي تصنع، لا بد من مطرقة أخرى، وهذه تلزمها مطرقة أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية. ويمكن أن نحاول، بجانب ذلك عبثا أن نثبت البشر ليس باستطاعتهم صنع الحديد."(كتاب الأخلاق). إذ يعتبر أن هاته "الأدوات الذهنية"، التي يؤسس لها تأصيلا ماديا، أدوات طبيعية عند الانسان تماما كما هي اليد. وبالطبع أن هذا التصور – رغم كونه أكثر مادية واتساقا من عقلانية ديكارت ولايبتز ومفهوم الله عندهما – له نقطة ضعفه، والتي تتجلى في عدم قدرة اسبينوزا على رؤية "الأدوات الثقافية" كنتاج للعمل المادي وليس للطبيعة، وهذا العجز سيستمر لدى فيورباخ أيضا، ولكنه، مع ذلك ان لم نقل بسببه، في ظل الشروط التاريخية القائمة، قدم أساسا صلبا للمادية والتي سيقدر ماركس وانجلز فيما بعد عاليا قيمتها ومضمونها.
على هذا الأساس سيقوم اسبينوزا بنقد مفهومي "الملموس" و"المجرد" عند الاتجاهات السكولائية والاسمية-التجريبية في عجزها عن الإحاطة بالجوهر وتأسيس منهج الإحاطة به والتي كانت – الاتجاهات – تنطلق من "العموميات المجردة". حيث اعتبر أن الطريق من الوجود الملموس إلى العام المجرد لا يمكن له أن يحل مشكلة الجوهر، والطريق لفهم الملموس عبر اختزاله في تجريد خاو، قليل الأهمية من الناحية العلمية. لقد انتقد سبينوزا التصور التجريبي الساذج الذي يعتقد أن جوهر التفكير النظري كله، يتركز في الانتقال من الشيء الملموس والفردي المليء بالمحتوى، إلى المجرد والعام والفارغ. وهذا انتقال يبعد، بنظر اسبينوزا، كثيرا عن الهدف المنشود، تملك الجوهر. ان الطريق للتفكير النظري هو تما الطريق المعاكس لطريق الاسمية-التجريبية، انه ينطلق بوضوح من مبدأ عام – وهو ليس عاما مجردا بأي معنى من المعاني – تم التقدم خطوة بخطوة في البناء الذهني للشيء، في عملية عقلية تشتق خصائصه الجزئية من جوهره، أي ما يميزه بشكل رئيسي. ويمكن شرح هذا التصور – كما يفعل اسبينوزا – بإعطاء مثال مفهوم الدائرة، فإذا عرفنا الدائرة بأنها الشكل الذي جميع الخطوط المستقيمة التي تمر من مركزها إلى محيطها متساوية. فذلك لن يولد تملكا نظريا لمفهوم الدائرة لأن ذلك ليس سوى خاصية من خاصياتها، ولكن اذا عرفناها بأنها "أي خط إحدى حدوده محدودة، والأخرى حرة" فهذا يؤدي إلى فهمها لأنه يتيح للذهن القدرة على إعادة بنائها عقليا، انطلاقا من "الأصل" الذي يجيب عليه هذا التعريف.
وبالتالي ان الوصول إلى الحقيقة حسب اسبينوزا، لا يمكن في اختزال الملموس في المجرد، أو في شرح للملموس يؤدي إلى عام مجرد. بل بالعكس، استنباط الخصائص الجزئية من السبب العام. وفي هذه العلاقة يميز اسبينوزا في الأفكار العامة التي يتم الانطلاق منها في العثور على الحقيقة الموضوعية مابين المفاهيم المشتركة notiones communes من جهة، ومابين المفاهيم العامة الكونيةnotiones generalis universales من جهة ثانية، وهذان النوعان يختلفان من حيث طبيعتهما في عكس الواقع، فالأولى تعبر عن العلة العامة لأصل الشيء، وبالتالي تعكس الجوهر. أما الثانية فتعبر عن مختلفات الأشياء والتي يجسدها "الوجود بشكل عام". حيث أن الانطلاق من notiones communes وبالتالي من أصل وجود الشيء، هو سيرورة استنباط يتم فيها إعادة بنائه عقليا، أي كما يتكون في الطبيعة بشكل ملموس. وهنا نكتشف نقطة ضعف جديدة في رؤية اسبينوزا، هي عدم ربطه لتكون الفكر النظري بالممارسة، إذ في الوقت نفسه الذي لا يرى الرابط ما بين تكون "الأدوات الذهنية" عند الانسان وعمله المادي، فانه أيضا لا يرى الرابط بين ما تنتجه هذه الأدوات الذهنية بالممارسة العملية، والتي هي مقياس معيار موضوعية الحقيقة، هنا أيضا، يذهب اسبينوزا إلى اعتبار أن "الحقيقة معيار ذاتها".
أما كانط فكان له طرح آخر فيما يتعلق بالمجرد والملموس، وطرح كانط هذا، هو ما مثل بالنسبة للتجريبية-الاسمية نقدا لها من اليمين، أي من مواقع المثالية. والقول بيمينية هذا النقد لا يعني استصغارا أهميته أو دعوة إلى استعدائه، بل أنه يعني أنه بخلاف النقد من اليسار (نقد اسبينوزا المادي)، لا يسلط الضوء على انزلاقاتها المثالية بل على جوانب الميتافيزيقا فيها. يعتبر كانط، في معرض نقده للتجريبية والعقلانية معا، من منظور مثاليته الذاتية - أن المفاهيم، كي تكون فعلا مفاهيم، لا مجرد تسميات وإشارات، تعبر دائما عن العام. فتصنيف المفاهيم ما بين "مجرد" و"ملموس" هو أصلا، تصنيف باطل. لأن المفهوم هو دائما مجرد، ويعبر بالضرورة عن تعميم محدد. فحدود الملموسية هي في الشيء الذي نتأمله حسيا، كظاهرة معزولة، والمجرد يقفز دائما على هاته الحدود ويتخطاها، فالمفهوم – وبالتالي المجرد – هو تركيب لتعريفات متنوعة ومختلفة. هذا التصور الذي بناه كانط للمجرد والملموس، والحدود بين التجريد والملموسية، سيتبناه أيضا المثالي الديالكتيكي هيجل.
لقد اعتبر هيجل هو الآخر أن أي مفهوم يدخل في نطاق المجرد. وذلك لأننا نعبر عنه في شكل كلمات، أي في وعاء اللغة. فكل كلمة هي تجريد معين، وتعبير عن العام (وهذا كان رأي فيورباخ أيضا : كل كلمة هي تعميم) ولذلك غير غير قادرة عن التعبير على ما هو فردي. وبهذا المعنى، كل شخص، كيفما كان، يفكر بطريقة مجردة. وهذا – التفكير بطريقة مجردة – ليس اذن مزية للفكر، بل هو عيب فيه. وطريق الوصول إلى الحقيقة هو التفكير بطريقة ملموسة، إعادة إنتاج الملموس انطلاقا من المجرد. والذي يعرفه هيجل – الملموس – باعتبار وحدة للتنوع، أي لتعريفات متنوعة، وبالتالي تعبير عقلي عن الروابط العضوية الموجودة في الموضوع. بينما المجرد يعرفه على كونه العام، المعبر عنه في الكلمة والمفهوم. لكن كل كلمة، بنظر هيجل، ليست بعد مفهوما، بل هي مجرد تمثيل Vorstellung مجرد عام، وشكل من المعرفة التجريبية، التي تتضمن معطيات حسية، فالمفهوم (بمعنى concept لا بمعنى notion) هو العام الذي يتضمن غنى وتنوع الخاص، وهو ليس فقط مجردا، بل هو أيضا ملموس من حيث مضمونه وما يعبر عنه هذا الملموس كوحدة للتنوع، وبالتالي ان ملموسية المفهوم هي حسب هيجل، تكمن في وحدة التعاريف وتماسكها.
وبربط مفهوم هيجل للملموس والمجرد، بمنهجه الديالكتيكي، فان تملك الملموس، الذي هو وصول إلى الحقيقة (الذي يعتبرها هيجل دائما ملموسة، فلا وجود لحقيقة مجردة) يتم بالانطلاق من خاصيته الجوهرية الأصلية، وبالتالي علاقته التناقضية الرئيسية، أي التناقض الذي يحدد وجوده كشيء. وبالبناء عليه، يقوم الفكر بتجميع كل خصائصه منطقيا وبالتالي اعادة بنائه في النظرية. فلكي نتملك نظريا، شيئا ملموسا في الواقع مثل "البيت"، يزيح الفكر كل خاصياته الجزئية (المساحة، الثمن، عدد الغرف، طبيعة الآجر..الخ) ولا يبقي الا على الخاصية الرئيسية (التناقض المحدد للشيء، وهو في حالتنا علاقة الساكن بالغرفة التي يقطنها)، وهكذا فان البيت يتكون من غرف، والغرف مبنية من آجر طبيعته كذا، ولكل منها مساحة مجموعها كذا...حتى يستطيع الفكر اعادة خلق الشيء ذهنيا انطلاقا من ترتيبه المنطقي لخواصه بدءا بالخاصية الجوهرية، هذا ما يقود اليه ديالكتيك هيجل. لكن ما تقود له مثاليته – وهنا منزلق هيجل الرئيسي – هو أن الشيء الملموس الذي يتم اعادة تجميعه، ضمن حركة الانتقال من المجرد إلى الملموس، هو نفسه الملموس في الواقع، واعتقد هيجل بالتالي، أن الملموس هو نتاج الفكر.
هذا التراث الفلسفي لهيجل وسبينوزا واختراقاتهما التقدمية في فهم جدلية الملموس والمجرد – رغم منزلقاتهما – طمرت تحت ركام من الميتافزيقا والمثالية التي تشبتت بهما الفلسفة البرجوازية(17) (خاصة وضعية جون ستيورات ميل) ولم تقدر بالتالي على استيعاب مضمونها الغني. ان استخراج هذا المضمون ونقده لاستثمار نواته العقلانية، لن يتم الا مع ماركس، الذي سيقوم بارساء منهج الصعود من المجرد نحو الملموس على أسس علمية، أي مادية ديالكتيكية، تمكنه من قاعدة منهجية لانجاز البحث النظري في مجال الاقتصاد السياسي، ونعني هنا بالأساس كتاب عمره "رأس المال Le Capital". يعرف ماركس الملموس في "اسهام في نقد الاقتصاد السياسي" بأنه "وحدة لمظاهر متعددة"، التعريف الذي يبدو خاطئا من وجهة نظر المنطق الصوري، لأن "وحدة المظاهر المتنوعة"هي خاصية المجرد أكثر منها خاصية الملموس، لكنها، في توظيف ماركس لها، تعكس تصوره الديالكتيكي للتعدد والتنوع في الواقع. انه تصور يعكس العلاقات الموضوعية الفعلية القائمة ما بين الأشياء والظواهر في العالم المادي، حيث أن الملموسية هي مجموع هاته العلاقات نفسها وترابطها الجدلي في اطاره، وهو ما يعجز عن فهمه الفكر التجريبي الذي يختزل الانتقال من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية، في انتقال من التأمل الحي إلى تجميع معطياته تجريديا، أي مجرد ترتيب المعطيات التي تدلي بها المعرفة الحسية (الانتقال من الملموس إلى المجرد، حسب التعبير الذي يروق هذا الفكر).
بالاضافة للطبيعة الديالكتيكية للمفهوم الماركسي للملموس ك"وحدة لمظاهر متنوعة" فانه أيضا مفهوم مادي. لأن الملموسية لا تخلق، عند ماركس، في خضم سيرورة عكس الواقع، لا يخلقها التفكير مثلما يتوهم هيجل. فالملموس الذي يتم بناؤه في الفكر، في الانتقال من المجرد إلى الملموس، ليس هو الملموس الواقعي، بل هو الملموس في الفكر، فخطأ هيجل يتركز في كونه يماهي بين الاثنين، لكن ماركس يعتبر الملموس concret كأي مقولة من مقولات الديالكتيك المادي (الصدفة، الضرورة، الجوهر...). ولذلك فان المجرد أيضا لا يعالجه ماركس كشيء مثالي بحت، أو كنتاج للنشاط الذهني، بل يقاربة موضوعيا، من وجهة نظر الموضوع، هنا مجددا يستعمل ماركس مفهوم المجرد للدلالة على ما يوجد واقعيا، أي كتعبير عن العلاقات الموضوعية الموجودة مابين ظواهر الواقع وعناصره، والتي قد تنعكس في وعي الانسان، وقد لا تنعكس. ونقف مثلا على مفهوم العمل المجرد Travail Abstrait عند ماركس في رأس المال، حيث أن أنه - بخلاف العمل الملموس، الذي يتجه نحو خلق القيمة الاستعمالية، والذي يختلف حسب طبيعة السلعة التي يتم انتاجها – هو المسؤول عن خلق القيمة التبادلية. ان تجريدية العمل المجرد ليست نتاجا للذهن، بل هي خاصية موضوعية للعمل الانساني في ظل الرأسمالية، والاقتصاد السلعي بصورة عامة. فاختزال كل أشكال العمل في شكل واحد يلغي كافة الاختلافات – العمل المجرد – هو على حد تعبير ماركس، تجريد يخلق كل يوم في السيرورة المادية للانتاج الاجتماعي. ان مفهوم ماركس للمجرد يقف ضد المفاهيم البرجوازية والكانطية الجديدة له، التي لا يمكن أن تفهمه الا كنتاج خالص للفكر والنشاط المعرفي، حيث بالنسبة اليهم، مشكلة المجرد والملموس هي مشكلة ابستيمولوجية بحتة. وان كان ماركس لم يتوقف عند ذلك، وعالج أيضا المشكلة من الزاوية الابستيمولوجية، أي من وجهة نظر نظرية المعرفة، ان فهم ماركس للمجرد، على هذا المستوى، هو الانعكاس أحادي الجانب، غير الكامل، وغير المتطور بشكل كلي، للواقع الموضوعي. بينما الملموس هو الانعكاس الشامل، الأكثر كمالا ونموا، والذي يحيط بالموضوع من كل جوانبه، حيث أن سيرورة المعرفة الإنسانية، تنتقل بالضرورة نحو فهم أعمق وأرسخ بالشيء، أي نتقل، من المجرد إلى الملموس. فالملموسية ليست خاصية للصورة الحسية للواقع – كما يعتقد بعض قليلي الماركسية – في الوعي، ولا التجريدية خاصية المعرفة العقلية بالواقع. لأننا نتحدث عن ملموسية الصورة الحسية كما الفكر المجرد على السواء. فالشكل الهندسي المغرق في التجريد، قد يكون صورة حسية، وبالعكس فان التفكير بواسطة المفاهيم له طبيعة ملموسة. فالحقيقة، على حد تعبير هيجل، هي دائما ملموسة ولا توجد حقيقة مجردة على الاطلاق.
وبالتالي فان سيرورة المعرفة، وانتقالها من التأمل الحسي إلى المفهوم المجرد ومنه إلى الممارسة، سيرورة معقدة تحمل المعرفة الحسية نفسها، في تناقضاتها ذاتها وحدة الملموس والمجرد التي يتحول منها الواحد إلى الآخر. فلا يمكن، كما يعتقد رفاق البديل الجذري – وهنا بلغ الانزلاق عندهم مبلغا خطيرا جدا – اختزال سيرورة المعرفة في "قانون الانتقال من الملموس إلى المجرد، ومن التجربة إلى النظرية" والذي يحتم على الفكر، انهاء هاته السيرورة لدى انشاء التجريدات المنفردة، حتى ولو قال لفظيا، بالعكس. لكن سيرورة المعرفة تستمر متخطية التجريدات، منطلقة منها، نحو اعادة بناء الملموس في الفكر لأجل تملكه نظريا من جميع الجوانب، أي كمعرفة ملموسة، والتي لا تعني خلق الملموس نفسه كما رأى ذلك هيجل متسقا مع مثاليته. وعلى هذا الوهم يعلق ماركس : "ان الملموس يعتبر ملموسا لأنه مزيج من تعريفات كثيرة ووحدة لمظاهر متنوعة، ولهذا يظهر في الفكر كعملية تركيب، أي كنتيجة، لا كنقطة انطلاق. بالرغم من أنه في الواقع نقطة انطلاق، وبالتالي فانه نقطة انطلاق التأمل والتصور. ففي الطريق الأول يتبخر الفهم الكامل حتى درجة التحديد المجرد، أما في الطريق الثاني فان التحديدات المجردة تؤدي إلى اعادة انتاج الملموس عن طريق الفكر"(حول نقد الاقتصاد السياسي).
ان التجريدات الذي توقف عنده علماء الاقتصاد السياسي الانجليز السابقين على ماركس، في أبحاثهم، والتي اعتبروها هي النتيجة النهائية للبحث، هي التي انطلق منها ماركس في مواصلة البحث النظري في ميدان الاقتصاد السياسي، وأرساه على أسس أكثر علمية، فماركس لم ينطلق من ركام المعطيات التجريبية كي يعممه للوصول إلى تجريدات خاوية من المحتوى، بل انطلق من تعميم هاته المعطيات نفسها (التجريد) كي يدرس الرأسمالية بكل غناها وتنوعها، أي تراكب تناقضاتها الداخلية. فمن تبادل البضائع ينطلق ماركس إلى ما هو أشد تعقيدا وغنى، حيث أن تملك الملموس ليس نتاجا للمعرفة الحسية بل انطلاقا من تعميمات تجريدية. وهنا ما يوضحه تسلسل العمل النظري لماركس في كل جزء من أجزاء رأس المال الثلاثة، اذ يدرس في الجزء الأول سيرورة الانتاج الرأسمالي بشكل عام وما ترتبط بها من مفاهيم اقتصادية (القيمة، النقد، البضاعة، المنافسة...). وينتقل لدراسة التداول circulation كجزء عضوي من بنية علاقات الانتاج الرأسمالية في الجزء الثاني، لينتهي نحو معالجة علاقات الانتاج هاته، في غناها وتنوعها، باعتبارها وحدة لمظاهر متعددة (الانتاج والتداول) وبالتالي، التملك النظري لنمط الانتاج الرأسمالي باعتباره ملموسا، وبهذا ينتقل ماركس في بحثه النظري من المجرد نحو الملموس. هذا هو ثاني أخطر منزلق لرفاق البديل الجذري، ينبع من المنزلق الأول ويلازمه : اعتبار كتاب "رأس المال" لماركس، ما سموه "نموذجا كلاسيكيا للانتقال من الملموس إلى المجرد، ومن التجربة إلى النظرية"(الجدير بالذكر، ان هذا التصور للمجرد والملموس تتبناه كذلك احدى تنظيمات التحريفية المسلحة -الغيفارية- في تركيا، ونقصد بها حزب وجبهة التحرر الشعبي الثوري DHKP-C، في تأصيلها النظري لقراءة طبيعة المجتمع والثورة في تركيا والإستراتيجية العسكرية المتلائمة معهما)..
ذلك أن الاصرار لديهم على فهم كل شيء بالمقلوب، بل وفهمه بالقالب أيضا، ونعني قولبة الاقتصاد السياسي في قالب العلوم الطبيعية، لأجل الوصول إلى نتيجة مرغوب فيها، شاء المنطق أم أبى، هي أن ماركس انتقل في بحثه من الملموس نحو المجرد، وكفى الله المناضلين شر التحليل أو الفهم، أدى بهم إلى الاستهزاء عمليا بالماركسية. حيث أن الجملة القائلة "عملية الصعود (يقصدون بها الصعود من الملموس إلى المجرد) ليست مقصورة على الاقتصاد السياسي ودراسة المجتمعات، بل هي تشمل جميع مجالات العلوم"، يراد بها، لغرض حشو الاقتصاد السياسي والمادية التاريخية في قالب العلوم الطبيعية، قول العكس تماما : عملية الصعود ليست مقصورة على العلوم الطبيعية بل هي تشمل حتى الاقتصاد السياسي ودراسة المجتمعات ! لكن هذه المحاولة تغفل، حقيقة أن الانتقال من المجرد نحو الملموس هو كذلك، قانون عام لتطور المعرفة الإنسانية، فما الذي نستخلصه لدى مقارنة النظريات الأولى للعلوم الطبيعية، والتي كانت تعكس جوانب قليلة من الظواهر، بالنظريات الحالية، التي تقارب الظاهرة بقدر عال من الغنى والتنوع، وتستوعبها في طبيعتها التناقضية ؟ ان الاستخلاص الذي يمكن أن نأخذه من منحى هذا التطور، هو أن المعرفة الإنسانية تنتقل، عبر التاريخ، باستمرار من المجرد نحو الملموس.
ابستيمولوجيا البديل الجذري لا تستطيع، بالتأكيد، استيعاب هاته الجدلية. لسبب ظاهر هو أنها تأخذ بالتصور التجريبي-الاسمي لمفهومي "المجرد" و"الملموس"، أو تلوك، في أحسن الحالات، المفاهيم البرجوازية الحالية، الوضعية والكانطية الجديدة عنهما. لذلك نقول أن استيعاب نظرية المعرفة الماركسية في علاقة "المجرد" و"الملموس"، لا يمكن أن يتحقق دون استيعاب لمجمل الثورة الابستيمولوجية لماركس وانجلز، في نظرية المعرفة وفي الفلسفة بشكل عام. هذا ما يظهر مثلا، في حديثهم عن كون "الفكر النظري يتجرد من الملموس المحسوس، ويرتقي ويرتفع لملموس مجرد مكتشف"، وكذلك التوضيح الذي في نهاية المقال حول الملموسية. فهذا لا يعكس التشوه الخلقي الذي يعاني منه مفهوما "الملموس "والمجرد" عند البديل الجذري وحسب، بل وأيضا، الموقع الذي يعطونه للانعكاس الحسي للواقع انطلاقا من هذا التشوه نفسه. فاذا كان المجرد نقيض الملموس، وكان "الملموس المجرد" هو أيضا ملموسا، فان "الملموس المحسوس" بهذا المعنى هو "الملموس الملموس"...بينما "الملموس المجرد" هو "ملموس غير ملموس" أو "ملموس قليلا" ! وبهذا يتم اجترار الفهم السكولائي للمجرد، واعتبار المحسوس – انطلاقا من التجريبية – هو الأول والآخر، الظاهر والباطن.
لكن هذا الفهم التجريبي للمجرد والملموس عند البديل الجذري، لا يجيب بعد على مسألة الجذر النظري الذي هو أساس هذا الفهم التجريبي ومبرر وجوده. وجوابنا أن هذا الجذر، يكمن في الرفض المطلق لرفاق البديل الجذري لأي استقلالية نسبية يتمتع بها البحث النظري تجاه متطلبات الممارسة العملية من جهة، وتجاه معطيات المعرفة الحسية من جهة أخرى، وبالتالي، التنطع ضد أي تمييز مابين سيرورة تكون النظرية، ومابين سيرورة تطور النظرية بعد اكتمال تكونها. فللأولى طابع التبعية المباشرة للممارسة العملية، وللثانية طابع الاستقلالية النسبية عنها، ولها بالتالي، حركتها ومستواها الخاص، وقوانينها التي تدرس في ضوئها هاته الحركة. وهذا ما يشبع، بالتالي، النهج الذي يريد البديل الجذري أن يقود الماركسيين-اللينينيين فيه، نقصد نهج التجريبية والبراغماتية والارادوية. ويستوعب بالتالي، طريق الحركة الماركسية-اللينينية كما يتصورها البديل الجذري : الاكتفاء بالاحتكاك بالواقع اليوم، لأجل جمع معطيات المعرفة التجريبية (الحسية) التي سنقوم فيما بعد بتحويلها إلى فكر نظري. وهذا هو الهدف من التنظيم لدى الشيوعيين أصلا بالنسبة اليه، هو توفير قناة لأجل تلميم المعطيات والبيانات الحسية للتجربة، لأجل الانتقال، بالتالي، حسبهم، من الملموس نحو المجرد. فلا يمكن أن تكون لدينا اليوم نظرية وانما فقط تجربة، أما النظرية، والخط الايديولوجي والسياسي، وبرنامج الثورة، فهي أشياء مؤجلة إلى حين تجاوز هاته المرحلة. حيث أن التطرق إلى هاته الأشياء خلالها (المرحلة)، ليس في أحسن الحالات سوى لغو غير مجد، أما في أسوئها فهو لغو قاتل، أو قل انه فعلا، ما دامت المرحلة هي المرحلة – مرحلة "التجريبية" ! – لغو قاتل. هذا باختصار، الطريق الذي يدعو رفاق البديل الجذري، المناضلين الثوريين اليه، وهذا الطريق، كما يتبين، لن يؤدي بالحركة الماركسية-اللينينية إلى الخروج من أزمتها، بل إلى اعادة انتاجها.
بناء الاشتراكية وصعود التحريفية، والصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي :
ضد هذا الطريق وفهم أصحابه المتسطح للفكر الماركسي وللمادية الديالكتيكية، تنتصب الضرورة الموضوعية أمام الحركة الماركسية-اللينينية المغربية لتقييم ونقد التجربة التاريخية للثورة البروليتارية العالمية، فضلا عن تقييم ونقد تجربة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية نفسها (وتجربة منظمة "إلى الأمام" بالأساس). وحيث نتحدث عن ضرورة مثل هذا التقييم فليس للتهرب من قراءة واقع الصراع الطبقي في الحاضر، عالميا واقليميا ومحليا، وانتاج الرؤية الاستراتيجية لحله تناقضاته ثوريا . بل لأن هاته القراءة تشترطه، حيث بدون استيعاب صحيح لتجربة الماضي، لا يمكن فك طلاسم الحاضر وبالتالي فتح الطريق الثوري نحو المستقبل. وما دامت هذه الضرورة الموضوعية تنتصب ضد هذا الطريق وفي استهزاء من هروب أصحابه إلى التجريبية، فان هذا الهروب نفسه ليس سوى الشكل الذي يظهر به التعاطي الخاطئ مع هاته التجربة. وأن ما يظهر كغياب لكل تقييم للتجربة، هو تقييم لها من موقعه الفكري والسياسي الخاص.
هذا ما نكتشفه أكثر، في ما يعتبره رفاق البديل الجذري، وضعا للأسس المنهجية لأجل تقييم التجربة السوفياتية، والذي هو بمثابة تطبيق، لما سبق على هاته التجربة : "ومن خلال هذا العرض المبسط، نعرج على ما يعتبر فكرا نظريا في تناول تجربة المجتمع السوفياتي سابقا والقول بأن ما آل إليه هو نتيجة التحريفية والبيروقراطية، كقول أريد إقحامه وتصنيفه في موضع "النظرية" و"النظرية الماركسية اللينينية" و"العلمية". وكأنه مجرد أن تلصق "الماركسية اللينينية "على الواجهة وتدرج التحريفية في نقد الانهيار الكبير ل"المعسكر الاشتراكي"، تكفي وتؤهل صاحبها لنيل تأشيرة الدخول إلى نادي العلمية. فبعيدا عن أي حكم غير مبرهن، نقول إن البيروقراطية والتحريفية في المجتمع السوفياتي تعد، أولا، من إفرازات البناء الفوقي للمجتمع. أي أنها نتاج ما وصلته حالة المجتمع على مستوى البنية التحتية، وليس ما آل إليه المجتمع سببا لها. لذا فنحن مطالبون بتفسير لهذا الإفراز المحسوس الذي عكسته التجربة وليس التعبير عنه في اللغة ووضعه مقام الحكم النظري. ففي الأمر خلط ما بين التعبير عن نتائج التجربة وما بين الحركة والعلاقة بين الأسباب والنتائج، أي التفسير للنتائج، وليس التعبير عنها واعتبارها نظرية، وأداة من أدوات التحليل والتفسير لما آل إليه المجتمع السوفياتي (آلت إليه التجربة السوفياتية). يقول لينين في مخطوطاته حول المنطق لدى هيغل: "التصور العادي يدرك الاختلاف والتناقض، ولكنه لا يدرك الانتقال من الواحد إلى الآخر". فالنتائج تفسر بأسبابها، أما الوقوف في حدود النتيجة وإنتاج الحكم هو انحراف عن إنتاج النظرية، عن مهمات الفكر النظري. إن الثورة هي نتاج مجموعة من التفاعلات والتحولات في عمق العلاقات الاجتماعية لطبقات المجتمع في سيرورة الصراع الطبقي. فتتحطم سيطرة طبقة أو تحالف طبقي وتصعد سيطرة طبقة أو طبقات أخرى. لهذا نقول إن الثورة هي نتاج الصراع الطبقي وليست نتاج النظرية. كذلك، لما نتحدث عن صعود التحريفية أو البيروقراطية إلى سدّة الحكم، أي إلى السيطرة، فهذا يعني أن المسألة هي نتاج تطور الصراع الطبقي داخل المجتمع. النتيجة ليست هي السبب، بالرغم من أن النتيجة تتحول إلى سبب لنتائج جديدة. وهذا ما يستلزم على الفكر النظري تلمسه للدخول لنادي العلم من بابه المشرف. وفي نفس الآن هو مفترق الطريق بين تحليل يتشبث بالديالكتيك وبين تحليل يحل نفسه من الالتزام بمبادئ العلم. فمن غير العلمي (اللاعلم) أن ندير ظهرنا لعوامل اجتماعية/طبقية واقتصادية تفعل فعلها لتحديد مسار الثورة وتستلزم الفحص والتحليل لاستيعاب النتيجة. فالقول بوصول التحريفية لسدة الحكم، هكذا، ليس بنظرية، بل هو نتيجة وموقف سياسي من القيادة الخروتشوفية. أما اعتباره نظرية فهو فهم مغلوط للنظرية ولا يصنف في قائمة التحليل العلمي. فالوقوف على الوقائع ليس بنظرية، بل عنصر من العناصر التي يعتمدها الفكر في التحليل لصياغة نظرية لضبط قانون حركة الانتقال من سبب إلى نتيجة.
وهو الأمر المطلوب من الماركسيين اللينينيين للتفصيل والتدقيق فيه، إيمانا منّا أن الاشتراكية ليست قالبا نظريا وتجريبيا قدّمت في النظرية العبقرية لقائد رمز مرة في التاريخ ولن تكون وصفة دونها، وأن من يخالف القالب يخالف التاريخ المقدس، في حين أن المجتمع لا يصنع بالفكر أو بالإرادة بل محكوم بعوامل عدة، كما الأمر في جميع الأنظمة التاريخية، تجعله قابل للتغير والتحول طبقا لشروط التاريخ.
لذا، فالمطلوب هو البحث في حوافز تاريخ الصراع الطبقي داخل المجتمع السوفياتي وتطوراته بعد الثورة وفي علاقته بالوضع الدولي، أي بالانطلاق من مقدمات تاريخية اقتصادية واجتماعية وسياسية. وبالتأكيد ستأتي مرحلة يكون لزاما وضروريا التحليل والتدقيق في مراحل أو مرحلة من التاريخ والتفصيل فيها لأخذ الموقع الأنسب والأدق لخدمة القضية التي يحملها التاريخ الى صدارة الأحداث، مثلما الأمر عندما ستكون مهمة بناء الاشتراكية ذات أولوية، فالقفز عن الجواب العلمي والدقيق لتجارب البناء الاشتراكي، ولما آلت اليه، سيصير جريمة وخيانة تاريخية، دون أن يعني الأمر أنه مطلب للتأجيل، ولا في الآن نفسه، قبول بخربشة، وإخراج إيديولوجي، مثل صعود التحريفية للحكم. فالميتافيزيقا، كطريقة للدراسة غير الديالكتيكية، هي من لا تعرف سوى المحسوس كملموس وحيد وترفض الفكر النظري والملموس."(لتعلم السباحة يجب الذهاب الى الماء – الجزء الثاني).
لن نعتذر للقارئ على طول هذا المقتطف الذي اقتبسناه من مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب الى الماء"، لأن بدونه كله لا يمكن تقديم صورة واضحة وأمينة على ما يراه الرفاق في تيار البديل الجذري بصدد تقييم انهيار التجربة السوفياتية. اذن يعتبرون أن التحريفية و البيروقراطية (وهذه الواو سنناقش حوافز وجودها هنا لاحقا) هي من افرازات البناء الفوقي للمجتمع السوفياتي، أي أنها ليست سوى نتيجة وليست سببا. أي أنها نتاج "لما آل اليه المجتمع على مستوى البنية التحتية"، أي أن صعود التحريفية هو نتاج سيرورة محددة من الصراع الطبقي صلب المجتمع السوفياتي. والقول بأن صعود التحريفية هو السبب في انهيار الاتحاد السوفياتي ليس – بنظرهم – تحليلا نظريا، بل هو نتيجة وموقف سياسي من القيادة الخروتشوفية. وانتاج نظرية تفسر هذا الانهيار، سيكون مطروحا في مرحلة لاحقة أي "عندما ستكون مهمة بناء الاشتراكية ذات أولوية"، أما الادعاء بأن صعود التحريفية للحكم هو السبب في الانهيار، فهي مجرد "خربشة" و"اخراج ايديولوجي". هذه باختصار، رؤية البديل الجذري للمسألة.
نترك في الجانب، مؤقتا، النظر في صحة هذا التحليل من عدمها لنعالج مسألة مبدئية غير قابلة للتأجيل. والتي يمكن تلخيصها في سؤال واحد هو : بأي ماء وجه يتنقد الرفاق في تيار البديل الجذري المغربي تغييب دور الصراع الطبقي في انهيار التجربة السوفياتية، وهم الذين غيبوه جملة وتفصيلا في معرض بيانهم الأول المعنون ب"بيان البديل الجذري المغربي" ؟ ويمكن للقارئ، أن يطلع بهذا الصدد، على هذا البيان. وكذا على نقدنا له المنشور في الحوار المتمدن والمعنون ب"نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك". ليتبين أن التباكي على الصراع الطبقي اليوم ليس من باب النقد الذاتي ولكن من باب استغباء المتلقي. وقد يقول قائل : أنه ليس من المفترض في البيان أن يحتوي تحليلا نظريا، بل مواقف سياسية. لكن المشكلة هنا أن بيان البديل الجذري لا يحتوي حتى المواقف السياسية التي يفترض بها التعبير عن هذا التحليل النظري. مما يوضح أن المسألة ليس مسألة الدفاع عن نظرية التحليل أو علميته، بل هي مهمة نظرنة théorisation التهرب الظاهري من تقديم تقييم علمي للتجربة السوفياتية، والذي هو التمسك الباطني بتقييم لاعلمي لها.
ولننظر، لأجل استكشاف مفاصل هذا التقييم اللاعلمي، في النقاط المنهجية التي يضعها رفاق البديل الجذري، لأجل تقييم انهيار التجربة السوفياتية. ولنبدأ بأول نقطة : البيروقراطية والتحريفية في المجتمع السوفياتي تعد، أولا، من إفرازات البناء الفوقي للمجتمع. أي أنها نتاج ما وصلته حالة المجتمع على مستوى البنية التحتية، وليس ما آل إليه المجتمع سببا لها". وفي هذه النقطة انحرافان : الأول في فهم البناء الفوقي وعلاقته بالبناء التحتي، والثاني في فهم السببية. ويتعمق الانحراف الأول بتعمق الثاني، كما أن الانحراف الثاني ينكشف أكثر فأكثر لدى تشريح الأول. فالقول بأن التحريفية هي نتيجة للبناء التحتي للمجتمع، حيث أن تناقضات هذا البناء التحتي هي السبب - بشكل يبدو به وكأن هذا كاف لنقض كون صعود التحريفية هو السبب في الانهيار – انما هو تعلق بمفهوم عتيق عن السببية، هو المفهوم الميكانيكي عنها. حيث يؤدي السبب إلى النتيجة، وهاته تصير سببا آخر، وهكذا تتسلسل العلل إلى ما لا نهاية. فالقول بأن "النتيجة تصير هي أيضا سببا آخر لنتيجة أخرى"، لا يكفي للانتقال إلى مواقع الفهم الديالكتيكي للسببية، لأن النتيجة، وفق المادية الديالكتيكية – لا تصبح هي سببا لنتيجة أخرى وحسب، بل وتوثر في سببها هي نفسه وتعيد تشكيله، فالنتيجة ليست معلولة للسبب، كما هو الحال لدى الميتافيزيقا، بل محددة به. لكن منطق التفكير الذي يعتقد بأنه باختزال التحريفية إلى نتيجة، واعتبار تناقضات البنية التحتية سببا لها، تلغى التحريفية كسبب لانهيار الاتحاد السوفياتي، انما يحتكم ضمنيا، إلى التصور الديني للسببية. كما في البرهان الشهير لابن باجة عن وجوب وجود الله، فاذ نرد المعلول إلى علة، وهاته العلة إلى علة ثانية، وهاته الثانية إلى علة ثالثة، حتى نصل إلى علة واجبة الوجود لا علة لوجودها أي الله. نرد الانهيار إلى التحريفية، ونرد التحريفية إلى تناقضات البنية التحتية للمجتمع السوفياتي، وتناقضات هاته البنية، هي بنظر رفاق البديل الجذري، هذه العلة واجبة الوجود، التي لا علة لوجودها.
هذا التصور الذي يلغي كل تأثير للبنية الفوقية على البنية التحتية، وبكلمة، ينكر دور الخط الايديولوجي والسياسي الذي يوجه الحزب الشيوعي في مرحلة الاشتراكية، والذي بامكانه – الخط – أن يفتح آفاق التقدم إلى الأمام للمجتمع، أي نحو الشيوعية. وبامكانه أيضا أن يؤدي إلى تقهرها واعادة تركيز الرأسمالية، ذلك أن تحول الحزب الشيوعي إلى حزب تحريفي، هو تحوله إلى حزب برجوازي، وتحول ديكتاتورية البروليتاريا بالتالي إلى ديكتاتورية البرجوازية ("التحريفية في السلطة تعني البرجوازية في السلطة" – ماو ). ونريد هنا أن نبدي ملاحظة هامة بخصوص نقاط رفاق البديل الجذري : ان التحريفية ليست هي البيروقراطية، و ذكر "التحريفية والبيروقراطية" هو لحاجة في نفس يعقوب، هو المماثلة ما بين فهم الماركسيين-اللينينيين لانهيار الاتحاد السوفياتي وفهم التروتسكيين له. فحين يتحدث الماركسيون-اللينينيون عن كون التحريفية السوفياتية قد أدت إلى اعادة تركيز الرأسمالية بالاتحاد السوفياتي، وتفككه فيما بعد، فهم يقصدون بوضوح القيادة التحريفية بزعامة نيكيتا خروتشوف التي صعدت لقيادة الحزب ما بعد وفاة ستالين، والتي دشن المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1956 سيطرتها على أجهزة الحزب والدولة، ويعتبرون أيضا، انطلاقا من التجربة التاريخية ومن النظرية الماركسية-اللينينية، أن المجتمع الاشتراكي هو مجتمع طبقي بطبيعته، فامكانية حدوث هذا تظل قائمة طوال مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية. أما حين يتحدث التروتسكيون عن البيروقراطية، فهم يقصدون قيادة ستالين نفسها، ويعتبرون أن جذورها التاريخية توجد في الطابع شبه الاقطاعي المختلف لروسيا فحسب، والذي أفرز ما يسميه التروتسكيون بالبيروقراطية الستالينية، حيث لم تكن هنالك اشتراكية أصلا بالاتحاد السوفياتي. ويمكن للقارئ أن يرجع بهذا الصدد إلى تأصيل تروتسكي لهاته الرؤية نظريا، في مقال بعنوان "ما هي دلالة الصراع ضد التروتسكية ؟" أو في كتابه "الثورة المغدورة – نقد التجربة الستالينية". وبالتالي فان الحديث عن "التحريفية والبيروقراطية" ليس الا محاولة يائسة لخلط الأوراق وتضليل المتلقي بايهامه بأنهما شيء واحد، وبالتالي، بأن فهم الماركسيين-اللينينيين للانهيار، وفهم التروتسكيين له، انما هما شيء واحد. لكن الحقيقة خلاف ذلك، وجوهر الاختلاف القائم ليس في المصطلحات، بل في المفاهيم النظرية. فحينما نتحدث عن التحريفية في الحزب الشيوعي، خلال مرحلة الاشتراكية، نتحدث عن خط إيديولوجي وسياسي محدد يعبر عن مصالح طبقية محددة في اعادة تركيز الرأسمالية وفرملة قطار الانتقال نحو الشيوعية، أما البيروقراطية فليس لها هذا المعنى ولا يمكن أن يكون كذلك.
ان هاته الدعوة من طرف رفاق البديل الجذري إلى تركيز الاهتمام، في تقييم التجربة السوفياتية، على ما آلت اليه البنية التحتية، لأن ما هو من البنية الفوقية – كالتحريفية "و البيروقراطية – ليس سوى نتاج لها، ليست – الدعوة – جديدة يبتكرها البديل الجذري، بل يوجد سابق لها، في منطقها الميكانيكي نفسه، في أعمال منصور حكمت مثلا، والتي شكلت أفكاره – المعروفة لاحقا باسم "الشيوعية العمالية" – احدى أخطر تلوينات التروتسكية وأشدها ضررا بالحركة الماركسية-اللينينية الايرانية، والتي ظهرت في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ولها امتدادات أيضا، في العراق وكردستان وفرنسا. ليس غرضنا الآن أن ننقد مجمل خط "الشيوعية العمالية" أو أطروحات منصور حكمت وآراءه - التي عرفت فيما بعد تشعب تيارات الشيوعية العمالية نفسها، بالحكمتية Hekmatisme، ولذلك يسمى الحزب الذي يتبنى هذا الخط في ايران بالحزب الشيوعي العمالي الايراني (الحكمتي) – فالحديث فيها يطول. ولكن نريد أن نعرض لجزء من هاته الأطروحات هي المتعقلة بتقييم التجربة السوفياتية. والمقدمة بالأساس في دراسة منصور حكمت المعنونة ب"تجربة ثورة العمال في الاتحاد السوفياتي : خطوط عامة لنقد اشتراكي"(1986). والتي يحلل فيها حكمت ما آل اليه الاتحاد السوفياتي، وما يراه هو تفسيرا لهذا المآل، بل ومبدأ التفسير نفسه عنده(18).
يعتبر حكمت أنه يجب أن نميز في تقييم التجربة السوفياتية بين نوعين من النقد : فالنقد الذي يتناول البنية الفوقية هو نقد ديمقراطي، بينما النقد الذي يتناول البنية التحتية هو نقد اشتراكي. وهدفه النظري هو تجاوز حدود النقد الديمقراطي وتسليط نقد اشتراكي على التجربة السوفياتية، اذ يقول في المحور الثاني بعنوان : "نقد ديمقراطي أم اشتراكي ؟" : ننوي، بعرضنا الاطروحات الراهنة، تقديم نقد اشتراكي للتجربة السوفيتية. اؤكد على كلمة اشتراكي طالما ان مجمل اشكال النقد السابقة لم تكن، كما اعتقد، في اغلب اقسامها اشتراكية، بل انها وفي جوهرها لاتتعدى ان تكون نقداً ديمقراطياً تم عرضه بطرق مختلفة ولكن باشكال راديكالية. هناك العديد من القضايا التي تمثل الاساس التحليلي لاشكال النقد هذه مثل: احراف الحزب، النظرات الفكرية والايديولوجية الخاطئة، ضعف الحزب، تركيبة الدولة بعد الثورة وتعامل الحكومة السوفيتية مع القضايا الدولية وغيرها. ولكن ماهو ملح ان نفهم ان حتى اكثر اشكال النقد الديمقراطي راديكالية ليست فقط عاجزة عن ايجاد اجوبة على اكثر المعضلات جدلاً في المناقشات حول التجربة السوفيتية الاوهي لماذا لم يٌبنى المجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي؟ لماذا لم يتم بناء الاقتصاد والعلاقات الانتاجية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي؟ (...)ن المسالة المحورية في النقد الاشتراكي هي كيف تطور الاقتصاد الاشتراكي بعد الثورة. وتمثل هذه المسألة جوهر الماركسية؛ كما يمثل نبذها، بالنسبة لنا، نظرة غير ماركسية. ويعادل رفض مسألة التحويل الاقتصادي للمجتمع بعد الثورة، كمسألة يستوجب دراستها وتقييمها على ضوء علاقتها بالتجربة السوفيتية، اهمال القضية او التنكر لها تماماً. لماذا؟ أولاً: ان الثورة الاشتراكية هي، اساساً، ثورة اقتصادية، وعلى هذا الاساس فقط يمكن ان تكون ثورة إجتماعية." ثم يواصل، عارضا الأساس المنهجي لما يسميه النقد الاشتراكي للتجربة السوفياتي : "أود ان أضيف ان لنا اختلافات منهجية جدية مع تلك النظرات التي تبدأ، عند دراستها للتجربة السوفيتية، من ظهور البيروقراطية، التفسخ السياسي والنظري للحزب وبعض المشاهدات الاخرى المتعلقة بتطور البنى الفوقية للمجتمع والثورة. وفق رؤيتنا، تعد تلك المعضلات والمشاهدات نتاج توقف الثورة الروسية وتفسخها وليست أسباباً لهاً. ان هذه المشاهدات هي جزء من الواقع الذي يجب تفسيره وليست اداة تحليله. ويعادل تفسير هزيمة الثورة بهذه النتائج تفسير النتائج بالنتائج. كما انها لاتماثل سوى محاولة تعليل المرض باعراضه وآثاره."
في المقتطف الأخير قد يشعر القارئ وكأن البديل الجذري هو الذي يتحدث. في حين أنه نحن شعرنا فعلا، لدى قراءة ذاك الجزء من مقال البديل الجذري، أن منصور حكمت هو الذي يتحدث. لأن ما يشاطره البديل الجذري مع خط "الشيوعية العمالية" بهذا الصدد، هو الفهم الميكانيكي للسببية من جهة، وبالتالي اعتباراعتماد ما ينتمي للبنية الفوقية كمبدأ للتفسير، مجرد محاولة يائسة لتفسير النتائج بالنتائج. ثم الفهم الميكانيكي والخاطئ، لجدلية البنية الفوقية والبنية التحتية، اذ يعتبر ما يحدث في البنية الفوقية، مجرد انعكاس سلبي، لتطورات البنية التحتية عليها، وكأن العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية هي علاقة سببية ميكانيكية، وليست علاقة تحديد تحدد فيها الأولى الثانية، وتتحدد فيها الثانية بالأولى. فضلا، على أن هذا الفهم يغفل مسألة أساسية، هي أن البنية التحتية ليس شيئا غير التناقض الذي يؤطرها، ونعني به التناقض الأساسي. أي بين قوى الانتاج وعلاقاته. وأن البنية الفوقية ليست، كذلك، شيئا غير التناقض الذي يؤطرها بدورها، ونقصد به التناقض الرئيسي، أي التناقض بين التحالف الطبقي المسيطر والتحالف الطبقي الخاضع لسيطرة التحالف الطبقي المسيطر، والذي يستوي على مستويين : السياسي والايديولوجي. فحين نتحدث اذن، عن كون البنية التحتية تحدد البنية الفوقية، فاننا نعني بذلك أن التناقض الأساسي، وهو الاطار البنيوي لتطور مجمل البنية الاجتماعية، يحدد التناقض الرئيسي، لكن بحثنا للتناقض الأساسي، حتى في الاشتراكية، يكون في بحثنا في التناقض الرئيسي، وذلك لسبب جوهري : هو أنه لا حضور للتناقض الأساسي، الا في التناقض الرئيسي، الذي هو العامل المسيطر في تطور البنية الاجتماعية، وبالتالي فان حل التناقض الأساسي – الاقتصادي – نفسه، لا يتم على المستوى الاقتصادي، بل على المستوى السياسي، أي في حل التناقض الرئيسي. وبالتالي فهذا التناقض نفسه – الرئيسي – هو الذي يحدد للمجتمع الاشتراكي امكانيات التقدم نحو الشيوعية، أو التقهقر والنكوص نحو الرأسمالية.
لكن التوجيه المنهجي الذي يقدمه رفاق البديل الجذري، لدى تقييم التجربة السوفياتية، يزداد كارثية عند ربطه بالصراع الطبقي، أي حين يتحدثون عن كون صعود التحريفية إلى قيادة الاتحاد السوفياتي، "نتيجة" لسيرورة من الصراع الطبقي. المشكل ليس في هذا القول، مبدئيا، بحد ذاته. بل في المحتوى الذي يعطيه أنصار البديل الجذري للصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي. فالحديث عن وصول التحريفية إلى السلطة من جهة، وعن الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي من جهة أخرى، واعتبار أن هذا الوصول هو نتيجة لهذا الصراع، يطرح فعلا تساؤلات جدية. عن المستويات التي يستوي عليها الصراع الطبقي، فالقول بأن وصول التحريفية إلى السلطة، هو نتيجة للصراع الطبقي، وفي الوقت نفس القول بأن هذا الوصول هو من عناصر البنية الفوقية للمجتمع، وهو نتيجة لما آل اليه المجتمع على مستوى البنية التحتية، فهذا يعني، مباشرة، أن الصراع الطبقي يستوي على البنية التحتية وحسب، وكأنه يستوي على المستوى الاقتصادي فحسب. ولنوضح الخطأ أكثر قبل أن نوضح أسبابه : يقول الرفاق في تيار البديل الجذري، أنه لا يمكن أن نقول بأن وصول التحريفية إلى الحكم هو سبب انهيار الاتحاد السوفياتي، لأن هذا العامل ينتمي إلى البنية الفوقية للمجتمع السوفياتي (وحين نتحدث عن البنية الفوقية، نتحدث عن المستويين السياسي والايديولوجي)، يجب تفسيره بما آل اليه المجتمع السوفياتي في بنيته التحتية (وحيث نتحدث عن البنية التحتية نتحدث عن المستوى الاقتصادي). لكنهم في الوقت نفسه يقولون بأن وصول التحريفية إلى الحكم هو نتاج لتطور الصراع الطبقي داخل المجتمع. وهذا يؤدي عمليا، إلى حشر الصراع الطبقي في زاوية ضيقة، هي المستوى الاقتصادي وحده، أو، في أحسن الحالات، اعتبار تحرك الصراع الطبقي على المستويين السياسي والايديولوجي، مجرد نتيجة لتحركه على المستوى الاقتصادي. ولهذا الخلط النظري – ان لم نقل، وهو الأقرب للصحة، هذه السلطة النظرية salade théorique – جذره النظري لدى رفاق البديل الجذري، والذي فتح الامكانية عندهم، لاجتياف سلس للأطروحات الحكمتية حول التجربة السوفياتية.
وهذا الجذر يكمن ببساطة في عدم التمييز بين التناقض الاقتصادي، ونعني به التناقض الأساسي بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج، وبين الشكل الاقتصادي للتناقض الرئيسي، أي للصراع الطبقي. حيث نتحدث عن كون البنية الفوقية تحددها البنية التحتية، فاننا نقصد كون التناقض الأساسي، يحدد التناقض الرئيسي (الذي يتحرك على مستويات ثلاثة : الاقتصادي والسياسي والايديولوجي). وليس هذا معناه – كما يتوهم رفاق البديل الجذري – أن الشكل الاقتصادي لتحرك التناقض الرئيسي هو الذي يحدد شكليه الآخرين : السياسي والايديولوجي. ولا يعني أيضا، أن جوهر التناقض الرئيسي اقتصادي، بل هو جوهر سياسي. وحين يتحرك التناقض الرئيسي على المستوى الاقتصادي، فهذا لا يعني أن التناقض الرئيسي هبط من المستوى السياسي إلى المستوى الاقتصادي، بل هو يعني، أن المظهر الرئيسي للتناقض الرئيسي صار هو المظهر الاقتصادي، أي أن التناقض السياسي صار المظهر الاقتصادي هو مظهره الرئيسي son aspect principal. وصار المظهران الآخران (السياسي والايديولوجي) بالنسبة للمظهر الاقتصادي مظاهر ثانوية aspects secondaires. ولا يعني وجود المظهر الاقتصادي أو الايديولوجي كمظهر رئيسي للتناقض الرئيسي، انتفاء الممارسة السياسية. بالعكس من ذلك، انه يدل على سيطرة ممارسة سياسية محددة هي ممارسة البرجوازية، والتي من مصلحتها الابقاء على الصراع الطبقي في أشكاله الاقتصادية والايديولوجية. لا نريد مزيدا من الخوض في تفاصيل هذا التحليل وتشعباته(19). وخلاصة ما يهمنا راهنا، في هذه المساهمة، هو أنه يجب التمييز بدقة، مابين التناقض الاقتصادي الأساسي (مابين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج) والتناقض السياسي الرئيسي (الصراع الطبقي)، حيث أن علاقة التحديد هي قائمة بين التناقضين (حيث يحدد الأساسي الرئيسي) ، لا بين شكل من التناقض الرئيسي وشكلين آخرين منه، فضلا، على أن التناقض الرئيسي لا يمكن له أن يكون تناقضا اقتصاديا بطبيعته، أو يستوي فقط على المستوى الاقتصادي للبنية الاجتماعية.
ما الذي يعنيه هذا بالنسبة للمجتمع السوفياتي، كمجتمع اشتراكي ؟ ان الاشتراكية كنمط انتاج، محدد تاريخيا وموضوعيا، لها أيضا تناقضها الأساسي الذي يؤطر وجودها وتطورها، وحل هذا التناقض بصفة مستمرة، عبر التثوير الدائم لعلاقات الانتاج، هو الذي يؤدي إلى الانتقال إلى الشيوعية. لكن هذا التناقض كتناقض اقتصادي، ينعكس في تناقض سياسي هو التناقض الرئيسي. لذلك فان الصراع الطبقي ما بين البرجوازية والبروليتاريا في ظل الاشتراكية، والطموح المتجدد للبرجوازية لأجل العودة إلى موقع السيطرة الطبقية، إلى جانب طموح البروليتاريا لاحباط محاولات البرجوازية، والتقدم بخطى حثيثة نحو المجتمع اللاطبقي (الشيوعية)، انما هو جزء من التناقض الرئيسي والتعبير عنه (ونقول أنه جزء منه، لأن كل طبقة توجد في تحالفات طبقية محددة للوصول إلى هدفها). ان المنحى الذي يتخذه حل التناقض الرئيسي، أي الصراع الطبقي، هو الذي يحدد للمجتمع الاشتراكي مسار تطوره، فاما أن يتطور نحو المجتمع الشيوعي (ولا نقول أنه سيصير مجتمعا شيوعيا، لأن بلوغ الاشتراكية على النطاق العالمي هو شرط ضروري للانتقال نحو المرحلة التالية، الشيوعية)، واما أن يرتد ويتم اعادة تركيز الرأسمالية. فبالتالي فان الادعاء لدى رفاق البديل الجذري بأن وصول التحريفية إلى السلطة (وهي تعبير عن الحل الثاني الذي اتخذه التناقض الرئيسي) نتاج لما آل اليه المجتمع على مستوى البنية التحتية، هو فهم مقلوب لعلاقة تناقضات البنية الاجتماعية ببعضها البعض، لأن فهم ينكر كون التناقض الأساسي ينحل عبر حل التناقض الرئيسي، حيث أن الصراع الطبقي هو الذي يحدد للتناقض الأساسي مسارات تطوره.
ان هذا الصراع الطبقي صلب المجتمع الاشتراكي نفسه، كمجتمع طبقي. يتم على مستويات ثلاثة : الاقتصادي والسياسي والايديولوجي. حيث أن الحزب الشيوعي، الذي هو أداة البروليتاريا لممارسة هذا الصراع عبر ديكتاتورية البروليتاريا، هو أيضا حقل لهذا الصراع على المستويين السياسي والايديولوجي، ورئيسيا على المستوى السياسي. فنضال ستالين مثلا ما بعد 1924 ضد أطروحات بوخارين التي ترى أنه لا يمكن أن تبنى الاشتراكية الا بفسح المجال للفلاحين للاغتناء، وتطوير القوى المنتجة دون تثوير علاقات الانتاج (نظرية قوى الانتاج لبوخارين)، وكذلك نضاله ضد أطروحات تروتسكي التي كانت أنه لا يمكن بناء الاشتراكية في روسيا نظرا لأن الثورة لم تنجح في أوروبا الغربية وغيرها من النضالات الإيديولوجية والسياسية التي تصدى لها ستالين طوال ثلاثين سنة من تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، هذه النضالات لم تكن صراعات بين أفراد، كما يدعي البعض، ولم تكن مجرد خلاف في الأفكار ليس له أي أساس مادي. بل كانت ممارسة لصراع طبقي عنيف، من طرف البروليتاريا، لأجل بناء الاشتراكية والتقدم نحو الشيوعية، ضد البرجوازية (وحلفائها) التي تحاول بجميع الطرق عرقلة هذا المسار واعادة تركيز الرأسمالية. لذلك فانه حتى الأعمال الارهابية والاغتيالات التي كان يقوم بها التروتسكيون وغيرهم في الاتحاد السوفياتي، ومحاولات قلب ديكتاتورية البروليتاريا، فانها كانت ممارسة لصراع طبقي ضد البروليتاريا. كما أن الاعتقالات التي وجهتها الدولة السوفياتية ضد هاته هؤلاء، ومحاكمتهم واعدام قسم منهم، كانت اعتقالات سياسية، ومحاكمات سياسية، واعدامات سياسية. أي ممارسة للصراع الطبقي من طرف البروليتاريا ضد أعدائها الطبقيين، والا صار تبنينا لشعار "الاعتقال السياسي قضية طبقية" مجرد تبن شكلي وخاو من المحتوى العلمي. وبالتالي، فان الانقلاب العسكري لخروتشوف سنة 1956، والذي دشن وصول التحريفية لقيادة الاتحاد السوفياتي، كان هو أيضا ممارسة للصراع الطبقي ضد البروليتاريا. وهذا الصراع لم ينته مع هذا الحدث، بالعكس، فقد استمر، ان حملة الهجومات على ستالين وعلى عملية البناء الاشتراكي في عهده – والمجسدة بالأساس، في التقرير السري لخروتشوف - والمصحوبة بادعاءات "التطوير الخلاق للماركسية-اللينينية" و"إسهامات الرفيق خروتشوف" كانت ممارسة هي أخرى للصراع الطبقي في شكله الايديولوجي، تخدم الممارسة السياسية للصراع الطبقي، أي طموح التحريفية الخروتشوفية نحو السيطرة الكاملة على أجهزة الدولة والحزب، لأجل اعادة تركيز الرأسمالية. والمثال على ذلك هو الطرد الجماعي للماركسيين-اللينينيين من الحزب الشيوعي السوفياتي، وأجهزة الدولة السوفياتية ابتداء من 1957، والمقدم تحت يافطة "اجتتاث الستالينية De-stalinization"، والقمع الشرس الذي تعرضت له الشعوب السوفياتية اثر خروجها للاحتجاج ضد هذه التحولات الرجعية. كما أن هذا الصراع الطبقي، استمر على المستوى العالمي أيضا، في النضالات الإيديولوجية والسياسية التي خاضتها الحركة الماركسية-اللينينية العالمية ضد التحريفية السوفياتية (ومشتقاتها مثل التيتوية والأوروشيوعية، ما سمي اختصارا آنذاك بالتحريفية المعاصرة) وممارستها لأجل اعادة تركيز الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي وعرقلة الثورة العالمية.
من البين أن الموضوع أكبر بكثير من هاته الاضاءة الموجزة، حيث أن تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، في منجزاتها وأخطائها، نعني في دروسها، تحتاج إلى درس متأن وتقييم عميق. ونعلم أن هنالك جزءا من هذه الدروس، قد استوعبتها الحركة الماركسية-اللينينية العالمية في مرحلة النضال ضد التحريفية السوفياتية، وهنالك بعض الدروس التي لم تستوعبها، والتي يجب أن نستوعبها نحن اليوم من تجربة الحركة الشيوعية العالمية في مجملها، أي في تقييم يتضمن حتى نظرية وممارسة الحركة الماركسية-اللينينية العالمية (وبالأساس الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ، وحزب العمل الألباني بقيادة أنور خوجا) نفسها وتناقضاتها ومآلها فيما بعد. لكن عرضنا هاته الاضاءة لنبين، أن ما يفعله رفاق البديل الجذري من اختزال وصول التحريفية إلى قيادة الاتحاد السوفياتي في مجرد "نتيجة" لتطور الصراع الطبقي صلب المجتمع السوفياتي، واعتبار هذا بالتالي، يعفي من تحديد التحريفية بما هي السبب الرئيسي للانهيار، انما هو اختزال لاعلمي يكشف عن جهل أصحابه بالعلاقات البينية التي تربط التناقضات بعضها البعض في اطار البنية الاجتماعية. كما أن اختزالها في كونها نتاجا للبنية الفوقية، والتي هي نتاج للبنية التحتية، هو حشر للصراع الطبقي في الزاوية الضيقة للمستوى الاقتصادي، كما أنه، وهذا أسوأ ما في الأمر، حصر للوجود المادي للطبقات الاجتماعية، أي وجودها الاجتماعي، في وجودها الاقتصادي. بينما هذا الوجود يتخطى بكثير الاقتصادي، ويفعل فعله فيه. مثل هذا الفهم المتقدم الذي تعطيه الماركسية-اللينينية للطبقات والصراع الطبقي، أكبر من أن يستوعبه للاطار النظري للبديل الجذري والحكمتية على السواء.
وبالتالي فان تحليل انهيار الاتحاد السوفياتي الذي يعتبر رفاق البديل الجذري أنه لا يمكن تصنيفه في خانة التحليل العلمي، ولا يدخل صاحبه إلى "نادي العلمية" - وكأن الغرض من تحليل التجربة هو فقط اثباث الذات و"الدخول إلى نادي العلمية"، وليس الاستفادة منها في بناء وتطوير الحركة الثورية عالميا وعربيا ومغربيا اليوم، ولو تخلى رفاق البديل الجذري ولو قليلا، عن القراءة التآمرية للصراع الايديولوجي، والتحليلنفسية psychanalytique للنقد وللاجتهاد النظري، لحددوا عدم علمية هذا التحليل على ضوء خدمته لقضية الثورة البروليتارية، لا خدمته لنزوات "صاحبه" – قلنا ان هذا التحليل الذي يعتبره رفاق البديل الجذري لاعلميا، فهذا على ضوء علمية التحليل التي تحدد عندهم، من جهة، في اقتصادويته. والذي تلقي بظلها، من جهة أخرى، في رفضهم الاعتراف بأي قطيعة توجد مابين حقبة ستالين وما بعدها، والذي يسهل، بالتالي، التنكر لانجازات هاته الحقبة وللتراث النظري الذي أفرزته فيما يتعلق بالقوانين التي تحكم سيرورة البناء الاشتراكي، لكن هنالك ما هو أعمق من ذلك وأخطر.
ولأجل استخراج هذا الأعمق ونقده، نتساءل : هل التساؤل عن سبب انهيار الاتحاد السوفياتي، هو نفسه التساؤل عن سبب انهيار الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، هو نفسه التساؤل عن سبب صعود التحريفية إلى قيادة الاتحاد السوفياتي ؟ يظهر أن الفرق بين التساؤلات الثلاث بين. فحينما نطرح السؤال : "لماذا لم يظل الاتحاد السوفياتي بلدا اشتراكيا ؟" يختلف عن طرح السؤال : "لماذا انهار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 ؟" ويختلف عن طرح السؤال : "لماذا وصلت التحريفية إلى قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1956 ؟". ان عدم الوعي بهذه الفروق يؤدي، موضوعيا، إلى الوقوف على خط تحريفي مائة بالمائة. ولنلاحظ أن كل توليفة combinaision تخلط مابين سؤالين تؤدي إلى الاقرار بسخافة. فاعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، هو نفسه انهيار الاشتراكية بالاتحاد السوفياتي، تؤدي إلى القول بأن الاشتراكية هي التي انهارت سنة 1991، مما ينم عن مشكل بنيوي فيها، وهذا سيقود إلى التخلي عن الاشتراكية والماركسية-اللينينية بصورة عامة، كما وقع لشيوخ تجميع / تشتيت "اليسار الجديد" في التسعينيات. كما أن اعتبار انهيار الاشتراكية بالاتحاد السوفياتي هو نفسه وصول التحريفية إلى السلطة، فيؤدي إلى القول بأن المجتمع الاشتراكي السوفياتي توقف عن كونه مجتمعا اشتراكيا، بسرعة البرق، بين ليلة وضحاها، لدى الانقلاب التحريفي في 1956، وهذا منطق كثير من وجهات النظر الدوغمائية، التي لا ترى هي أيضا، الاستقلالية النسبية كشكل للعلاقة ما بين المستوى الاقتصادي والمستوى السياسي. أما اعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي هو نفسه انهيار الاشتراكية بالاتحاد السوفياتي، هو نفسه وصول التحريفية إلى قيادة الاتحاد السوفياتي، فيؤدي إلى هذا الحساء الانتقائي الذي عبره يرفض اعتبار التحريفية هي المسؤولة عن اعادة تركيز الرأسمالية، تحت يافطة كون صعود التحريفية للسلطة مجرد تعبير عن "الصراع الطبقي" و"ما يحدث في البنية التحتية"، وكأننا حين نتساءل عن سبب اعادة تركيز الرأسمالية، فهو نفس تساؤلنا عن سبب بلوغ التحريفية لقيادة الحزب. لأن البديل الجذري يطرح مشكلة الاتحاد السوفياتي طرحا لاهوتيا، وفي أحسن الحالات، محصورا ضمن نطاق المنطق الصوري الأرسطي : لماذا انهار الاتحاد السوفياتي ؟ لأن التحريفية بلغت السلطة. ولماذا بلغت التحريفية السلطة ؟ لأن أسباب وجودها تكمن في البنية التحتية. وبقانون التعدي : انهار الاتحاد السوفياتي لأسباب توجد في البنية التحتية، عندما كان لا يزال اشتراكيا، أو أنه لم يكن اشتراكيا منذ البدء. وهكذا يقود منطق العلة واجبة الوجود، التي لا علة لوجودها، إلى تحميل المسؤولية في انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى الشيوعيين السوفيات أنفسهم، وبالتالي إلى لينين وستالين، أو قل، توخيا للدقة ودفعا للمظلمة، إلى ستالين(20).
وأما التبرير الفلسفي الذي على قاعدته يسوغون هذا التحميل، فضلا على قصة السبب والنتيجة، فلعله أنسب تجسيد للمثل القائل : "رب عذر أقبح من زلة"، وهو أن اعتبار صعود التحريفية للحكم هو السبب في انهيار الاتحاد السوفياتي – ونغض هنا الطرف، كما فعلا طوال التحليل السابق، على عدم التمييز بين انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار الاشتراكية – هو اعتراف ب"الملموس المحسوس" كملموس وحيد ورفض للفكر النظري والملموس. وها قد تحول رفاق البديل الجذري، في لحظة، وبقدرة قادر، إلى ما يشبه نقد التجريبية والدفاع عن الفكر النظري ! نريد فقط أن نعرف منهم، عما اذا كان وصول التحريفية السوفياتية إلى قيادة الحزب الشيوعي، واقعا "محسوسا" يمكن أن يدركه أي كان، أم هو ملموس يتم اعادة بنائه ذهنيا من طرف الفكر النظري ؟ هل في تنصيب نيكيتا خروتشوف على قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي، وتلاوة هذا الأخير لتقريره السري في المؤتمر العشرين سنة 1956، وبيع الجرارات إلى الكلخوزات، مثلا، ما يدرك بالحواس وحدها، على كونه صعودا لخط تحريفي إلى قيادة الحزب الشيوعي ؟ ان تحديد كل هذا بأنه صعود للتحريفية، لا يتم بالحواس وحدها، ولكن انطلاقا من الفكر النظري. فصعود التحريفية إلى قيادة الحزب لا يدخل في نطاق "الملموس المحسوس" بتعبير رفاق البديل الجذري، بل في نطاق الملموس المعاد تركيبه في الفكر، أي، بتعبيرهم الهزلي نفسه "الملموس المجرد". والا، ما حدث انقسام بين الحركة الماركسية-اللينينية العالمية من جهة، ومابين الأحزاب والتنظيمات الدائرة في فلك التحريفية السوفياتية، من جهة أخرى. اذ أن هاته الأحزاب والتنظيمات، اعتبرت الحزب الشيوعي السوفياتي لا يزال ماركسيا-لينينيا من حيث الخط، وأن عملية "اجثتاث الستالينية" هي سياسة صحيحة، كما أن الاتحاد السوفياتي لا يزال "قاعدة الثورة العالمية". وكان لهذا الفهم النظري الخاطئ، نتائج كارثية. اذن انكار هذه الأحزاب والتنظيمات الدائرة حول قطب التحريفيين السوفيات وفي فلك التحريفية المعاصرة بصورة عامة، لصعود التحريفية إلى قيادة الاتحاد السوفياتي لم يكن انكارا لأحداث، أو لوقائع حسية، بل انكارا لتناقضات موضوعية تحكمها، أي انكارا لطبيعة هذه الأحداث من حيث الجوهر. بل ان الحركة الماركسية-اللينينية العالمية نفسها، لم تتعرف على هذا الجوهر بمجرد ما ظهر منه كمظهر. فمعرفة الطابع التحريفي للقيادة الجديدة للاتحاد السوفياتي، قد تشربها الماركسيون-اللينينيون في العالم بالتدريج، وانطلاقا من تحليل نظري لممارسة هذه القيادة وخطها. فتصنيف صعود التحريفية إلى حكم الاتحاد السوفياتي، في خانة "الملموس المحسوس" لهو تعبير عن خلل في فهم المادية الديالكتيكية وتطبيقها، بشكل مرض عضال لا يرجى منه شفاء. ان الطريق الذي يجر اليه البديل الجذري المناضلين الثوريين هو، عمليا، طريق التنكر للتجربة السوفياتية واستعدائها من جهة، ثم وضع مهمة تقييمها العلمي جانبا، من جهة أخرى. وهنا يجب أن نتطرق إلى نقطة أخرى في تحليل رفاق البديل الجذري، وهي عن نقدهم ل"قالب الاشتراكية": يقول كاتبو مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، في الجزء الثاني، ضمن نفس المقتطف السابق :"...إيمانا منّا أن الاشتراكية ليست قالبا نظريا وتجريبيا قدّمت في النظرية العبقرية لقائد رمز مرة في التاريخ ولن تكون وصفة دونها، وأن من يخالف القالب يخالف التاريخ المقدس، في حين أن المجتمع لا يصنع بالفكر أو بالإرادة بل محكوم بعوامل عدة، كما الأمر في جميع الأنظمة التاريخية، تجعله قابل للتغير والتحول طبقا لشروط التاريخ".
في هذا المقطع يضع رفاق البديل الجذري أمامهم هدفا سهلا كي يهون عليهم مهاجمته، والمرور عبره إلى ما وراء ذلك. فاذا كان الرفاق يؤمنون أن الاشتراكية ليست قالبا نظريا وتجريبيا، فانه من المفرح اخبارهم أن لا أحد من الماركسيين-اللينينيين يقول أن الاشتراكية قالب نظري وتجريبي، اللهم ان كانوا يريدون الصاق هذا القول بأحدهم لأجل نقده على أساسه، فهذا شأن آخر. وأما عن "النظرية العبقرية لقائد رمز"، التي تستعمل لأجل السخرية، اما من القائد واما من نظريته، فانه نعتقد أنه يجب توضيح بعض الأمور : فالقول بأن العملية الثورية – في الثورة والبناء الاشتراكي معا – لا نموذج لها، وهذا صحيح في مبدئه. لكن هذا لا يلغي، أن هذا العملية لها قوانينها الموضوعية التي يجب الاحتكام اليها، في أي تجربة، ولا تختلف هاته القوانين الا من حيث شكل تجليها لا من حيث محتواها. وأن اكتشاف هذه القوانين، هو أيضا من مهمات الفكر العلمي. وحينما نتحدث عن مؤلفات ستالين مثلا، المكرسة لهذا الموضوع، مثل كتاب "القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفياتي"(1952)، فنحن نتحدث عن ممارسة نظرية لأجل اكتشاف قوانين تطور نمط الانتاج الاشتراكي، بشكل عام، وليس لضبط تجليها في الواقع السوفياتي وحسب، حتى وان كان هذا الاكتشاف على قاعدة الممارسة العملية لبناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، وحتى وان شابه – لارتباطه بالضرورة، بممارسة ملموسة – أخطاء أو انطوى على منزلقات. لأن تقييم التجربة في ما قدمته للماركسية-اللينينية من فتوحات معرفية، يكون عبر استخلاص دروسها واستيعابها بشكل جدلي. فلا يمكن أن ننطلق من الصفر، فحين نتحدث عن القانون الاقتصادي الأساسي للاشتراكية، وقانون التطور المتوازي للاقتصاد الاشتراكي، وغيرها من قوانين اكتشفها ستالين واستدمجها بشكل علمي في صرح اللينينية، فنحن نتحدث عن قوانين يتم اكتشافها، لا صنعها أو اختلاقها، وكذلك هو الأمر حينما نتحدث عن بناء الاشتراكية في الصين أو ألبانيا وغيرها، الماركسيون-اللينينيون لا يؤمنون بالقوالب، بل يحتكمون إلى القوانين الموضوعية، وكذلك فانهم لا ينكرون القوانين تحت يافطة النضال ضد القوالب.
ان وضع رفض القوالب في المقدمة، لأجل انكار القوانين الموضوعية فيما بعد، تبثث خطورته وفعاليته كسلاح نظري بيد التحريفية عبر التاريخ. فالأوروشيوعيون في ايطاليا، وبالميرو تولياتي على رأسهم، اعتبروا هم أيضا أن ما يدعون اليه هو "الطريق الايطالي للاشتراكية"، كما أن زمرة تيتو قبلهم، اعتبرت أن "نظام التسيير الذاتي للوحدات" الذي نظروا له وطبقوه، انما هو "طريق يوغسلافي إلى الاشتراكية". بل واعتبرت التنظيمات القومية في سوريا ومصر مثلا، أن خطها هو خط "الطريق العربي إلى الاشتراكية"، وهنالك من تخطى ذلك بكثير، مثل عصمت سيف الدولة في كتابه "نظرية الثورة العربية" ليقول أن هنالك لا طريق عربي إلى الاشتراكية وحسب، بل "اشتراكية عربية" من حيث الشكل والمضمون !
خلاصة : خيارنا المصيري، حياة أو موت، بين طريق اللينينية وطريق الغيفارية :
لكن هذا النقد للقالب أو النموذج، سرعان ما يتحول فيما بعد، إلى نمذجة للنقد نفسه. أي إلى رفع ما اعتبر في البداية اجابة على "الشروط الملموسة" و"متطلبات الممارسة العملية"، ضد كل نموذج، إلى مرتبة النموذج الذي يجب أن يتبعه الجميع. هذا ما اختبر تاريخيا في تجربة حركة التحرر الوطني الكوبية، حيث اعتبر كاسترو السمات العامة للانتفاضة الشعبية في كوبا سنة 1959 – غياب حزب ثوري، اعتماد العمليات المسلحة على الميليشات المعزولة في ما سمي بنظرية "البؤر الثورية" (الفوكو)، ضعف تعبئة الفلاحين والغياب العام للتعبئة السياسية – بمثابة طريق كوبي نحو الاشتراكية، يعكس السمات الخاصة لكوبا، قد اعتبر فيما بعد، طريق الثورة الوحيد ونموذجها حيث على جميع شعوب أمريكا اللاتينية أن تتبعه. هذا ما نظر له بصفة نظامية في عمل ريجيس دوبريه الذي استقدمه غيفارا وكاسترو سنة 1965 لكتابته، وهو "ثورة داخل الثورة Révolution Dans La Révolution"، والذي يلخص خط الغيفارية ويشرح أطروحاته الأساسية، وقد كان هذا التلخيص، تعبيرا عما يمكن أن نسميه الانتقال من نقد النموذج إلى نمذجة النقد.
لن نغوص الآن في الشروط التاريخية التي أفرزت مثل هذا النهج في كوبا، في ارتباطه بالنضال العالمي ضد الامبريالية والتحريفية السوفياتية، ولا التفصيل في أطروحات كتاب "ثورة داخل الثورة" ومحاججته، وحسبنا أن ننقد بعض الأفكار الجوهرية والمرتبطة ببحثنا هذا، وجدالنا النظري مع تيار "البديل الجذري المغربي". من البين أن للغيفارية العديد من السمات الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية والعسكرية، لكن ساد اعتقاد خاطئ في صفوف قسم كبير من المناضلين، لردح طويل من الزمن، أن الغيفارية مجرد مذهب عسكري، أو هي مجرد تكتيكات عسكرية كانت – أو لم تكن - ملائمة لوضع كوبا آنذاك، لذلك حجب هذا الاختزال المغلوط، الطبيعة الإيديولوجية للغيفارية كخط تحريفي، وطبيعة استراتيجيتها السياسية كاستراتيجية اصلاحية، وان اعتمدت على العمل المسلح، بل خاصة حين تعتمد عليه، وليس خطها العسكري الا مشتقا من الخطين السابقين. هذا يعني أن دراسة الأفكار الغيفارية والكاسترية المعروضة في "ثورة داخل الثورة" يجب أن ينطلق من جذورها الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية، وخارج ذلك، لا يمكن دراسة خطها العسكري. هذا ما تغفله مرارا، على سبيل المثال، أشباه المساهمات النظرية في تقييم تجربة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية في السبعينيات، مثل كتاب عبد القادر الشاوي "اليسار في المغرب : تجربة الحلم والغبار"، الذي يعتبر أن الحملم قد تأثرت بنظرية الفوكو، وهو ما يختزل عمليا، الفوكو نفسها في خط عسكري، لكن دراسة الخط الماركسي-اللينيني لمنظمة "إلى الأمام" مثلا، في أوجهه الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية، هو ما يمكن من فهم خطها العسكري، الذي لا يمكن أن يكون، تبعا لذلك، خطا غيفاريا – فوكويا.
ان هذا يعني أن بالامكان أن يكون خط معين، خطا غيفاريا دون أن يكون لأصحابه أي تصور أو آراء في الميدان العسكري. حيث أن غيفاريته تحدد في مسائل أكثر جوهرية، وأشد قدرة على تحديد غيرها، كتصوره للعلاقة مابين النظرية الثورية والحركة الثورية، وفهمه للتنظيم الثوري وآليات بنائه، والعلاقة مابين الشروط الملموسة للعملية الثورية والخط الايديولوجي والسياسي الذي يوجهها، أي موقع هذا الخط في علاقته بشروط الممارسة، والعلاقة مابين الاستعدادات الذاتية والشروط الموضوعية في انضاج الثورة. والاجابة العلمية التي تقدمها الماركسية-اللينينية لهذه المشكلات تختلف عن الاجابة غير العلمية التي تقدمها الغيفارية عنها، وعلمية الاجابة الأولى لها أساسها الفلسفي، وهو المادية الديالكتيكية كفلسفة ومنهج ونظرة إلى العالم لدى البروليتاريا. بينما لاعلمية الاجابة الثانية، لها أيضا أسسها الفلسفية، وهي التجريبية / البراغماتية / الارادوية، كفلسفة ومنهج ونظرة إلى العالم لدى البرجوازية الصغيرة.
ومن الأمثلة الساطعة على ذلك، المقاربة المعادية للنظرية الثورية،و التي أرسى دعائمها ريجيس دوبري في "ثورة داخل الثورة"، والتي تنطلق، من خصوصية شروط أمريكا اللاتينية، بل أن سبب تأجل الثورة الكوبية لا يكمن الا في "المفاهيم الخاطئة المستوردة". فليصل إلى نتيجة مفادها، أن النظرية الثورية ليست ضرورية في النضال الثوري، وأن هذا النضال، حسب الشروط الملموسة واحتياجات الممارسة، يفرز نظريته، هذا ما عبرت عنه القولة الشهيرة لغيفارا "لقد تعلمنا الماركسية في الجبال"، بيد أن النموذج الكوبي نفسه، هو قابل للتكرار في أمريكا اللاتينية عموما. وهذه المقاربة تجد أساسها الفلسفي في التجريبية، التي تنكر دور النظرية، أو تخصص له حيزا ضيقا في النضال الثوري لا يتعدى وصف احتياجات الممارسة والتذيل لها، وقد كان هذا الطرح التجريبي، يخدم عمليا، الأهداف البراغماتية للقيادة الكوبية من أجل التوحد مع أكبر عدد ممكن. وتبرير سياسة الاتكال على القوى الاصلاحية، المعبرة سياسيا عن البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، في انجاز الثورة. و هذه المقاربة المعادية للنظرية الثورية ترافقها مقاربة ليست أقل عداء منها، للتنظيم الثوري. حيث ترفض الغيفارية التنظيم اللينيني، والدور المركزي للحزب الشيوعي في قيادة الثورة. حيث أن مجموعات صغيرة من مقاتلي حرب الأنصار (ما سمي آنذاك بالشبكات المسلحة الثورية) هي التي تتكلف بالعمل الثوري المسلح في معزل عن الجماهير، بل أن تعبئة هاته الجماهير سياسيا نفسه، لا يمكن أن يكون الا بالدعاية السياسية المسلحة. وهذا هو أيضا، يتم تمريره تحت اليافطة التجريبية السابقة حول "الشروط الملموسة لكوبا" و"احتياجات الممارسة العملية ومتطلباتها".
ان جدالنا المركزي مع الرفاق في تيار البديل الجذري المغربي، ضمن هذه المساهمة، هو حول الفلسفة والمنهج التي يتعين على الماركسيين-اللينينيين، أن يتبنوها في تحليلهم وفهمهم للواقع : فهل نتبنى المادية الديالكتيكية باختراقاتها الثورية في فهم علاقة المادة بالوعي، والممارسة بالنظرية، والتجربة بالعلم، وغيرها من مواضيع الفلسفة عامة والابستيمولوجيا خاصة ؟ أم نتبنى فهما مشوها للمادية الديالكتيكية، نقف به عمليا، على طرف نقيض معها، وبالتالي على خط التيارات الفلسفية التجريبية والبراغماتية والوضعية، المعادية للمادية وللجدل في العمق، وان تقنعت بقناعيهما ؟ هذا الخيار التاريخي والمصيري، مابين المادية الجدلية والتجريبية، هو الذي يمكن أن يفتح أمامنا طريقين على مستوى الخط الايديولوجي، فاما طريق الماركسية-اللينينية، الذي يؤدي اليه التبني الفعلي للمادية الديالكتيكية ونظريتها في المعرفة وبالتالي مقاربتها لعلاقة النظرية بالممارسة. واما طريق الغيفارية، الذي يؤدي اليه التبني الشكلي للمادية الديالكتيكية، وبالتالي الوقوف على خط التجريبية عمليا في الفلسفة، في مقاربتها (التجريبية) لسيرورة تشكل المعرفة الإنسانية وعلاقتها بالممارسة العملية. ان الطريق الأول، هو طريق تجاوز الحركة الماركسية-اللينينية المغربية لأزمتها، أي طريق بناء خطها الفكري والسياسي، الكفيل بتجاوز واقع الضبابية الإيديولوجية والسياسية الذي نعيشه اليوم، وكذلك انتاج البرنامج الثوري الذي يمكن أن يدمج الخط الايديولوجي والسياسي بصورة حية مع الواقع الملموس للمجتمع المغربي، ويوجه عمل الماركسيين-اللينينيين ويضبط أفق ممارستهم اليومية في مختلف ميادين وحقول الاشتغال. وذلك انطلاقا من اجابة تنظيمية تتسق مع خطهم الايديولوجي والسياسي من جهة، ومع شروط ممارستهم على أساس هذا الخط، من جهة أخرى. أما الطريق الثاني، فهو طريق اعادة انتاج أزمة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، عبر التهرب من المهمات الحقيقية التي تطرحها تناقضات هاته الأزمة على المناضلين، الناجم عن تقدير خاطئ لأهمية النظرية الثورية، المعبر عنه في تقدير خاطئ لأثر غيابها على الماركسيين-اللينيينين، في ممارستهم نفسها، وفي تشرذمهم التنظيمي نفسه والذي يتحدد بغيابها وليس بذاته، وان كان يعمقه في الآن نفسه.
لقد أصدر رفاق البديل الجذري مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" بجزئيه لأجل تبرير هذا الطريق فلسفيا، وبينا بدورنا أن هذا التبرير وذاك الطريق ليسا من المادية الديالكتيكية في شيء. وأن الأسس الفلسفية – التي يكشفها هذا التبرير – لتيار البديل الجذري وطريقه، لا تعدو كونها أسسا تجريبية وبراغماتية ووضعية في فهمها لاشكالات عدة، تنكشف عندها هويتها الفلسفية الحقيقية، وان تقنعت بقناع المادية الديالكتيكية. سواء في تأصيلها لمفهوم النظرية، وعلاقة البحث النظري بالوقائع وبالممارسة العملية، وفهمها للممارسة كمصدر للنظرية وكمعيار للتحقق منها، والانتقال من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية، وعلاقة المظهر بالجوهر، والمجرد بالملموس وغير ذلك من قضايا الفلسفة والابستيمولوجيا. هذا الخط التجريبي لتيار البديل الجذري في الفلسفة، يتفق مع خط محدد لديهم في النظرية نقدنا هو الآخر أطروحاته، أهمها يتعلق بعلاقة النظرية الثورية بالتنظيم الثوري بالممارسة الثورية، وعلاقة لينين باللينينية، والخط الايديولوجي والسياسي وعلاقته بالحركة الثورية أي موقعه فيها، وعلاقة بناء هذا الخط بالتجربة التاريخية للثورة البروليتارية العالمية، والمفهوم اللينيني للأممية وللوحدة العضوية للجبهة الثورية العالمية.وكذا الرؤية التي يحملها رفاق البديل الجذري للتجربة الاشتراكية السوفياتية، من حيث تنكرهم لانجازاتها واسهاماتها في تعميق اللينينية واغنائها، والتي بلغت حد بتر اللينينية عبر اسقاط التراث النظري لستالين من الماركسية-اللينينية :
"ونحن نعتبر أن أعمال ماركس وانجلز ولينين نماذج لاستكشاف ظواهر الحياة ولدراسة تطورات الرأسمالية وتجارب الاشتراكية المنهارة ولحل الإشكالات الاقتصادية والسياسية والتنظيمية، لخدمة قضية الطبقة العاملة، ولضبط مضمون وطريقة ومنطق الديالكتيك، ولتحديد اختلافنا مع باقي وجهات النظر الفلسفية والفكرية. " (لتعلم السباحة يجب الذهاب الى الماء – الجزء الثاني)
وهذا المقتطف المأخوذ من الفقرة الأخيرة من المقال، يكشف عن شيئين : فعلى المستوى الفلسفي، اختزال النظرية في ميتودولوجيا Méthodologie نستكشفها عبر أعمال المفكرين والقادة الثوريين، في تطبيقهم لهذه الميتودولوجيا على مختلف الإشكالات التي اعترضتهم، اذ ليست النظرية الماركسية-اللينينية بناءا متماسكا منطقيا من المفاهيم النظرية العلمية هي الأدوات المعرفية لتشريح الواقع وفهمه، وانما مجرد منهجية (الديالكتيك). ينسى أصحاب هذا الاختزال، أن النظرية والمنهج وحدة نقيضين لا يمكن فصل الواحد على الآخر، اذ لا يمكن للمنهج أن يشتغل الا عبر النظرية وليس هنالك "منهج في ذاته". فلا يمكن الحديث عن "التناقض" بشكل عام في البنية الاجتماعية مثلا، وانما نتحدث عن التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج، والصراع الطبقي، والتناقض بين تنظيم الانتاج على مستوى المصنع وفوضى الانتاج على مستوى المجتمع. وهي مفاهيم نظرية، تستند إلى الديالكتيك منهجيا، ولا يمكن افراغها من الديالكتيك كما لا يمكن تعرية الديالكتيك وتركه دونها. هذه التعرية ووضع المنهج في واد والنظرية في واد آخر، أو اعتبار النظرية هي هي المنهج.، قد سبق منظرو النهج الديمقراطي رفاق البديل الجذري اليها، وأيضا التروتسكي سلامة كيلة الذي يعتبر "الماركسية تتحدد في منهجيتها". وبهذا فان تطور النظرية ليس عملية صقل مستمرة للأدوات المعرفية (المفاهيم النظرية) عبر اختبارها في الواقع التاريخي، ولكن عملية لفظ للمفاهيم النظرية واستبدالها بأخرى مغايرة تماما تحت يافطة "المفاهيم فانية والمنهجية باقية"، ولهذا تحدث رفاق البديل الجذري عن "أعمال ماركس وانجلز ولينين" ولم يتحدثوا عن "الماركسية-اللينينية"، والفرق كبير بين الصيغتين.
أما على المستوى النظري، فان هذا الحديث نفسه عن "أعمال ماركس وانجلز ولينين" يحمل في طياته لغما نظريا هو بتر الاسهامات النظرية لستالين، من جسم اللينينية، وكأن هاته (اللينينية) تنحصر عندهم في لينين، وكأن ما أنتجه ستالين من تراث نظري طوال سني البناء الاشتراكي بالاتحاد السوفياتي، ليس جزءا عضويا من اللينينية. اللهم ان كان يرى، كما يسود الاعتقاد لدى البعض، أن ستالين "مجرد تجربة" ! وكأنه هكذا تصنف الأمور، بين نظرية وتجربة (وارجع إلى استثمارهم لمثال فاراداي وماكسويل)، مثل تحليل سخيف أعرج تتناول به الأقلام البرجوازية العلاقة بين ماركس ولينين، وهو القائل : "ماركس نظر، ولينين طبق". لسنا بصدد دحض مثل هذه الأفكار، ونعتقد أننا تناولنا جزءا كبيرا من بنائها فيما سبق، نريد فقط أن نشير أن البديل الجذري، باقصائه المتعمد لستالين من دائرة اللينينية، فانما يضرب عرض الحائط ليس فقط التراث الثوري للاتحاد السوفياتي، ولكن أيضا تراث الحركة الماركسية-اللينينية العالمية في نضالها ضد التحريفية السوفياتية، والتي وضعت، في خضم هذا النضال، ستالين في موقعه الذي يستحق، يقول ماو تسي تونغ ، في نقده للتحريفيين السوفيات : " برأيي، يوجد سيفان، أحدهما لينين و الآخر ستالين. نبذ الروس الآن سيف ستالين و التقطه غومولكا وبعض الناس في المجر لطعن الاتحاد السوفياتي ومعارضة ما يسمى بالستالينية. و يستخدم الامبرياليون أيضا هذا السيف لذبح الناس به، و قد لوح به مثلا دالاس لبعض الوقت، و هذا السيف لم يعر بل رمي، لم نرمه نحن الصينيون، و بالنسبة الى سيف لينين الم ينبذ هو أيضا الى حد ما من قبل بعض القادة السوفيات ؟ لقد نبذ في رأيي الى حد ليس بالقليل ... هل ما زالت ثورة اكتوبر صحيحة ؟ هل ما زالت تصلح لكل البلدان ؟ يقول تقرير خروتشوف الى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، أنه يمكن استلام السلطة بالطرق البرلمانية. وهذا يعني، أنه لم يعد ضروريا لجميع البلدان التعلم من ثورة اكتوبر، عندما فتح هذا الباب على العموم ضاعت اللينينية ".(خطاب ماو في الاجتماع الموسع للجنة المركزية المبنثقة عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الصيني – 15 نونبر 1956).
ان خطر هذا التنكر ليس في التنكر للشخص أو التجربة بحد ذاتها، بل في كونه بابا نحو تراجعات وتنازلات نظرية خطيرة في ميادين قد تبدو بعيدة جدا من أول وهلة. وخاصة حينما يتم تغليف هاته التراجعات بالشروط الملموسة ومتطلبات الممارسة العملية. وبالتالي، اعداد التربة الفلسفية والنظرية الملائمة لتبرير القراءة الخاطئة لأزمة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، وبالتالي، الحل المغلوط الذي يتم اعطاؤه لهذه الأزمة، بناء على هاته القراءة الخاطئة نفسها. والتي ترى، من منطلقاتها الفلسفية التجريبية نفسها، أن الأزمة ليس سوى أزمة غياب تنظيم، أي مشكل تشرذم تنظيمي يعيشه المناضلون الماركسيون-اللينينيون، بل وهي، في الارتباط بذلك، ليس سوى أزمة غياب ممارسة، أي وقوف الماركسيين-اللينينيين على الشاطئ – وهذا غير صحيح - والحل يتلخص في كلمة سحرية هي "الممارسة"، أي النزول إلى الماء. وكأن المناضلين الماركسيين-اللينينيين لا يحرقون ذواتهم يوميا في النضال العملي، في جميع حقول الصراع، ولعل حركة 20 فبراير، وتجربتهم النضالية فيها، بينت بشكل أوضح أن المشكل ليس مشكل ممارسة، بل هو مشكل النظرية الثورية التي ستوجه هاته الممارسة وتعيد تشكيلها بطريقة تخرجها من دائرة العفوية والتخبط الاعمى والاجتهادات الفردية والحلقية، إلى مستوى بلورة التصور الجماعي للعمل الثوري، على أسس الماركسية-اللينينية. وهذا التصور وحده، هو الذي يمكن على قاعدته أن تبنى وحدة تنظيمية للشيوعيين، ونعني بالوحدة التنظيمية الوحدة الحقيقية على أساس برنامج ومواقف سديدة. وليس الوحدة الهلامية البراغماتية التي تهدف إلى "تجميع أكبر عدد ممكن".
ان دائرية طريق البديل الجذري ونكوصيته نحو اعادة انتاج واقع الأزمة يتكشف حتى من جانب علاقتنا كثوريين، بالقوى الاصلاحية. فحينما نتحدث عن العجز التاريخي لهذه القوى البرجوازية الصغيرة عن قيادة حركة التحرر الوطني المغربية في طريقها الثوري، فان هذا يطرح على كاهلنا مسؤولية التجاوز النضالي لهذه القوى الاصلاحية، على أرضية القطيعة السياسية والتنظيمية معها، لكنا هذا لن يتحقق، بدون قطيعة ايديولوجية جذرية مع التحريفية، والتي ستمكن الماركسيين-اللينينيين من رؤية صحيحة للاشكالات المطروحة في أبعادها السياسية والتنظيمية، وبالتالي القطع الثوري مع هاته القوى وتجاوزها. وأما الادعاء بأنه من الممكن تجاوز القوى الاصلاحية فقط بكلمات سحرية هي "الارتماء في الماء" و"الممارسة"، دون التعرض للقضايا الاشكالية راهنا أمام الحركة الثورية، فنعتقد أن تجربة أمريكا اللاتينية واضحة في هذا الصدد، وأيضا تجربة اليسار البلانكي (حركة 3 مارس 1973) والتي برهنت على فساد هذا الطريق تاريخيا وافلاسه. لذلك نقول أن طريق الغيفارية هو طريق اعادة انتاج الأزمة، في هذا التهرب المغلف ب"متطلبات الممارسة" و"الشروط الملموسة" من المهمات التي تفرضها مركزية الخط الايديولوجي والسياسي على الماركسيين-اللينينيين اليوم.
ان الماركسيين-اللينينيين المغاربة اليوم، خاصة في ظل التطورات التي يشهدها الصراع الطبقي محليا واقليميا وعالميا. هم أمام مفترق طرق مصيري، فاما العمل من أجل تسليط الضوء على الإشكالات العالقة أمام الحركة، والتي تعيق تطورها، على المستوى الايديولوجي والسياسي والتنظيمي، والعثور على الاجابات العلمية لهاته الإشكالات، والتي وحدها – الاجابات – قادرة على توجيه ممارستهم الثورية واعادة تشكيلها من منطلق قراءة سليمة لمتغيرات الصراع الطبقي محليا واقليميا وعالميا، وحلول علمية للقضايا الاستراتيجية للثورة العالمية والمغربية، على ضوء تقييم علمي للتجربة التاريخية للحركة الشيوعية العالمية والمغربية، تستقى منه الدروس اللازمة. وهذه الفهم هو الذي يمكن على قاعدته التقدم في البناء التنظيمي بشكل جدلي، أي في علاقة هذا البناء ببناء الخط الايديولوجي والسياسي والتنظيمي للحركة الماركسية-اللينينية المغربية. وهذا الطريق، الشاق والطويل، هو طريق خروج الحركة الماركسية-اللينينية من أزمتها وهو طريق اللينينية، والذي وحده يتسق مع طبيعة هذه الحركة كحركة ثورية. أما الطريق الآخر، وهو طريق الغيفارية، وهو مسلك سهل وقصير، فيسلك عبر التهرب من الإشكالات العالقة أمام الحركة، المعيقة لتطورها على المستويات الثلاثة. والتملص بالتالي، من تقديم على الاجابات العلمية لهاته الإشكالات تحت يافطة "الممارسة" و"الذهاب إلى الماء" والشروط الملموسة" و"النضال ضد الدوغمائية"، ووبالتالي طريق تأبيد هذه الأزمة واعادة انتاجها المتجددة. وهو حتى في أكثر شطحاته بلهوانية ضد "القوى الاصلاحية" من جهة، و"الدوغمائية" من جهة أخرى، فانه لا يؤدي إلى تجاوزهما، بل إلى تقويتهما حتى في الصراع ضدهما، من حيث كونه، مثلهما، وجها من أوجه الأزمة وجزءا منها. ان مفترق الطرق هذا، بكلمة تختصر الحديث، مسألة حياة أو موت.
المغرب، 20 يونيو 2014
هوامش واحالات
(1) - تسيانغ تشونغ كياو أحد ما عرف بالصين ب"عصابة الأربعة" كنعت قدحي وجهته التحريفية الصينية اليهم (دينغ سياو بينغ وهوا كوفنغ) ما بعد وفاة ماو، لتسهيل الاجهاز على مكتسبات الثورة الثقافية وطعن تراثها الثوري.
(2) نسبة إلى الديانة المانوية، التي يعتبر الاعتقاد في وجود الصراع الأبدي بين النور والظلام، الخير والشر، معتقدها الرئيسي.
(3) الحديث هنا يجرى على حزب تودة الايراني، الذي كان يعتبر بمثابة حزب الطبقة العاملة – في الظاهر – الايرانية، وقد أدت به تبعيته للتحريفية السوفياتية إلى نتائج كارثية على مستوى ممارسته في علاقته بالقوى الظلامية.
(4) بل ان الحزب "الشيوعي" الجزائري وصل إلى مستوى حل نفسه، تذيلا لجبهة التحرير الوطنية في الجزائر.
(5) ونميز هنا بين الفهم التاريخي historique لتطور المعرفة الإنسانية، والفهم التاريخاني historiciste لهذا التطور،فالأول هو دراسة المعرفة بناء على تطورها التاريخي، حيث أن تقدمها اللاحق لا يلغي ما راكمته سابقا بل يغنيه ويعمقه، أما الثاني فهو اعتبار التقدم اللاحق للمعرفة الغاء لكل ما سبقها من تراكم معرفي، وبالتالي فان التحليل التاريخاني، بحجة التاريخية، يضرب عرض الحائط العلاقة بين المطلق والنسبي في المعرفة وتطورها التاريخي نفسه.
(6) أي أن كون العلوم الطبيعية واستثمارها في الفلسفة موضوعا لصراع طبقي، لا يعني أن الحقيقة الموضوعية التي تسكشفها هاته العلوم يتوقف على الصراع الطبقي.
(7) جان باتسيت لامارك Jean Baptise Lamarck، عالم أحياء فرنسي عاش ما بين 1744 و1829.
(8) يعتبر عالم الأحياء البريطاني المعاصر ريتشارد داوكينز، صاحب كتاب "صانع الساعات الأعمى (في الانتخاب الطبيعي" و"الجين الأني"، من أنصار هذا التوجه، وقد كرس كتبه لشرح الداروينية الجديدة للعموم. وان كانت، رغم ما أنجزته في ذلك، تحوي ما تحويه من منزلقات في الفلسفة.
(9) والمثال على ذلك، هو ما نحى اليه صادق جلال العظم في كتابه "دفاعا عن المادية والتاريخ : ثلاث محاورات فلسفية" من هجوم على الاتحاد السوفياتي في حقبة ستالين، عبر مدخل ليسكنو. وبامكان القارئ أن يرجع أيضا، لتبين مظاهر لخطورة هذا المدخل إلى كتاب Dominique Lecourt بعنوان "علم بروليتاري ؟ حالة ليسنكو"، متوفر فقط على الأنترنت بالانجليزية تحت عنوان « Proletarien Science ? The Case of Lyssenko « المقدم من طرف لويس ألتوسير. راجع أيضا وثيقة اتحاد الشيوعيين (الماركسي-اللينيني) في فرنسا، ضد هذا الكتاب، الصادرة سنة 1977، تحت عنوان "La situation actuelle sur le front de philosophie : Contre Lecourt et Althusser " (الوضع الراهن على جبهة الفلسفة : ضد لوكور وألثوسير)، متوفر فقط بالفرنسية.
(10) يعتبر تحريفيو "خط اعادة البناء" المتنكرون للخط الثوري لمنظمة "إلى الأمام" الماركسية اللينينية، أن ما حال دون تحقيق المنظمة لمهامها هو خطها الفكري والسياسي والتنظيمي، الذي يحتاج بنظرهم، لاعادة بناء جذرية، وبهذه الحجة البراغماتية، التي تبدو ظاهريا، ك"تحقق من النظرية في الممارسة"، برروا تراجعات خطيرة.
(11) متوفر على الأنترنت بالفرنسية فقط تحت عنوان « LE PETIT DICIONNAIRE PHILOSPHIQUE » على موقع lemarxisme.fr.
(12) هذه المعلومات جد بسيطة وابتدائية في دراسة تاريخ الفيزياء، كما سبق القول. ويمكن الاطلاع بهذا الصدد على احدى كتب تبسيط العلم للعموم أو "العلم الجماهيري"، بعنوان "الكون وتحولاته L’univers et ses metamorphoses" لصاحبه Roland Omnès. والذي يوضح أن ما يفتريه رفاق البديل الجذري حول نيوتن والكوانتوم ليس سوى تجل للجهل ليس الا.
(13) انظر المقال المكتوب من طرف "فريق التحرير للنقد الثوري لمدرسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني" سنة 1971، بعنوان "اثنان يندمجان في واحد : فلسفة رجعية لاعادة تركيز الرأسمالية". وبالتحديد في محور "نقض تصور : التركيب يعني دمج الاثنين في واحد"، متوفر على الأنترنت فقط بالفرنسية.
(14) كما أنه في اللغة الروسية، فان التجريبي يختلف عن التجريبية، فكلمة э-;-м-;-п-;-и-;-р-;-и-;-ч-;-е-;-с-;-к-;-и-;-е-;- التي تنطق "امبريشيسكي" وتعني "التجريبي" تختلف عن كلمة э-;-м-;-п-;-и-;-р-;-и-;-з-;-м-;- التي تنطق "امبيريزم" وتعني "التجريبية".
(15) هذا المقتطف متوفر على الأنترنت بالفرنسية تحت عنوان « les falsifications maoistes dans le domaine de la théorie de conaissance » أما الكتاب كاملا فليس متوفرا الا باللغة الألبانية.
(16) نقول أن هذا النقد لا ينطلق من موقع نفي وجود هذه التصورات عند ماو تسي تونغ، لكن هذا لا يلغي أننا ننفي وجودها نفيا قاطعا. أما البرهان على ذلك، فيحتاج إلى دراسة مستقلة ننشرها فيما بعد.
(17) ولنلاحظ، على مثال على هذا الطمر، تعريف "المعجم الفلسفي Philosophical Dictionary" لماكس آبل و بيتر لودز للتجريد والمجرد والملموس، ننقل تعريفاته هنا كما هي، بدون ترجمة أو تعديل، من لغتها الاصلية :
’abstract: divorced from a given connection and considered by itself only. Thus abstract acquires the meaning of conceptual, conceived, in opposition to given in contemplation.
’abstraction: the logical process for ascending, through omission of features, from that given in contemplation to a general notion and from the given concept to a more general one. Abstraction decreases the content and extends the volume. Opposed to determination.
’concrete: the immediately given in contemplation-;- concrete concepts denote that which is contemplated, individual objects of contemplation. Opposed to abstract.’
(18( منصور حكمت أيضا، مثل البديل الجذري، هو في هاته النقطة يدعي الحياد مابين ستالين وتروتسكي، وتاليا، ما بين الحركة الماركسية-اللينينية العالمية من جهة، والتنظيمات التروتسكية من جهة أخرى. بل أنه ينتقد أطروحات تروتسكي حول "الثورة الدائمة" ويعتبر أن ليس لها أي قيمة أممية، بل هي تلتقي مع أطروحات ستالين حول "بناء الاشتراكية في بلد واحد" على أرضية القومية الاصلاحية البرجوازية. انظر أيضا، مقالة منصور حكمت "الشيوعية : بداية مرحلة جديدة"، متوفرة على الأنترنت بالعربية في موقع "منصور حكمت".
(19) وهذا الموضوع هو حقل شاق وشيق لتمثل تحليل مهدي عامل المهم والغني لتمفصل تناقضات البنية الاجتماعية في كتاب "في التناقض" الجزء الأول "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني" من جهة، واعادة تقييمها ونقدها بصورة جذرية على ضوء تقييم تجربة الحركة الشيوعية العالمية، والمنزلقات النظرية والسياسية التي آلت اليها الأحزاب الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي – والحزب الشيوعي اللبناني منها – ودروس هذه المنزلقات في أثرها على فكر مهدي عامل، وأثره هو عليها.
(20) ومثل هذا الخلط وتحميل المسؤولية للشيوعيين السوفيات، نجده أيضا في "بيان البديل الجذري المغربي" وقد سبق لنا التنبيه اليه لدى نقد هذا البيان، في "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك".
ملحق :
رابط مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب في الماء – الجزء الأول" (على الحوار المتمدن)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=400546
رابط مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء – الجزء الثاني"(على الحوار المتمدن)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=409734