فهد المغربي
لقد صدرت، بعد نشر "بيان البديل
الجذري المغربي"، عدة مقالات ووثائق لأصحاب هذا التيار، يعبرون فيها عن
تصوراتهم لعدة إشكالات تعترض الحركة الثورية المغربية (مثل مقال "التحالفات
السياسية بالمغرب وحدود الممكن" (الذي ليس إلا واحدا ضمن وثائق عديدة نؤجل
نشر نقد له ولها، هو قيد الإعداد، للاحق الأيام، لا يمسها من حيث حلولهم
لهاته الإشكالات وحسب بل من حيث طريقة طرحها بالأساس لديهم) ومواقفهم من
بعض القضايا المحلية والإقليمية والدولية، ومن الواضح أن هاته الوثائق بدأت
ترسم معالم خط سياسي لتيار "البديل الجذري"، خط لم يستطع كسر الإطار الذي
طوق به من قبل "بيان البديل الجذري المغربي"، بل انه جاء تجليا له وتمظهرا،
يكشف ما كان في البيان الأول مجرد مكبوت أو مرموز، ويؤكد الوجود الفعلي
لرؤى كان ليعتقد القارئ - لو حصر قراءته في حدود البيان – أنها مجرد
تأويلات شخصية لديه، أو ربما هي مبالغات من عنديات نفسه. وهذا التأكيد
الجديد ليس بغريب على التاريخ ولا التاريخ عليه بغريب، وذلك لسببين
رئيسيين، الأول منهما هو أنه مهما بدا تيار أو توجه سياسي متعنتا في
تجريبيته، عنيدا في مناهضته للنظرية وللخط السياسي. فان هذا لا يعصمه من
نظرية وخط سياسي خاطئين. فمتلازمة التجريبية والبراغماتية لديه ليست سوى
غطاء لإخفاء خط إيديولوجي وسياسي سينكشف عاجلا أم آجلا، هذا ما سلف لنا
الإشارة إليه في مقال سابق لنقد بيان البديل الجذري بعنوان "نحن بحاجة إلى
قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك" وأكدته المقالات والوثائق
اللاحقة المنشورة في الحوار المتمدن باسم البديل الجذري. أما السبب الثاني،
هو أن كل منطلق من "بيان البديل الجذري المغربي"، أي من منطلقات إطاره
النظري وتصوره السياسي والتنظيمي، لا يمكن أن يصل إلا إلى حيث يوصل المنطق
الموضوعي لتطوره، وذلك على المستويات الثلاثة. وبالتالي فان انجاز قطيعة مع
التحريفية، ثورية وجذرية فعلا، أو حتى الإعداد لهذا الانجاز، لا يمكن أن
يتم إلا بالتمرد على هذا الإطار وتحطيمه، فلا يمكن أن تكون الثورة النظرية
للحركة الماركسية اللينينية المغربية – لأجل بناء الخط الإيديولوجي
والسياسي والتنظيمي السديد لحزب البروليتاريا المغربي - ثورة من داخل هذا
الإطار، بل ثورة عليه.
سنبين أين تتجلى بالضبط هاته الاستمرارية الإيديولوجية والسياسية لمنطلقات البيان – ومنزلقاته أيضا -في المنشورات اللاحقة لتيار البديل الجذري، بتفصيل وتدقيق في النقد الذي نعد. إلا أن الجديد اليوم في وثائق أنصار"البديل الجذري" وكتاباتهم، هو مقال بعنوان "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" على جزأين، نشر الأول منهما بتاريخ 13 فبراير 2014، والثاني بتاريخ 10 أبريل 2014، وكلاهما منشور على موقع الحوار المتمدن (العددان 4364 و4420 على التوالي). ان الأهمية البالغة والاختلاف النوعي لهذا المقال عن سابقيه تستوقف القارئين، بل والكاتبين أيضا، لذلك أجلنا العمل على نقد هاته الكتابات اللاحقة للبيان مباشرة، إلى ما بعد دراسة هذا المقال الجديد ونقده، وذلك نظرا، كما قلنا سابقا، لأهميته البالغة، واختلافه النوعي. ومن الطبيعي بعد هذا القول، أن تتبادر للذهن أسئلة: أين تتجلى أهمية مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" ؟ لماذا دراسة هذا المقال ونقده مهمان ؟ وفيم يتحدد اختلافه النوعي عن باقي الانتاجات "الكتابية" لتيار البديل الجذري المغربي ؟
نعتقد أن الإمساك بنقطة الاختلاف النوعي الأساسية في مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" هي المفتاح الرئيس لتحديد أهميته بالنسبة لفهم التصور الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي لتيار البديل الجذري، ولمجمل تطور الحركة الماركسية-اللينينية المغربية في نضالها من أجل تجاوز أزمتها الذاتية في سيرورة بناء الحزب الثوري للبروليتاريا، والذي غيابه عقدة المرحلة من تطور الحركة الثورية في المغرب بشكل عام. ان نقطة الاختلاف النوعي الأساسية لهذا المقال الجديد تكمن في كونه، بخلاف كل المنشورات السابقة، بدل أن يحاول قراءة الواقع الاجتماعي والسياسي بمنظور المنطلقات الإيديولوجية للبديل الجذري، يحاول القيام بالتأصيل الفلسفي لهذه المنطلقات الإيديولوجية نفسها. ان أنصار البديل الجذري في مقالهم الجديد يناضلون لأجل إقامة أساس ابستيمولوجي لخطهم الفكري والسياسي، ورئيسيا لخطهم الفكري الذي يحاولون اليوم جاهدين، كما من قبل، أن يبرهنوا على أنه الماركسية-اللينينية، لكن أقل ما يقال عنه، ومن خلال ما يتبين بعد الدراسة والنقد، هو كونه شيئا يشبهها- في الظاهر وحسب - يشبه الماركسية-اللينينية، لكنه للأسف ليس هي.
ان وضع رفاق "البديل الجذري" للأسس الفلسفية لتصورهم في هذا المقال، يحمل أهمية نظرية وسياسية كبرى، إذ تتيح هذه العملية النفاذ إلى أعماق هذا التصور، والعلاقات بين أسسه الفلسفية وأطروحاته النظرية والسياسية والتنظيمية، بل وانطلاقا من تحليل هاته الأسس الفلسفية، استشراف الأطروحات التي قد ينفتح عليها هذا التصور مستقبلا، حسب تطور الصراع الطبقي محليا وعالميا، والقراءات الطبقية والسياسية التي تنجم بالضرورة المنطقية عنه، لواقع الثورة المغربية والعالمية، في مختلف المنعرجات وأمواج المد والجزر التي عرفتها ويمكن أن تعرفها تبعا لهذا التطور وتناقضاته المعقدة. إذ أن الدور المحدد للخط الإيديولوجي والسياسي له هو نفسه مستوياته الخاصة التي يدرس عليها، التي لا تتوقف فقط عند موقع النظرية الثورية، بما هي "العامل الأكثر ديناميكية في الايديولوجيا" على حد تعبير تسيانغ تشون كياو(1)، بل إلى مركزية المنطلقات الفلسفية التي تقوم عليها النظرية بذاتها، فلا يمكن للماركسية-اللينينية، علم الثورة البروليتارية العالمية، أن تقوم على أسس فلسفية مثالية أو ميتافيزيقية (وهما معا، في التحليل الأخير)، حتى وان أدعى مدعوها المادية الجدلية، أو أثقلوا نصوصهم بترسانة لفظية شيوعية، هي ليست بالضرورة ترسانة مفاهيمية، بل بالعكس من ذلك تذهب في العمق ضد الإطار النظري للشيوعية، هذا الدرس، يستخلص من تجربة الثورة العالمية.
أضف إلى ذلك شيئا آخر، هو أن مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، كمحاولة لإقامة أساس من المشروعية الابستيمولوجية لتيار البديل الجذري، يهدف في قسم كبير منه، إلى نفي تهمة التجريبية عن هذا التيار، في رد ضمني على دينامية النقاشات الدائرة وسط المناضلين الماركسيين-اللينينيين، حول ضرورة البناء المنسجم والسليم للخط الإيديولوجي والسياسي للحركة الماركسية-اللينينية المغربية، لتجاوز واقع الضبابية الإيديولوجية والتيه السياسي، بعيدا عن النزعات الدوغمائية والتجريبية التي تتولد من استمرارية هذا الواقع وتعيد إنتاجه بدورها، حول ملحاحية الإجابة التنظيمية على الواقع الحالي، المتسم بالتشتت والتبعثر التنظيميين، بمنأى كذلك عن أمراض الحلقية والزعاماتية والأستاذية والبراغماتية التي هي الأخرى من عوامل تأبيده. حول الحاجة إلى برنامج سياسي واضح ومتكامل للعملية الثورية، يتخطى / يحطم محدودية الشعارات العامة والفضفاضة، ويتيح بالتالي إمكانية التجاوز الفعلي للقوى الإصلاحية وتلجيم تأثيرها على مختلف قطاعات الحركة الجماهيرية لدفع هاته الحركة في الأفق الثوري، في حذر من (ونضال ضد) منزلقات الانتظارية والارادوية، التي هي بدورها كتعبير عن ضيق أفق البرجوازية الصغيرة وتذبذبها، عنصر تعميق لأزمة غياب هذا البرنامج الثوري للحركة الماركسية اللينينية-المغربية، يتغذى من شروط هاته الأزمة ويغذيها في آن.
هاته النقاط الهامة وغيرها حاولنا مناقشتها سابقا، في سياق نقدنا لوثيقة "بيان البديل الجذري المغربي"، وبالتحديد في فقرة "المرحلة التي نعيش، المهام التي نواجه، والقطيعة التي نحتاج"، وخلصنا إلى كون ما يسمى بالبديل الجذري، إنما هو بالفعل، التعبير الأكثر تركيزا عن انحرافات ثلاثة : الارادوية والتجريبية والبراغماتية، كما بينا مختلف الدلائل التي يمكن استشفافها سواء من بيان البديل الجذري، أم من فكرته من الأساس، والتي تعطي – الدلائل – لهذه الخلاصة مشروعية معرفية وسياسية. ان مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" هو اليوم بجزئيه، مخصص للطعن في هاته الخلاصة، أي في النقد المقدم في "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك" وان كان رفاق البديل الجذري لا يشيرون إليه إلا بشكل ضمني، وبتلميحات محتشمة وخجولة. قد يلاحظ القارئ أنهم قرروا المرور مباشرة، وبسرعة (أو ربما بتسرع) إلى نقد هاته الخلاصة، من الناحية الفلسفية، دون التعرض بالنقد للمقدمات التاريخية والسياسية والنقاط المبدئية التي قامت عليها، اللهم في لحظات طفيفة خفيفة حاولوا جاهدين تصوير الأطروحات التي فيها وكأنها نتائج محضة للتطور المنطقي لمحاكماتهم الفلسفية الماركسية بشكل خالص ونقي، بينما هاته المحاكمات هي نفسها، ليست إلا تبريراتهم الأداتية لأطروحات البيان وأفكاره الأساسية. لا بأس، فهذا الرد لهو – على فظاعة خطئه المنهجي هذا – بالنسبة لتيار البديل الجذري، خطوة تقدمية عظمى !
لذلك فان الوجه الآخر للأهمية التي يكتسيها المقال الجديد لأنصار البديل الجذري المغربي، هو أنه يتيح لنا إمكانية مزيد من التعميق المعرفي والسياسي للنقد السابق، انطلاقا من النضال الدؤوب لهذا التيار من أجل مشروعية ابستيمولوجية، من أجل أساس في النظرية المادية الجدلية للمعرفة، ونفي تهم التجريبية والبراغماتية والارادوية عنه. إلا أن هذا المقال الجديد يقوم، وبشكل ساخر، بعكس الوظيفة المتوخاة منه تماما، انه يؤكد هاته التهم بدل أن ينفيها، ويدين ذاته إدانة مضاعفة، أما تبيان ملامح التجريبية التي تكشف عن نفسها ثانية لدى البديل الجذري، فهي مهمتنا نحن، في هذا النقد الذي نقدمه اليوم مجددا، أعمق فأعمق، لهذا التيار، ومهمة الماركسيين-اللينينيين كافة، الذين يحملون مشروع التحويل الثوري للمجتمع المغربي وللعالم بأسره.
البديل الجذري والصراع الإيديولوجي : رفض مبدئي للنقد أم رفض للنقد المبدئي ؟
قبل الشروع في التأسيس الفلسفي لخط "البديل الجذري"،أو بالأحرى، وهو الأقرب إلى الصحة، قبل تأسيس الشرعنة الفلسفية لهذا الخط، لا يفوت أنصاره أن يعرضوا في البداية أطروحاته وأفكاره الأساسية، التي ليس ما يليها من تحاليل ومناقشات سوى تبريرها الفلسفي. والحق أن بعض هاته الأطروحات والأفكار، ان لم تكن كلها بالفعل، كنا نتوقعها، قبل صدور "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" بل حتى قبل كتابة "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك"، بل وأشرنا ذلك في بداية المقال، وليس في الأمر من قوة التنبؤ بقدر ما فيه من سلامة المنطق، في تتبع منطق التجريبية وما تقدمه من حجج في هجومها على الفكر العلمي وفي دفاعها أيضا ضده.
على هاته الأفكار لن نقدم سوى بضع ملاحظات بسيطة سريعة، نترك مهمة تعميقها للآتي من التحليل. يعلن كاتبو المقال أنه "سيتم الوقوف في هاته المساهمة على مواضيع قد تثار لحد الآن من باب المزايدات النظرية والإعلامية مستعينة بحقائق مصطنعة مدعومة بالكذب والوشايات للمضي في مهمة تهدف لشل أي تقدم ممكن" وهذه الظاهرة أصبحت كما يقولون "خلفها واقع الشتات وتعدد المجيمعات، والأمراض المنتقلة من الواقع السائد إلى أوساطها ويحفزها الأعداء من الخارج وبطرق خبيثة بالتلاعب على عوامل حساسة مثل الوصاية، الزعامة، الانفرادية(...) وهذا ما يستوجب الوقوف عند أفكار تثار من هنا وهناك وما تلقيه من تشويش نظري وسياسي في شروط نمو لا مفر فيها من صراع الدبابيس". هكذا يقدمون موضوع مساهمتهم وأهدافها، التي تستثير في الحس العلمي المتيقظ، وبسرعة، ملاحظات واعتراضات مشروعة. لكن صبرا، يوجد المزيد.
يواصل المقال : "فمما يتبين أن الانفعالات المنبعثة من انتقادات "البديل الجذري" تجتمع على رفض التقدم وتختلف في المستندات والدعاية، فمنهم من يخلط خلطة غريبة ولا تهمه الترسبات سوى أن يقدم الجميع في مرج واحد. ومنهم من يحلف بأغلظ الإيمان عند رؤية أي نهوض في المرحلة، بأن لا مآل له إلا ما آل إليه التحريفيون، وكأن من انحرفوا لم تكن لهم منطلقات و أهداف واضحة تعبر عن ذلك منذ البداية، بل النهوض هو الذي قادهم للانحراف، ويتذرعون "بنظريات" –مهدوية- في دعوة لترقب الواقع حتى تتطابق وقائع الأرض معها. فمثل هؤلاء سيظل الشعب، وبالدرجة الأولى العمال، يبتعدون عنهم يوما بعد يوم مع التقدم في الصراع مع الأعداء، وما ان يسمع أحد حديثهم حتى يدير ظهره لهم لا محالة وينصرف".
هكذا يفهم البديل الجذري إذن، النقد الموجه إليه. وربما يكون القارئ قد فهم الآن، من خلال هاته المقتطفات، لماذا قلنا فيما قبل أننا كنا نتوقع مثل هاته الأفكار، بل وأشرنا إليها في المقال الذي سبق. ان الانتقادات الموجهة للبديل الجذري، كلها، وكلها كلها، مزايدات نظرية وإعلامية، تستعين بحقائق مصطنعة، بوشايات وكذب، هدفها شل أي نهوض،رفض أي تقدم، وهي لا تختلف سوى في المستندات، بل الأسوأ من ذلك، أنها مدعومة من طرف الأعداء ! وهنا، بدل أن يفهم البديل الجذري مهمة الصراع الإيديولوجي، فهما ماركسيا لينينيا، باعتباره ضرورة للحركة الشيوعية - لا مندوحة لها عنه في بناء خطها الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي، بل وحتى العسكري – يفهمه فهما تآمريا، باعتباره يرمي إلى شل التقدم والنهوض، بل ويشجعه "الأعداء". انه فهم أقرب إلى الفكر القومي منه إلى الماركسية-اللينينية، فكل ما هو داخل، يجب أن يقبل بسيادة السائد، فإذا رفضها أو قاومها، كان عميلا "للخارج"، ومعرقلا "للنهضة القومية" و"التقدم الوطني" ليس لأنه في حقيقته فعلا عميل للخارج، بل لأنه وبغض النظر عن طبيعته السياسية، مناهض للسائد في الداخل. حتى لو كان هذا السائد هو المعرقل في الحقيقة للنهوض والتقدم، وحتى لو كان كذلك، هو العميل الفعلي ل"الخارج" في "الداخل".
لأن القبول بالتقدم والنهوض كمعيار، في ضوء مزدوجة الداخل / الخارج عند الإيديولوجية القومية والبديل الجذري على السواء، يفترض بداية الاتفاق على مضمون هذا التقدم والنهوض، وهو الذي نقدر انطلاقا منه تحديد القوى القادرة على انجازه، والأدوات الضرورية للسير به باتساق مع مضمونه الفعلي، الذي هو التجاوز المطرد للأزمة القائمة، لذلك كان فهم هاته الأزمة ضروريا لفهم مضمون حلها، أي انجاز التقدم والنهوض، ومطلق الضرورة بالتالي لمعرفة القوى التي ستتصدى له وأدواتها في ذلك. هناك تبعا لهذا، مقاربتان متعارضتان كليا لفهم أزمة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، وبالتالي، للطريق الصحيح لإخراج هاته الحركة من عنق الزجاجة، أي تخطي واقع الأزمة. وواجب الماركسيين-اللينينيين أن يتمسكوا بالمقاربة المادية الجدلية في معالجة أزمة حركتهم نفسها، حذرين من كل إمكانات الانزلاق نحو المقاربة الميتافيزيقية الانتقائية لهاته الأزمة، والتي لها أعمق الأثر، بالتالي، في إعادة إنتاجها المتجددة باستمرار.
إذ أنه ليس مجرد إعلان لعنوان، أو لتأسيس تيار، أو حتى تنظيم، محاولة من أجل "التقدم والنهوض" لدرجة يصير معها كل نقد لهذا العنوان أو التيار أو التنظيم رفضا للتقدم وشلا للنهوض. ان فهم البديل الجذري للتقدم والنهوض فهما ميتافيزيقيا، يؤدي بصفة أوتوماتيكية إلى فهم ميتافيزيقي بدوره للانتقادات الموجهة إليه. وهذا يتسق مع تفسيره لهاته الانتقادات باعتبارها من مخلفات "واقع الشتات وتعدد المجيمعات"، وبالتالي فان "التقدم والنهوض" هو تجاوز "واقع الشتات وتعدد المجيمعات". انه تجاوز للوجه / الجانب التنظيمي للأزمة، بل ان هذا المظهر هو هو الأزمة، لذلك كان حلها بالتالي في منطق تفكير رفاق البديل الجذري حلا "تجميعيا" للمناضلين تحت عنوان البديل الجذري "عنوان كل المناضلين الماركسيين اللينينيين المغاربة" بحسب تعبيرهم نفسه، الا أنه يجب أن نورد هنا ملاحظة طريفة، فتيار البديل الجذري، رغم كل ذلك، لا يقدم إجابة على أزمة الجانب التنظيمي أيضا، أو بالأحرى على الجانب التنظيمي للأزمة.
ان ما يدعوه البديل الجذري ب"واقع الشتات وتعدد المجيمعات" ليس في الحقيقة سوى تمظهر لواقع أعمق، هو واقع الضبابية الفكرية والسياسية، واقع غياب الخط الإيديولوجي والسياسي السديد للحركة الماركسية اللينينية المغربية، أما الانطلاق من التنظيمي لتفسير السياسي، وتاليا الإيديولوجي، وبالتالي لفهم أزمة هذه المستويات جميعا...فهو محاولة لوضع الراكب تحت الحمار، إذ يستحيل إطلاقا أن تكون أي مبادرة معينة، في ذاتها وبذاتها كمبادرة، خطوة لتجاوز الأزمة إلا إذا توفرت فيها شروط هذا التجاوز، أو على الأقل، أن يكون أصحابها واعين لطبيعة الأزمة والعلاقات الجدلية المعقدة بين عناصرها ومستوياتها البنيوية – المتفاوتة من حيث تطورها كذلك - حتى يكونوا تبعا لذلك قادرين على إنضاج شروط الحل خطوة فخطوة، وبهذا ليس أي نقد، لأي مبادرة، رغبة في تأبيد الواقع القائم، أو "رفضا للتقدم وشلا للنهوض" كما ينظر البديل الجذري، واهما وموهوما.
ذلك أنه يوجد فعلا، نقد من هذا النوع، فالخلاف مع "البديل الجذري" نفسه، قد يختلف. وتكون أرضية هذا الاختلاف هي المواقع الذي يتم منها، والتي يكشفها مضمون النقد وأهدافه، فنقد للبديل الجذري يروم التجاوز الفعلي لأزمة الحركة-الماركسية اللينينية المغربية - انطلاقا من الوعي العلمي لطبيعة هاته الأزمة، والكشف المبدئي لمنزلقات البديل الجذري وأخطائه، التي تعري فهمه المقلوب للأزمة، وفهمه المقلوب، بالتالي، للحل – يختلف عن نقد يتمسك بواقع بالأزمة و يجهد في توثينه، ليس لأنه، مطلقا، ينتقد البديل الجذري، بل لأنه يسقط في نفس منزلقاته الميتافيزيقية ويعجز عن الإفلات منها، ولكن بالشكل المقلوب تماما (الدوغمائية). لكن أصحابنا أنصار "البديل الجذري" العتيد، لا يفرقون بين هذا وذاك، يفضلون الجمع بين الكل تمهيدا لمهاجمة قسم بعينه من هذا الكل، انه القسم الذي يقدم نقدا مبدئيا، أو ربما بالأصح، إنهم يستخدمون تكتيك "مهاجمة أكبر عدد من الناس لحماية قبضة منهم"، فعدم التفرقة بين النقد الدوغمائي والنقد الماركسي، يهدف في الحقيقة إلى مهاجمة النقد الماركسي، لا الدوغمائي. لأن التجريبية ليست سوى الوجه الآخر للجمود العقائدي، أما المادية الديالكتيكية، فهي نقيضها ونقيض وجهيها، لذلك يتركز ضدها الهجوم حتى وان بدا في الظاهر هجوما على "الكل"، فما يظهر للعين السطحية، رفضا مبدئيا – أي من حيث المبدأ – للنقد، لدى أنصار البديل الجذري، ليس في واقعه سوى رفض للنقد المبدئي، أو لنقل أنه لا يتخذ شكل الرفض المبدئي للنقد إلا ليخفي محتواه كرفض للنقد المبدئي.
ان الجمود العقائدي ليس النقيض الرئيسي للتجريبية في الصراع بين المقاربتين المادية الجدلية والميتافيزيقية الانتقائية لأزمة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية. بل إنما وجهان مترابطان متلازمان للمقاربة الثانية، لكن تيار البديل الجذري الذي يتهم كل من انتقد "بخلط خلطة غريبة ولا تهمه الترسبات سوى أن يقدم الجميع في مرج واحد"، هو الذي يقوم في الحقيقة بتقديم الجميع في مرج واحد، في خانة واحدة. ومادام الحال كذلك، فما هو نوع النقد الذي قد يتقبله هذا التيار ؟ أهو نقد من نوع "نحن نقبل فكرة تيار البديل الجذري، بل نحن ننتمي للبديل الجذري، بما هو عنوان "جميع المناضلين الماركسيين اللينينيين المغاربة" لكن لدينا اختلاف مع الرفاق في نقطة كذا ونقطة كذا" ؟ هذا لم يعد نقدا، انه نقد ذاتي ! لسنا كذلك مبدئيا ضد هذا النوع من النقد، أي تحت أي شروط كانت، ولكن في هاته الحالة بالضبط، أي لدى معالجة خط البديل الجذري وأطروحاته الأساسية، يعد أي نقد لاغيا إذا لم يقطع جذريا مع خطه التجريبي / البراغماتي / الارادوي، لأجل بلورة الفهم العلمي الصحيح للأزمة التي تتخبط فيها الحركة وآفاق حلها وأدواته، لكن "الليبرالية تنكر الصراع الإيديولوجي، وتدعو إلى السلم اللامبدئي، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور الأساليب البالية المبتذلة، والى تفسخ بعض الأفراد والوحدات في الحزب والمنظمات الثورية تفسخا سياسيا"، كما يقول ماو تسي تونغ.
ومما يتبين جليا، أن القارئ عليه أن يتوجه إلى الله بالحمد والشكر نظرا لأن الكاتبين قد أكملوا كتابة المقال، ليعرضوا بدائلهم لتجاوز الأزمة والتأصيل الفلسفي / الابستيمولوجي لهاته البدائل، ذلك أن مثل هاته المقدمة هي، كافية بضرورتها المنطقية المحضة - حتى وان ادعوا أن غرضهم التوضيح ورد المزايدات "النظرية والإعلامية" - لإيقاف النقاش عند هذه النقطة. فحينما يكون الصراع الإيديولوجي، و النقد المبدئي، مجرد ضرب من "رفض التقدم وشل النهوض" مبني على "الكذب والوشاية"، ليس هنالك للنقاش الفكري والسياسي، بوجه عام، من دور يلعبه.
دفاع مزيف عن الممارسة، هجوم حقيقي على النظرية :
لكن الأمور تتخذ مباشرة فيما بعد منحى تصاعديا، فتصير ليست فقط الانتقادات الموجهة للبديل الجذري، موضوع الهجوم، بل النظرية ذاتها، ودورها في الحركة الثورية. أو قل، انه يتخذ شكل الهجوم على تصور أصحاب هاته الانتقادات لدور النظرية، بينما هو في الحقيقة هجوم على دور النظرية، وبالتالي على النظرية ذاتها. ومن توضيحات المقدمة بخصوص مضمون مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" وأهدافه يواصلون : "وبالمناسبة سنولي هذا العمل لمن احترفوا هذه الصناعة، إلى أولئك الذين أيقظتهم روح البوعزيزي من سباتهم، وبدل التوجه للفعل في الميدان لتأدية الواجب والضروري ولإنتاج وسائل التقدم والمقاومة، أخذوا بالصياح في العالم الافتراضي، بقوة "منبهي" الجموع لغياب التصور والنظرية على من تطأ أقدامهم ساحة الصراع، وممثلين فرسان النظرية التي تحطم كل القلع، وتفرض ميثاق يحدد من أين تنطلق النظرية وكيف تصاغ ومن خالف الميثاق لا نظرية له. وفي البند الأول والأساسي هو لا نظرية دون التمسح بالأصنام".
الواقع أن مثل هاته الفكرة تنقصها الجدة، لأن وضع "التوجه إلى الميدان، النزول إلى الساحة، الممارسة العملية" في تنافر مع النظرية الثورية والتصور العلمي للثورة، بل ووضع هاته الأشياء كبديل للنظرية هاته والتصور ذاك، ليس أمرا جديدا في تاريخ الحركة الشيوعية، بل كان دائما من الحجج الرئيسية للاقتصادوية والعفوية وان تغير شكلها عبر التاريخ وتطورات الصراع الطبقي المحرك له. الا أن ما ينقص هذه الفكرة ليس حقا الجدة بقدر ما تنقصها الجدية، لأنه من المهزلي فعلا، أن يردد تيار "البديل الجذري" - الذي يزعم لنفسه تبني الماركسية-اللينينية، وتبني مشروع إخراج الحركة الثورية المغربية من أزمتها – مثل هاته المعزوفة وهو يعلم مسبقا تقادمها في الزمن، وأنها كأطروحة نظرية للتجريبية، لا تفعل سوى تقوية الدوغمائية وتغذيتها، حتى وان كانت تصارعها، بل خاصة حينما تصارعها، أما النقيض الرئيسي الذي تلتقيان (التجريبية والدوغمائية معا) على ممارسة العداء له، إنما هو المادية الجدلية.
كما أن هاته الفكرة تحمل ثلاث مغالطات أخرى، فأنصار "البديل الجذري" يحاولون عبرها تمرير وهم خطير، فهم الذين توغلوا، بلا حذر، في توثين الممارسة، قد برهنوا على أكثر مما كانوا يريدون البرهنة عليه. فمحاكمتهم العقلية لا تثبث فقط أن كل من دافع – في خضم الانتفاضات الشعبية الأخيرة في الوطن العربي والمغاربي، وانطلاقا من تحليل أزمتها المتمثلة في غياب القيادة الثورية في هاته البلدان - عن دور النظرية الثورية والتصور العلمي في انجاز الثورة، إنما لم يفعل سوى "الصياح في العالم الافتراضي" وتخلف عن "التوجه للفعل في الميدان لتأدية الواجب والضروري" وحسب، وإنما تثبث أيضا، في سياق الدفاع عن "البديل الجذري"، أن أنصار البديل الجذري - المدافعين الأفذاذ عن الممارسة العملية والمحاربين الأشداء ضد الدوغمائية (يجوز، بل يجدر، قراءتها "ضد النظرية")– وحدهم كانوا في الميدان، وأن باقي المناضلين، وهم بالمناسبة الذين نبهوا لضرورة النظرية الثورية كمرشد للعمل الثوري، لم يكونوا متواجدين في الميدان إلى جانب الجماهير، ولم يشاركوا في تأطير وتنظيم وتجذير نضالاتها المتعاظمة، وهذه هي المغالطة الأولى. أما كان حريا بأنصار البديل الجذري أن يشير إلى أن الاختلاف بينه وبين هؤلاء المناضلين، في الممارسة الميدانية نفسها، إنما هو حول موقع النظرية الثورية، والعلائق الصحيحة بينها وبين الممارسة السياسية الثورية، بدل أن يعلنوا أنهم وحدهم في الميدان – ومقدار صحة هذا التواجد هو أيضا موضع تساؤل وسؤال – وكل ما خلاهم كان مختبئا وراء الحواسيب ؟
إننا لا ننكر وجود "مناضلين" من هذا النوع، وقد تحدثنا عن ذلك في السابق لدى مناقشة النزعة الدوغمائية، وهي حقيقة موضوعية. لكن رفاق البديل الجذري، بتكتيك "مهاجمة أكبر عدد من الناس لحماية قبضة منهم" يسلكون نفس سلوك منظري حزب النهج الديمقراطي، الذي يدعون لأنفسهم هم وحدهم "التواجد في الساحة " و"الممارسة العملية" "الفعل النضالي" وكل من ينتقد خطهم التحريفي الإصلاحي إنما هو "مختبئ في العالم الافتراضي"، وقد فات منظري النهج، كما البديل الجذري، من شدة الولع بالبراغماتية، أنه التواجد الميداني نفسه من عدمه لا يشكل مقياسا لتخطئة خط إيديولوجي وسياسي أو استصوابه (وهذه هي المغالطة الثانية) وإلا، كان سيكون نقد مناضلي "إلى الأمام" - الذين كانوا لا يزالون قلة قليلة جدا في 1970 - لتحريفية حزب "التحرر والاشتراكية" واصلاحيته، نقدا باطلا، بحجة أنهم "غير متواجدين في الميدان"، بل حتى نقد الحزب الشيوعي الصيني وحزب العمل الألباني للأطروحات التصفوية للتحريفيين السوفييت واليوغسلاف كان سيكون أكثر بطلانا وعبثية، لأن الشيوعيين الصينيين والألبان "غير متواجدين في الميدان، في الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا"، وكذلك نقد ستالين للانحرافات الحاصلة في مجال بناء الكولخوزات مثلا، والمقدم في مقاله الشهير "دوخة النجاح"، فهو تافه بلا ريب، لأن ستالين لم يكن فلاحا تعاونيا، وبعيدا عن "الميدان"، أما مؤلفات لينين المكتوبة في الفترات التي كان فيها منفيا إلى سيبريا، أو هاربا إلى فنلندا،و جل كتب ماركس وانجلز، فستستحق – حسب منطق البديل الجذري – الحرق بلا شك !
أما المغالطة الثالثة، وهي أشد وطئا – وأقوم قيلا – هي أن أنصار البديل الجذري، لتسهيل هجومهم على التصور العلمي والنظرية الثورية، يحاولون إظهار "النظرية والتصور" وكأنها هي موضوع النقاش، وليس النظرية الثورية والتصور العلمي، فحين ننبه أن الماركسيين-اللينينيين هم بحاجة للنظرية، فلا نتحدث عن النظرية في ذاتها وبذاتها، ولكن عن حاجتهم لنظرية ثورية، عن حاجتهم لنظرية صحيحة. وحين نناقش ضرورة خط إيديولوجي وسياسي للحركة الماركسية-اللينينية المغربية، فلا نتكلم عن ضرورة خط، أيا كان، بل عن ضرورة خط إيديولوجي وسياسي سديد، فالمهمة ليست بناء التصور أو إنتاج النظرية، بل هي بناء التصور والنظرية الصحيحين، و ذلك ببساطة لأن الأزمة ليست أزمة غياب التصور أو النظرية، بل هي أزمة غياب التصور والنظرية الصحيحين، لكن رفاق البديل الجذري، ومنذ الأسطر الأولى لمقالهم، يجتهدون في إلصاق القول المعاكس بالمناضلين كمقدمة لا بد منها لمهاجمتهم، ولإنجاح ذلك، يوردون حجة سخيفة.
وهاهي نوردها بدورنا، في الحين : "ومنهم من يحلف بأغلظ الإيمان عند رؤية أي نهوض في المرحلة، بأن لا مآل له إلا ما آل إليه التحريفيون، وكأن من انحرفوا لم تكن لهم منطلقات و أهداف واضحة تعبر عن ذلك منذ البداية، بل النهوض هو الذي قادهم للانحراف"، حيث يتبين بوضوح وضع "النهوض" في مقابل "المنطلقات والأهداف"، ليبرهنوا أن النهوض ليس هو الذي يقود للانحراف – وهذا صحيح في مبدئه – ولكن التحريفيين لهم منطلقات وأهداف خاصة قادتهم إلى ذلك المصير، لكن هذا لا يعني الوجود الموضوعي لتقابل مانوي(2) - بل تقابل زرادشتي، بلا خشية من المبالغة - بين النهوض من جهة والمنطلقات والأهداف من جهة أخرى، ان التقابل الذي يمكن أن يوجد، هو بين المنطلقات والأهداف الثورية، لتنظيم ثوري – أي ماركسي لينيني - معين، من جهة، وبين المنطلقات والأهداف التحريفية / الإصلاحية لتنظيم تحريفي، من جهة أخرى. هاته المنطلقات والأهداف هي التي تعطي للنهوض نفسه محتواه، وتفتح أمامه إمكانيات التقدم أو الارتداد.
لقد دعم الحزب "الشيوعي"(اقرأها "التحريفي") الإيراني(3)، عصابة الخميني الظلامية وتحالف معها، مما أدى في نهاية الأمر إلى إصابة الثورة الإيرانية في مقتل، أفلم يكن لهذا الحزب نظرية وتصور يرشدانه، بل ويبرران ممارسته السياسية الانتهازية نفسها، في تحالفه مع القوى الظلامية، واعتبارها، عن ضلال ولتضليل، "قوى مناهضة للامبريالية" ؟ هل كان تذيل الحزب "الشيوعي" الجزائري(4) للقيادة البرجوازية الصغيرة في حرب التحرير المناهضة للاحتلال الفرنسي – والتي أدت إلى تلجيم حركة التحرر الوطني الجزائرية ضمن أفق البرجوازية الصغيرة وإطارها الإصلاحي - ناجما عن افتقاره لنظرية وتصور، أم لامتلاكه لنظرية وتصور خاطئين ؟ وقس على ذلك سائر الأحزاب والتنظيمات التي انزلقت في مستنقع التحريفية، أو ولدت تحريفية منذ البدء. فلم يكن "النهوض" هو الذي أدى بها للانحراف، بل خطها الإيديولوجي والسياسي الخاطئ، ولكن هذا الخط هو الذي أعطى للنهوض مضمونه، وأدى به، على أبعد المدى أو متوسطه – بعيدا عن أوهام العقل البراغماتي، وهو عقل "النتائج الفورية" الذي جرب غير ذات مرة، وتكسر على جدار الواقع - إلى التحول نحو نقيضه تماما، إلى التحول نحو الارتداد والفشل وبالتالي ترك الحركة الثورية تراوح في مكانها، بين ضرورتها التاريخية وإمكان تحققها السياسي. وهذا ما يحتم على الماركسيين-اللينينيين، مهمة إعلاء راية الخط الإيديولوجي والسياسي الصحيح، في وجه الخطوط الخاطئة، وهو وحده العمل من أجل نهوض فعلي، أما إعلاء راية "النهوض" في وجه "النظرية والتصور" بوجه عام، فهو العمل من أجل نهوض وهمي.
المغالطات السابقة بخصوص النظرية تكملها مغالطات لاحقة بخصوص دور الممارسة، رغم أن بعضا من هاته الأخيرة لا ينجم عن المغالطات الأولى بل عن عرض واستعمال مشوهين لأطروحات نظرية صحيحة، لكن ما هو أشد مركزية وأهمية، في سيرورة إنتاج المغالطات اللاحقة حول دور الممارسة العملية، ليس المغالطات السابقة حول النظرية - ولا حتى القولبة المقصودة للأطروحات النظرية الماركسية اللينينية في قالب والبراغماتية والتجريبية – بل الإشكالية التي ينطلق منها أنصار البديل الجذري في بناء هاته المغالطات، فالنقد الحقيقي، حسب تعبير ماركس، "لا يجب أن يتناول الأجوبة بل الأسئلة"، لأن هاته الأسئلة هي التي تحدد مسبقا للأجوبة مسارات تكونها واثبات ذاتها كأجوبة، والتي تستمد إما من الواقع الموضوعي، الذي بدأت تنضج فيه شروط تكون هاته الأجوبة، وإما إلى الطريق المسدود أو حل اللاحل اذا ما انطلق البحث من أسئلة خاطئة، فالبشرية "لا تطرح الا المشكلات التي تقدر على حلها، أو بدأت على الأقل تتراءى شروط هذا الحل في الواقع المادي، وكل مشكلة لا حل لها، هي مشكلة خاطئة، أي مطروحة بشكل خاطئ"(ماركس).
وهاك الإشكالية التي يطرحون : "وإلا فالسؤال المفروض الخوض فيه بدل التيه في هرم بنيان "فكر" شيد بمعزل عن سير تطور التاريخ ويطالب الواقع بالانضباط له هو : كيف أو بم سنتجاوز الوضع القائم ؟ فإذا سلمنا نظريا بضرورة الأداة الثورية، أيكون المخرج هو انتظار قيادة تنزل من السماء لحل اللغز أم سنخرجها إخراجا من عصير النصوص أم إنشاؤها في العالم الافتراضي...؟ ان التنظيم لا يشيد في النظرية ويطالب الواقع بالانضباط له أو التكيف معه. وبكل وضوح، الأمر فيه من يحمل فهما مغلوطا على مستوى الفكر يعكس خيار التلكؤ في الممارسة من جهة، ومن جهة أخرى هناك من ينتظر ليتطابق الواقع مع نص فذلك على طريقة مهدي عامل كخيار لستر العجز"(انتهى الاقتباس).
ان السؤال هنا هو : كيف أو بم سنتجاوز الوضع القائم ؟ لكن هذا السؤال يفتح بدوره على سؤال مقابل : ما الوضع القائم ؟ نعني، ما هي السمات المحددة والملموسة للوضع القائم ؟ نسلم معهم أيضا، نظريا، بضرورة الأداة الثورية – ولا نعلم ما القيمة التي تضيفها كلمة "نظريا" إلى الجملة عندهم، أم أنها بالعكس تنزع القيمة عن ضرورة الأداة الثورية، وتسفهها بتصويرها كمسألة سكولائية – فهل غياب هاته الأداة الثورية / الحزب الثوري في تعبير أصح، هو ميزة الوضع القائم ؟ هذا صحيح، لكن أنتوقف عند هذا المستوى من الواقع، أم نخترقه للنفاذ أعمق فأعمق، لتحليل الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى استمرارية واقع غياب الحزب الثوري للطبقة العاملة ؟ والأهم من ذلك، ضبط العلاقات الصحيحة مابين هاته الأسباب والعوامل، حسب التفاوت البنيوي للمستويات التي تستوي عليها (الايديولوجيا، السياسة، التنظيم) وتفاوت التطور في تأثيرها وفعلها على الحركة الماركسية اللينينية-المغربية، في كل مرحلة من مراحل تطورها على هاته المستويات جميعا ؟ ان فرملة الفكر عند محطة الجرد الحسي الباهت للواقع الذي تتجسد فيه الأزمة، يخفي تحليلا خاطئا يعتمده لدى فهمه لأعماق هذا الواقع الأزموي (نظرية الشكل التنظيمي قبل المضمون السياسي)، وبالتالي يجعل المخرج لا ينفتح الا على إحدى ثلاثة خيارات عقيمة :
- انتظار قيادة تنزل من السماء لحل اللغز.
- إخراجها إخراجا من عصير النصوص.
- إنشاؤها في العالم الافتراضي.
والواقع أن طرح الحركة الماركسية-اللينينية المغربية لأزمتها على بساط البحث والتحليل المادي الجدلي - الذي يتخطى حدود التدوين التجريبي للمعطيات الحسية للواقع نحو الإمساك العلمي بالتناقضات الداخلية والقوانين الموضوعية التي تحركه وتفرز الأزمة المتجسدة فيه كما تفرز التربة المادية للمخرج الممكن – لا يجعلها تضيق رؤيتها في هاته الخيارات الإنكارية، فحين يحاول البديل الجذري، إلصاق هاته الخيارات بخصومه، وإظهار أنهم جميعا، لا تعدو خياراتهم أن تكون هاته الخيارات بالذات، حتى يبين أن لا خيار الا الخيار الذي يطرحه (والذي سنعالجه بعد قليل) – لأنه هو المتبقي، بل هو الوحيد – إنما يعكس أخطاءه المنهجية والنظرية الخاصة، بل والأكثر طرافة، يبسط الخيارات الفعلية، التي يتبناها جميعا في آن واحد – لا على مستوى اللوحات العامة والمشوهة حول "الممارسة" و"الميدان" – بل التي تؤسس لوجوده كتيار "البديل الجذري" : انتظار قيادة تنزل من السماء لحل اللغز، وهي بالمناسبة، تيار البديل الجذري، الذي حل لنا اللغز العتيد بكلمة واحدة "الممارسة"، إخراجها إخراجا من عصير النصوص، لأن التجريبية هي أيضا لا تشجب "النصوص" مبدئيا، بل تلجأ لها أيضا عند الحاجة، لتبرير فلسفتها وإخفاء وجهها الحقيقي، وإنشاؤها في العالم الافتراضي، وذلك أبو الأوهام، "عنوان" البديل الجذري عنوان كل المناضلين الماركسيين اللينينيين المغاربة !
نضع جانبا هذه المفارقة، بصفة مؤقتة على الأقل. حتى يتاح لنا التطرق بعض الشيء للخيار المتبقي الذي يحاجج به أصحابنا بكونه الوحيد الصالح لتجاوز الوضع الراهن، ذلك أن "اجترار الحديث عن غياب الأداة الثورية بعد كل مد ثوري وكل انتفاضة والانتعاش بخلق مراسيم السياحة الثورية، فهو مثله مثل من يذكر الله أثناء مرور جنازة، ولهذا نقول وبكل بساطة ان النهوض لبدأ العمل خير من أن لا نبدأ. فلا مفر من تعلم السباحة، وخير طريق هو الذهاب في الماء، فشرف أن نموت ونحن نحاول ونقاوم الأمواج في خضم الصراع ونبلغ الرسالة لمن هم مستعدون لإتمام المشوار على درب من قدموا دماءهم من قضايا الشعوب. ان المهمة الأصعب هي الخروج إلى الواقع واستكشافه والفعل فيه والتفاعل معه، وهي جعله لغة الفكر وليس العكس."(انتهى الاقتباس).
يظهر أن الترسانة اللفظية phraséologie الماركسية التي كانت تؤثث جوانب المقال فيما قبل، قد تبخرت لدى الوصول إلى هاته النقطة الحرجة وتم الاستعاضة عنها، هي نفسها، بالاستعارات والتشبيهات الرومانسية المقتلعة اقتلاعا من سياقها والمحشوة حشوا في غير سياقها، وذلك بغرض إخفاء عورات هذا الطرح. لكن لا بأس، فهذه هي وظيفة النقد في الأصل، أي استكشاف مفاصل الطرح وعوراته وحتى وان حاول أصحابه إخفاءه وراء المحسنات البلاغية (وراء "الفذلكة" التي ثارت ثائرة الرفاق على أن تكون على طريقة مهدي عامل، بينما يجيزون استعمالها على طريقتهم الخاصة) بل استكشاف هاته المفاصل والعورات من خلال هاته المحسنات نفسها، والتي لا يمكن لها أن تفلت، مهما اشتد إتقانها وتنميقها، من الأسس النظرية و الفلسفية التي تقوم عليها.
ان اجترار الحديث عن غياب الأداة الثورية هو كمثل من يذكر الله لدى مرور جنازة، هذا صحيح. لكن أليس اجترار الحديث عن "الذهاب إلى الميدان" كمثل من يرد هو أيضا، على الأول بعبارة دينية أخرى ؟ فعلى العاطس أن يقول وفقا لتعاليم الاسلام "الحمد لله" لدى العطس، وعلى من يكون بجانبه أن يقول "رحمك الله" فيرد عليه الأول "يغفر لي ولك الله". تظهر أزمة الحركة الثورية جلية في الانتفاضات الشعبية، فتنادي الدوغمائية بضرورة الأداة الثورية دون أي توضيح نظري أو عملي حول مفاصل انجازها بالضبط، فترد عليها التجريبية بضرورة النزول إلى الميدان...وهكذا دواليك، حيث يظهر التلازم الضروري بين التجريبية والدوغمائية كما هو، عند لينين، بين الانتهازية والفوضوية، بين الانسحابية والتصفوية، حيث تغذي النزعتان، المثاليتان والميتافيزيقيتان، بعضهما البعض في الصراع ضد بعضها البعض. ربما فات أنصار البديل الجذري، أن أسوأ ما في التشبيه الذي أعطوه، هو كونه اذا ما مدد إلى أقصى تطوره المنطقي، إنما ينقلب عليهم.
ولهذا يقولون، وبكل بساطة "أن النهوض لبدء العمل خير من أن لا نبدأ، فلا مفر من تعلم السباحة، وخير طريق هو الذهاب في الماء"، هاته العبارة، هي على غموضها وإبهامها، تركز الأطروحة النظرية الأساسية لتيار البديل الجذري، التي لم يكتب مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" الا لأجل التأصيل لها فلسفيا، وابستيمولوجيا بالأساس، أي في نظرية المعرفة، لأجل إعطائها مظهر أطروحة نظرية ماركسية-لينينية. ولكشف ذلك نواجهها بسؤال : في سياق هاته الأزمة المزمنة التي تتخبط فيها الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، على المستويات الثلاثة المتفاوتة فيما بينها بنيويا وتطوريا، ما المقصود بالضبط ببدء العمل ؟ أو بالأحرى، حين نتحدث عن "بدء العمل" لأجل إخراج الحركة الماركسية اللينينية من أزمتها المزمنة، ما العمل الذي نتحدث عنه بالضبط ؟ أهو بناء الخط الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي للأداة الثورية، وبالتالي برنامجها الثوري ؟ أم هو بناء هذه الأداة تنظيميا ؟ أم هما معا ؟ وفي الحالتين، لأي عملية تعود الأولوية في العملية الشاملة لبناء الأداة الثورية ؟ أهو بناؤها إيديولوجيا وسياسيا، أم بناؤها تنظيميا ؟
من الواضح أن سخرية رفاق البديل الجذري السابقة من النظرية وموقعها في النضال الثوري - وتسفيههم لأطروحة الدور المحدد للخط الإيديولوجي والسياسي في كل شيء، بما فيه البناء التنظيمي نفسه، الذي يرتبط بالخط الإيديولوجي والسياسي في شكل خط تنظيمي – إنما تسهل البحث على الباحث بإزاحتها لعدد لا بأس به من الخيارات المتاحة. فلا يمكن لرفاق البديل الجذري القول بأن "بدء العمل" هو بناء الخط الإيديولوجي والسياسي للحركة، لأن هذا ما انتقدوه بالضبط في ما سبق لحد الآن، ولو كانوا ليدافعوا عنه لما تكبدوا عناء كتابة كل هذا المقال. وقد يقال كذلك : ان البديل الجذري لا ينادي بكون "بدء العمل" هو البناء التنظيمي وحد، وليس البناء الإيديولوجي والسياسي وحده، بل الاثنين معا، في "علاقة جدلية"، أو "ترابط جدلي". لكن ذلك، والانتقائية بوجه عام، لا تحل مسألة الأولوية، لا تعطي، ولا يمكن لها أن تعطي، فكرة واضحة (بغض النظر عن صحتها) عن الأسبقية مابين المستويات الثلاثة في سيرورة البناء، وبالتالي تفاوتها البنيوي.
ان الخيار الوحيد الذي ينفتح عليه منطق البديل الجذري، ويتسع له تفكيره النظري، هو أن "بدء العمل" يعني بالضرورة بدء البناء التنظيمي للأداة الثورية، وهذا في أحسن الحالات، ذلك أن محاججة رفاق البديل الجذري غالبا ما تشتط، متعدية واقع غياب التنظيم الثوري نحو وهم غياب الممارسة العملية للماركسيين-اللينينيين وعدم وجودهم في ميدان الصراع الطبقي ومعمعانه، وأن البديل الجذري هو الذي سيقوم، ولأول مرة، بإخراج الماركسيين-اللينينيين نحو الساحة النضالية. لكن، هاته المحاججة في حدودها المعقولة ذاتها، أي في نطاق المناداة بالبناء التنظيمي ك"بدء للعمل"(إنتاج وسائل التقدم والمقاومة، في تعبير سابق بالمقال نفسه)، تنطوي على منزلقات خطيرة، وذلك، كما قلنا سابقا، قبل حتى أن تتخطى حدودها المعقولة، لتبلغ ما بعدها – أي بإنكار الارتباط العملي للمناضلين الثوريين بالساحة النضالية والميدان – إلى حدود هي، ان صح التعبير، حدودها المجنونة.
وهاته المنزلقات يولدها الفهم المقلوب للعلاقة بين التنظيم والنظرية والممارسة، فبدل النظر إلى التنظيم كوسيلة، كحلقة توسط لتحقيق الهدف (المجسد في خط التنظيم وبرنامجه السياسي) في الممارسة السياسية الثورية، وبالتالي يتحدد شكله بمضمون هذا الهدف، يتم النظر إليه، عكسيا، كغاية في ذاتها. أو في أحسن الحالات، كحلقة توسط يتم من خلالها معرفة الهدف نفسه، المجسد في خط التنظيم وبرنامجه الذي يتحدد مابعديا posteriori، وفي هاته الحالة سيكون الشكل التنظيمي محددا ماقبليا apriori – بل، وهذا هو الأنكى، تشكله الممارسة العملية، لا الخط الإيديولوجي والسياسي الذي يوجهها، وهذا محور مستقل في النقاش سنأتي عليه بعد قليل – ومابين ماقبلية التنظيمي ومابعدية الإيديولوجي والسياسي، لا يبقى شيء من اللينينية بل من الماركسية، بله من التراث الثوري للبروليتاريا المغربية والحركة الماركسية-اللينينية المغربية.
لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء، هذا صحيح. لكن هل سنعرف بذلك، إلى أين يجب أن نسبح بالضبط ؟ فالنزول إلى الماء يعلم السباحة، لكنه لن يحدد للسابح وجهة السباحة وان كان هذا السابح سباحا. فحتى لو قضى عمره كله في الماء (الممارسة) لن يستطيع معرفة نقطة وصوله الا بالاعتماد على بوصلة (النظرية)، نقطة الوصول هاته هي التي تحدد للسباح طريقة السباحة نفسها ووسائلها (التنظيم)، في تلاؤم هاته الطريقة مع الشروط الملموسة للمياه التي يسبح فيها. اللهم ان كان يريد التخبط في الماء بلا وجهة (صيغة برينشتاين : الحركة هي كل شيء، الهدف لا شيء) حتى تخور قواه فيغرق، أو يستنجد بضفة آمنة دافئة، والمستنقعات هي بالمناسبة، أكثر الأمكنة المائية دفئا وأمانا على الإطلاق. يعتقد البديل الجذري، أن مشكلتنا أننا يجب أن نتعلم السباحة، لذلك يجب أن ننزل للماء إذ أننا لسنا فيه، لكن المعضلة غير ذلك، إذ أننا في الماء، وما نحن بحاجة إليه ليس في الحقيقة أن نتعلم كيف نسبح، بل أن نعرف أين نسبح، وتبعا لذلك سنعرف كيف نسبح بشكل صحيح، أفضل من سباحتنا العفوية اليوم التي تقودها الضبابية والتيه.
ان الطبقة العاملة المغربية بحاجة إلى خط ماركسي لينيني، على الصعيد الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي، وحتى العسكري. وبلورة هذا الخط سيرورة مادية تخضع لقوانين موضوعية، مهمة الشيوعيين حيالها هي معرفة هذه القوانين واستخدامها بشكل جيد، و هذه المعرفة هي، كما يقول ماو، مسألة علم. وبالتالي فان استبدال التحليل العلمي (أو شبهه) بالرومانسية - والمحسنات البلاغية على شاكلة "فشرف أن نموت ونحن نحاول ونقاوم الأمواج في خضم الصراع ونبلغ الرسالة لمن هم مستعدون لإتمام المشوار على درب من قدموا دماءهم من قضايا الشعوب" – لا تحل شيئا البتة، بل بالعكس تكرس الأزمة وتعمقها، بتكريسها لنهج العفوية الذي يؤدي إلى إضاعة طاقة المناضلين والجماهير والرمي بالجميع إلى منحدر التحطم، ولعل التجربة التاريخية لممارسة "الثورة" الكوبية ونظريتها، وما آلت إليه، والدروس الغنية والمريرة أيضا لحركة 3 مارس 1973 البلانكية، وما انتهت عليه، لهي الجدران الحجرية التي تتكسر عليها الذاتية والرومانسية ويتصلب عليها العلم والمادية.
حول النظرية والعلم، المنهج والفلسفة / تهافت الابستيمولوجيا الوضعية :
بعد بسط الحل الذي يراه رفاق البديل الجذري مخرجا من الأزمة – والذي تقدمنا عبر ما سبق بمناقشته ونقده وكشف الأسس النظرية التي يقوم عليها – ينطلقون في رحلة لتأصيل هذا الحل فلسفيا، أو قل لتبريره. عند هاته النقطة، يقتحم الرفاق مجال الفلسفة، وبالتحديد نظرية المعرفة، وذلك في محاولة جاهدة للبرهنة على أن هذه الإجابة لها جذورها العميقة في المادية الديالكيتكية، ومقاربتها للعلاقة مابين النظرية والممارسة، وكيف تتولد النظرية من الممارسة وتختبر النظرية في الممارسة. لكن التبني اللفظي للمادية الديالكيتكية شيء، والتبني المعرفي لها شيء آخر، أو لنقل ان تبنيها في اللفظ شيء، وفي المعرفة شيء آخر. وأول شيء يتم التطرق إليه - من بين أشياء عدة، كمفهوم النظرية، وأصل تكونها، وعلاقتها بالنشاط العملي للانسان، وأبحاث انجلز ولينين بهذا الصدد – هو مفهوم النظرية نفسه، والحدود الذي يرسمه لها تعريفها والتي يمكن إزاءها تحديد النظرية من غيرها، وينطلق هذا التعريف من أنه "يستعمل أحيانا مفهوم النظرية بشكل واسع ومطاطي للتعبير عن كل معارف الإنسان، أي أن الاستعمال لا يطال معرفة محددة بل المعرفة بشكل عام، وتكتسي النظرية، من هذا المنطلق، معنى المرادف للمعرفة، في حين أن المعرفة لا يمكن أن تؤول وتختزل في النظرية ولا في مجموعها."
لذلك، وتبعا لرفض التعريف الواسع والمطاطي السابق "فالنظرية هي بالمعنى الدقيق هي المعرفة العلمية، أي هي شكل من أشكال الفكر الخاصة المحددة في تطور المعرفة الإنسانية، وهذا لا يعني أن النظرية مجال ضيق، بالعكس هي حقل واسع من المعرفة، ويتسع بطريقة منتظمة مصحوبة بعملية الهدم والبناء، بالتقدم في عملية الوصف والتفسير لظاهرة أو مجموعة من الظواهر في ضرورتها وفي علاقتها المتعددة الجوانب، وفي حركتها وتناقضاتها، وإتاحة المعرفة بأسبابها وبالأساس الحقيقي للأطروحات وبحججها ومبرراتها".
ثم يواصلون : "وتعكس درجة معرفة الإنسان لعملية الترابط والتكامل الكلية الكونية على صيغة قوانين مكتشفة، وهذا التعريف البسيط لا يستفي ويستنفذ جميع المحتويات والمضامين والوجوه لمفهوم النظرية ومع ذلك يحتوي الأساس في الشروط التاريخية من تطور الحضارة الإنسانية، فمثلما العالم الواقعي لا يتكون من الأشياء الجاهزة والتامة، أي من التباث، فكذلك انعكاساتها في فكر الإنسان، لهذا فالتحديد النهائي للمعنى سيفقد المعنى، لأن ما نكسبه من معرفة تحدده الظروف والمستوى الذي وصلته الإنسانية في صراعها من أجل إنتاج شروط عيش جديدة وهذه المقدمات هي في تفاعل وتغير مستمرين".
نوقف الاقتباس هنا لنبدي بعض الملاحظات الأساسية، ذلك أن التعريفات المختلفة، بخصوص المواضيع المتنوعة في الابستيمولوجيا (النظرية، المعرفة، العلم، الممارسة، الفرضية...الخ)، تعبر بالضرورة عن موقف محدد في الابستيمولوجيا. فليس التعريف معطى بديهيا مسبقا أمام الفكر للانطلاق منه في بناء نظرية للمعرفة، حيث أن الاصطفافات الرئيسية في هذا المجال لا تتحدد الا بالقراءات المختلفة لهاته التعاريف، من طرف شتى تيارات الفكر، بل بالعكس من ذلك، فعملية الانطلاق في بناء نظرية للمعرفة ابتداء من تعريف، لا تبتدئ في الحقيقة من التعريف، وإنما من عملية بنائه ذاتها، رغم أن اتساق الفكر مع ذاته – أي سلامته المنطقية – ليست شرطا محققا دائما، خاصة حينما نتحدث عن الانتقائية المميزة للاتجاهات المعادية للمادية الديالكيتكية، لكن ما نريد أن نخلص إليه، في التحليل الأخير، هو أن مفهوم رفاق "البديل الجذري" عن النظرية، يعكس موقفا محددا في نظرية المعرفة، وبالتالي يحمل بذور كل مناقشاتهم الابستيمولوجية اللاحقة حول أصلها ودورها وعلاقتها بالنشاط العملي.
ينطلق هذا التعريف، أولا، من تمييز بين المعرفة والنظرية. إذ أنهم يرفضون مفهوما للنظرية يستعمل للتعبير بشكل "واسع ومطاطي عن كل معارف الإنسان" في مرادفة بين المعرفة والنظرية، دون الأخذ بعين الاعتبار، تمييز معرفة محددة عن غيرها، وتحديد هاته بالتالي بكونها نظرية، ان موضوع المعالجة هنا هو التنوع الكيفي للمعرفة الإنسانية، فليست كل معرفة بالضرورة معرفة نظرية، وذلك لأن الإنسان يواجه، في حياته اليومية، كما هائلا من المعارف ليست كلها معارف نظرية، وبهذا الصدد، فان أي شخص مثلا، له معارف معينة متعددة، عن أقربائه، عن الأماكن، والأشخاص المحيطين به وعن نفسه. ولكن هذه المعارف ليست معارف نظرية، لأن الانعكاس الحسي للواقع الموضوعي، أي للعالم الخارجي، المادي، ليس معرفة نظرية، وليس دائما، قابلا للتحول إلى معرفة نظرية، وذلك ليس بطبيعة الواقع الموضوعي، بل نظرا للشروط التاريخية التي تحدد الإمكانات الذاتية للمعرفة، وصيرورتها معرفة نظرية انطلاقا من الانعكاس الحسي وعلى قاعدته.
إذن أي معرفة للانسان يمكن تمييزها بأنها معرفة نظرية ؟ إنها المعرفة التي تتخطى حدود الانعكاس الحسي لظاهر الواقع نحو الإمساك بالقوانين الموضوعية التي تحركه، أي بالروابط الضرورية بين عناصره، هذا التمييز المرتبط بالتنوع الكيفي للمعرفة لا يقف ضد المبدأ المادي لوحدة العالم، بل بان هذا التنوع نفسه ليس سوى انعكاس لعلاقات إدراكية بالواقع مختلفا كيفيا. لكن هذه الإجابة – وهذا ما يجب أن ينتبه إليه كل من ينطلق من منهج التحليل المادي التاريخي - تفتح بدورها على سؤال آخر، فإذا كانت المعرفة النظرية، ليست سوى مرحلة عليا في تطور الانعكاس الموضوعي للعالم المادي في فكر الإنسان، كيف تطورت هذه المعرفة تاريخيا ؟ وبالتالي، ما هي الأشكال التاريخية المحددة التي اتخذتها هاته المعرفة النظرية خلال التطور الاجتماعي/التاريخي للإنسانية ؟ ان رفاق البديل الجذري في محاولة تعريفهم للنظرية يغفلون هذا السؤال الأساسي، فينزلقون - في غمرة التفريق بين المعرفة والنظرية، والنضال ضد المماهاة الشائعة بينهما – في وهم المماثلة، في النظرية ذاتها، مابين العلمي وغير العلمي فيها، مابين المعرفة النظرية والمعرفة العلمية، وذلك على قشرة الموز التي تقضي بالاكتفاء بالتمييز بين المعرفة الحسية والمعرفة النظرية تمييزا تجاوريا.
ان هذا الانزلاق هو النتيجة المنطقية للسير بعيدا عن التحليل التاريخي، فلا يكفي التحليل المادي للمعرفة أن يكون ديالكتيكيا، بل عليه أيضا – وهنا تتجسد ديالكتيكيته فعلا – أن يكون تاريخيا، فحركة التاريخ هي مجال اختبار نظرية المعرفة الماركسية، وليس المجرد مجاله، ولا يمكن له أصلا أن يكون له كذلك. فالمعرفة النظرية لم تكن دوما معرفة علمية، وليست بسبيلها دوما أن تكون كذلك، فكيف يمكن أن نقارب، تاريخيا، ظهور المعرفة النظرية عند الإنسان ؟ وما المدخل لفهم الحدود القائمة بين النظري والعلمي، أو بالأحرى، بين العلمي وغير العلمي في النظري ذاته ؟ وبالتالي فهم التكون المعرفي للنظرية العلمية انطلاقا من المادية الديالكيتكية ؟
ان أول خطوة على طريق التحليل المادي التاريخي للمعرفة، هو التحرر من مفهوم "الإنسان" نفسه، فدراسة الإنسان في الحقيقة لا تنطلق من الإنسان، بل من العلاقات الاجتماعية الذي ليس هو سوى نتاج تاريخي لها، فالإنسان لا ينوجد الا في علاقات اجتماعية – هي بالأساس، وليس بالمطلق، علاقات إنتاج - والتي هي الإطار الضروري التي تتطور ضمنها علاقة الإنسان بالطبيعة، وإذا كان الحال هكذا، فعلاقة الإنسان بالطبيعة لن تكون سوى علاقة الإنسانية بالطبيعة، علاقة هاته الأخيرة بالمجتمع الإنساني ككل. أما "الإنسان" المجرد المعزول، الذات المفترضة التي تنصهر فيها علاقات الإنتاج لصالح القوى المنتجة، وبصيغة أعم علاقات الناس بعضهم البعض لصالح علاقتهم بالطبيعة، فهو الوهم المثالي / الميتافيزيقي المتجذر في المادية الميكانيكية وحتى آخر أشكالها ما قبل-الماركسية، أي المادية الأنثروبولوجية لفيورباخ، التي سميت كذلك انطلاقا من مركزية مفهوم "الإنسان anthropos" في بنائها الفلسفي، فكانت بالتالي، كشكل للمادية الميكانيكية، مادية أناسية. وبالتالي، فان تحول ماركس وانجلز المطرد نحو القطع مع استعمال لفظ "الإنسان" نفسه في كتاباتهما، والتحول إلى استبداله بالناس / البشر والإنسانية / البشرية كان يعكس نضالهما من أجل القطيعة المعرفية مع المادية الأنثروبولوجية ومع الانسانوية بعامة، لأن مفهومها عن "الإنسان" كان عامل تكبيل لتطور الفلسفة المادية، قياسا إلى مستوى الفتوحات العلمية الجديدة.
فدراسة المعرفة عند الإنسان هي دراسة المعرفة عند الإنسانية، في علاقة هذه المعرفة بنضال الإنسانية من أجل إنتاج وإعادة إنتاج شروط عيشها أي النضال من أجل الإنتاج، والتجربة العلمية، وأيضا في علاقتها بالصراع الدائر صلب الإنسانية نفسها، أي الصراع الطبقي (وليس النضال الأول وحسب، كما يتوهم كاتبو المقال). وبالتالي فان المعرفة الإنسانية بمختلف أشكالها، تقاس في ضوء علاقتها بالممارسة الاجتماعية للإنسانية، أي بنشاطها العملي. هاته الأشكال التي تختلف كيفيا، في ارتباطها بهذا النشاط العملي ذاته. وبحث السيرورة التاريخية لنشوء هذا الاختلاف الكيفي، أي هذا التمايز الناشئ بين الكم الغزير للمعطيات والوقائع الحسية التي يكتسبها الانسان / الإنسانية يوميا، والمرتبطة ارتباطا وثيقا بممارستها الاجتماعية من جهة، وبين المعرفة النظرية التي تملك استقلالا نسبيا عن هاته الممارسة، وتتطور – في إطار علاقتها بها – على صعيدها الخاص، وقوانينها المميزة، أي أن المعرفة النظرية لا توجد الا في المستوى الذي يمكن إزاءه أن تستقل فيه المعرفة عن الممارسة، فمن المعلوم أن علم الفلك قد بدأ أولا انطلاقا من حاجات المجتمع في النشاط الزراعي، ولكنه صار معرفة نظرية عندما صار بإمكانه أن يكتسب استقلالا نسبيا عن وظيفته العملية المباشرة.
ان المعرفة النظرية كانعكاس للضرورات الموضوعية والعلاقات الداخلية بين ظواهر العالم المادي، كانت انعكاسا للضرورات الموضوعية للحركة في هذا العالم - لهذه الحركة المادية / المادة المتحركة التي هي العالم المادي نفسه – التي تتخذ أشكالا متعددة، يتطور كل منها وفق قوانينه الخاصة، و ينفي أحدها الآخر من حيث مستويات تطورها كحركة مادية، فالحركة الاجتماعية أعلى من الحركة الطبيعية، وتضمها في آن، كما الحركة الطبيعية الإحيائية (ما بعد ظهور أول كائن حي) أعلى من الحركة الطبيعية ما قبل-الإحيائية وتنفيها، في الحركة الطبيعية نفسها، كما أن الحركة البيولوجية أعلى من الحركة الكيمائية (التي بدورها تنفي الحركة الميكانيكية)، في الحركة الطبيعية ما قبل-الإحيائية ذاتها بدورها. ان التنوع الكبير في أشكال الحركة المادية يفترض تنوعها في أشكال الوعي بها وفهمها، كما أن الفرق بين فهم الحركة المادية في كل شكل من أشكالها الخاصة، وبالتالي القوانين التي تحكم تطور كل شكل منها، من جهة، وبين الحركة المادية في قوانينها الكلية، يفرض التمييز بين موضوعين للمعرفة النظرية، فالقوانين الكلية للحركة هي موضوع الفلسفة، أما القوانين الجزئية التي تتطور حسبها الأشكال المختلفة للحركة هو موضوع العلوم المختلفة، لم تعرف المعرفة النظرية، في أول شكل تاريخي لها، هذا التمييز القائم في عصرنا بين الفلسفة والعلوم، فباحتكار الفلاسفة للمعرفة النظرية – في اليونان مثلا – كان غياب هذا التمييز لصالح الفلسفة، التي كانت أول شكل تاريخي للمعرفة النظرية للإنسانية.
لذلك فان القفز الذي يقوم به رفاق البديل الجذري، بسرعة، من نقد المماثلة مابين المعرفة والنظرية إلى المماثلة مابين النظرية والمعرفة العلمية، قفز إلى واد من الضلال الفلسفي نشك حقيقة في قدرتهم على الصعود منه بسهولة، بل ان هذا الصعود سيدخل مع الانتقال نحو مزيد من معالجتهم للنظرية، مجالا شائكا لاستحالة فعلية. لكن، قبل التعرض بالدراسة والنقد لهاته المعالجة، لا بد من استكمال ما بدأنا في نقد المماثلة الأولى، لأنها الأساس الابستيمولوجي للمعالجة اللاحقة من جهة، وللأطروحات النظرية السابقة – كتلك التي حول النظرية والتنظيم والممارسة– من جهة أخرى. قلنا أن الفلسفة تختلف عن العلم، وأن هذا الأخير لم يأخذ مكانه المستقل في الفكر النظري الا بعد تطور تاريخي طويل، لدى انفصاله النهائي عن الفلسفة، هذا الانفصال لم يكن أبدا قطيعة بينهما، بل كان تمايزا في المستويات التي يدرسان عليها الواقع عموديا دون أن يكون تجزيئا أفقيا للواقع يأخذ كل منهما شبرا يكون له موضوعا، هذا الوهم، والذي هو نظرية القطيعة، كان نفسه من أشكال ارتباط الفلسفة بالعلم، أو بالأحرى شكلا لارتباط أحد تيارات الفلسفة بالعلم، ما تجسد بقوة في الفلسفة الوضعية.
في هاته النقطة بالضبط، تظهر ملحاحية ارتباط مادية الفهم العلمي لتطور المعرفة النظرية عند الإنسانية بتاريخيته، أي الضرورة في أن ننظر للمعرفة الإنسانية ليس من حيث علاقة الإنسانية بالطبيعة بل وأيضا في علاقة الناس بعضهم بعضا، في الصراع الطبقي، أي التناقض الرئيسي في المجتمع، في ممارساته المتناقضة على المستويات البنيوية الثلاثة (الاقتصادي، السياسي، الإيديولوجي) للكل الاجتماعي، والذي يؤسس له، على المستوى الاقتصادي، التناقض الأساسي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. فالفلسفة ليست معرفة نظرية بالقوانين الكلية للحركة فحسب، وإنما هي أيضا مجال للصراع الطبقي وبالتالي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي الذي يعبر عن واقع هذا الصراع، في ارتباطه بفتوحات العلم واكتشافاته نفسها، فالصراع بين المادية والمثالية– والذي هو جوهر كل تطور الفلسفة منذ ظهورها حتى اليوم - هو أيضا شكل إيديولوجي للصراع الطبقي، أو أدق، لممارساته. وحين يرتبط بالعلوم الطبيعية مثلا، لا يكون شكل هذا الارتباط مماثلا لشكل ارتباط هاته العلوم ببعضها البعض، فالاكتشافات الجديدة في الكيمياء الحيوية مثلا تساعد في الإجابة على إشكالات عالقة في البيولوجيا، وتقوم البيولوجيا بالتالي باستدماجها، كشرط ضروري لتطورها، لكن الطابع التناقضي للفلسفة، في الصراع بين المادية والمثالية، في علاقة هذا الصراع نفسه بالصراع الطبقي، يجعل الصراع من أجل استدماجها في تطور الفلسفة يأخذ أشكالا مختلفة حسب معسكرات الصراع فيها نفسها، فالماديون الفرنسيون في القرن 18 مثلا، تمثلوا اكتشاف الذرة على نحو يختلف عن محاولات تطويع هذا الاكتشاف بالقسر لدى المثاليين – نظرية المونادات عند لابنيتز بالأساس – والاستيعاب المادي لهذا الاكتشاف وحده أتاح للفلسفة، في تلك الحقبة، إمكانية آفاق جديدة للتطور.
ومثلما تؤثر العلوم على الفلسفة، فان هاته بدورها توثر على العلوم. ويفتح تطور الصراع صلبها – الفلسفة – إمكانيات مسارات متناقضة لتطور العلوم، فالاستيعاب المادي للاكتشافات العلمية لا يفتح آفاق التطور أمام الفلسفة وحدها، بل ان المادية نفسها تفتح آفاق التطور للعلوم، وتطور المادية، عبر التاريخ، تفعل فيه العلوم ويفعل فيها بدوره، إذ أن الاكتشافات الثلاث الكبرى في القرن التاسع عشر (الخلية، تحول الطاقة، تطور الأنواع) وضعت أمام المادية تحديا حقيقيا ما كان لها أمامه الا أن ترمي عنها ميكانيكيتها وتستحيل مادية ديالكتيكية، كما أن هاته الأخيرة وفرت بدورها الأساس لمزيد من التطور اللاحق للعلم والذي تجسد مثلا في الثورة الكوانتية في علم الفيزياء. وبالضد من ذلك، فان المثالية والميتافيزيقا كان لهما بالغ الأثر في عرقلة التطور العلمي والفلسفي معا، في علاقة هذه العرقلة بمصالح الطبقات الرجعية في التاريخ.
هاته البنية من التداخل والاستقلال النسبي ما بين الفلسفة والعلوم، في وحدة المعرفة النظرية للإنسانية، في تطورها التاريخي، في علاقته بالتطور الاجتماعي للإنسانية وتناقضاته الخاصة، هي المدخل نحو فهم صحيح للنظرية، يرصدها حسب تطورها الفعلي، لا حسب ما يراد بالوهم أن يلصقه بها كتطور لها، انطلاقا من "نظرية" افتراضية و"ممارسة" افتراضية وبالأخص "إنسان" افتراضي، بعيدا عن التاريخ وحركته الملموسة، فعبارة - "وتعكس درجة معرفة الإنسان لعملية الترابط والتكامل الكلية الكونية على صيغة قوانين مكتشفة، وهذا التعريف البسيط لا يستفي ويستنفذ جميع المحتويات والمضامين والوجوه لمفهوم النظرية ومع ذلك يحتوي الأساس في الشروط التاريخية من تطور الحضارة الإنسانية، فمثلما العالم الواقعي لا يتكون من الأشياء الجاهزة والتامة، أي من التباث، فكذلك انعكاساتها في فكر الإنسان، لهذا فالتحديد النهائي للمعنى سيفقد المعنى، لأن ما نكسبه من معرفة تحدده الظروف والمستوى الذي وصلته الإنسانية في صراعها من أجل إنتاج شروط عيش جديدة وهذه المقدمات هي في تفاعل وتغير مستمرين" - التي يحاول بها رفاق البديل الجذري إضفاء بعض التاريخية المفقودة على تحليلهم الابستيمولوجي، ليس في أحسن الحالات سوى تزيين تاريخاني historiciste لتحليل لاتاريخي(5)، فمقاربة التطور الاجتماعي والمعرفي للإنسانية تاريخيا، ينطلق من التناقضات التي تفرز الحركة الاجتماعية والمعرفية، أما الانطلاق من الحركة نفسها، من سطحها وظواهرها الخارجية، بطريقة يصير فيها كل تعاقب زمني حقا تعاقبا تاريخيا، فهي مجرد تاريخانية لا تمس الجوهر الأساسي للمنزلق، وهي اقتلاع علاقة الناس بالطبيعة عن الإطار البنيوي التي تتطور ضمنه هاته العلاقة ( علاقتهم ببعضهم البعض ).
ذلك أن انعكاس الواقع في دماغ الانسان، في شكله النظري نفسه، ليس بالضرورة أن يكون دائما صحيحا، سواء تعلق الأمر بادراك الواقع في قوانينه الكلية، أم في إدراك كل شكل خاص من أشكال حركته، وهذه العملية لا تتدخل فيها علاقة الإنسانية بالطبيعة وحسب (مستوى التطور التقني والعلمي)، بل وأيضا الصراع الطبقي، هذا لا يعني، كما يتوهم البعض وجود "حقيقة سياسية" أو "حقيقة طبقية"، "علم برجوازي" و"علم بروليتاري" مثلا، أو "علم تقدمي" و"علم رجعي"(6) في تعبير آخر، بل أنه يوجد علم واحد وحقيقة موضوعية واحدة، يكون اكتشافها واستثمارها مجالا لصراع طبقي خاصة في العلوم الاجتماعية وهذا ما سنأتي لتحليله بعد قليل، فالعلمية المطلوبة في الفكر تتحدد بمضمونه، في قدرته على عكس القوانين الموضوعية للواقع المادي ولحركته، بشكل صحيح، وليس شكله النظري كافيا، بذاته ولذاته، في اتباث ذاته كفكر علمي، نجد أنفسنا، في أحايين كثيرة، أمام نظريات غير صحيحة.
لقد كانت نظرية لامارك Lamarck (7)حول تطور الأحياء تقوم على مبدأين أساسيين : الأول هو مبدأ الاستعمال / عدم الاستعمال، فالعضو الذي يستعمل بوتيرة عالية من طرف المتعضي ينمو ويستمر، أما العضو الذي لا يستعمل فينحو نحو الضمور و الاضمحلال،و الثاني هو وراثة الصفات المكتسبة، فالصفات التي يكتسبها المتعضي خلال دورة نموه، هي قابلة – حسب لامارك - للانتقال وراثيا إلى خلفه، ويحدث تطور الأنواع في الطبيعة انطلاقا من تفاعل هذين المبدأين. ومن المعلوم أن داروين، لدى اكتشافه للانتخاب الطبيعي كمحرك للتطور البيولوجي، لم يتقدم بتفسير لعامل انتقال الصفات الوراثية من السلف إلى الخلف، واعتبر، في سياق تعميماته حول التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي في "أصل الأنواع"، أن هذا العامل لا يزال غير معروف بعد بالنسبة للعلم (وان كان قد وضع فرضيته لتفسير الوراثية بشمولية التخلق سنة 1868، المستوحاة من أبقراط والتي لم تعط أهمية حتى لاكتشافات مندل، المعاصر له) هذا ما وفر للاماركية أرضية كي تستمر، خاصة على أيدي ميتشورين عالم النبات الروسي الشهير، الذي بنى صرحه النظري في علم الوراثة على أرضية اللاماركية، أبحاث ميتشورين بدورها وجدت طريقها إلى التعمق والاغتناء مع تروفيم ليسنكو، صاحب الكتاب الضخم "البيولوجيا الزراعية" الذي كان له أعمق الأثر في حسم الصراع حول قوانين الوراثة في الاتحاد السوفياتي ضد المندلية، وبالتالي مشتقاتها وتفرعاتها لدى وايزمان ومورغان مثلا.
ذلك أن الاكتشافات الجديدة في علم الوراثة وضعت البيولوجيا في قمقم أزمة ابستيمولوجية حقيقية، فالقوانين التي تحكم انتقال الصفات الوراثية من الكائن الحي إلى نسله، تعتمد على علاقات إحصائية لا تأخذ بعين الاعتبار ظروف الوسط / العالم الخارجي التي يوجد فيها الكائن الحي، والتي هي بالضبط ظروف الصراع على البقاء والضغط الانتخابي المسلط على الفرد والنوع معا، وهذا ما وضع علم الأحياء أمام الإشكال المحير : اذا كانت القوانين المندلية لا تعترف بأثر الوسط على الصفات الوراثية، وبالتالي لا وجود لصفات مكتسبة، ما هو أصل التغيرية الوراثية ؟ كيف يتم حفظ صفات وطرح أخرى عبر الانتخاب الطبيعي، اذا ما كانت هاته الصفات أصلا، لا تحسب للعالم الخارجي حسابا ؟ لقد انبثقت هاته الأزمة المعرفية انطلاقا ما بدا كتناقض مابين المبادئ الداروينية للتطور البيولوجي من جهة، والقوانين المندلية للوراثة من جهة أخرى، ولم تكن المحاولات الحثيثة لاكتشاف المادة الوراثية - مثل تجارب غريفيت Griffith الذي سماها بالعلة المحولة– بحد ذاتها كافية للخروج منها، وفي هاته الشروط العصيبة، برز اتجاهان رئيسيان في التعاطي مع المندلية.
الاتجاه الأول عبر عنه العلماء والفلاسفة البرجوازيون الذين – وقسم مهم منهم، هم من المندليين أنفسهم – الذين سارعوا فرحين لاعتبار قوانين الوراثة المندلية، فعلا إلغاء لوجود التطور في الطبيعة الحية، وأن التغيرية الوراثية لا يمكن أن نجد جذورها الا في الصدفة أو في أسباب فوق-طبيعية، ذلك أنه حين تصير ظواهر التغير البسيط (التطور الصغروي Microévolution)، غير مفهومة، فان ما هو أكثر تعقيدا منها، كانبثاق الأنواع – الانتواع والتطور الكبروي Macroévolution) سرا مبهما لا يعلم تأويله الا الله. لقد أعادت الفلسفة المثالية إنتاج نفس الهجمات ضد المادية، التي وجهتها لها مع الثورة الكوانتية في الفيزياء بشكل آخر، وفي حقل معرفي آخر هو البيولوجيا، خاصة، في سياق تاريخي يعرف تقدما ملحوظا للثورة العالمية في شروط الأزمة العامة للرأسمالية، مرتبطا بصعود الاتحاد السوفياتي كأول دولة اشتراكية تحت قيادة الرفيق ستالين، وانتشار الماركسية-اللينينية بصورة واسعة وتحولها إلى إيديولوجية حركة التحرر الوطني في عدد كبير من بلدان العالم (الصين، ألبانيا، كوريا...).
أما الاتجاه الثاني فعبر عنه العلماء السوفيات، أو للدقة المدرسة الميتشورينية في علم الوراثة بالاتحاد السوفياتي، لقد اعتبر رواد هذا الاتجاه، وفي مقدمتهم ليسنكو، أن المندلية نظرية خاطئة، وأن القوانين التي تقدمها ليست قوانين طبيعية بل هي مجرد علاقات إحصائية - احتمالية، لا تسندها أي دلائل مادية، واعتبر ليسنكو أيضا، أنه لا وجود لأي "مادة وراثية" مفترضة. وانطلاقا من مجموعة من التجارب أجراها ليسنكو على النباتات - قام فيها بإجراء عدة تغييرات على أجيال متعاقبة منها وفي شروط مختلفة – خلص إلى كون الصفات المكتسبة يتم ثوريتها فعلا، وأن الوراثة لا يمكن أن تتم بخارج التفاعل مع الوسط الخارجي للمتعضي. وقد ضمن مؤلفه الرئيسي "البيولوجيا الزراعية - الوراثة، الانتقاء، وإنتاج الذرة" ملخصات ونتائج تجاربه حول النباتات، وكذلك مجادلاته ضد المندليين بالاتحاد السوفياتي وخارجه، والتي قامت على فكرة معاداة المندلية للمادية الديالكيتكية، وقانون الترابط الشامل بين الظواهر، واستعادة قراءة انجلز لنظرية التطور في "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان" التي استدمجت فرضية داروين حول قوانين توازي النمو للمتعضي، والتي كان لها، مع اكتشاف الاستقلال والترابط بين المورثات (الجينات) تأويل آخر.
لقد اعتبر ليسنكو أن قواعد الوراثة عند ميتشورين هي التي تتسق مع نظرية التطور عند داروين ومع المادية الديالكيتكية، أما المندلية فهي معادية لهما معا، وقد انحازت قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي آنذاك لهذا الطرح ووقفت موقفا سلبيا من المندلية وممثليها المحليين، خاصة بعد أن لاقت نظرية ليسنكو، لدى تطبيقها في الإنتاج الزراعي بكولخوزات وسوفخوزات الاتحاد السوفياتي، نجاحات عملية باهرة. لكن تقدم العلوم فيما بعد، والبيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية خاصة، بين أن ذلك غير صحيح، إذ مع اكتشاف جزيئة الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين ADN الذي عمق ووضح مبادئ النظرية الصبغية حول الوراثة، وأعطى أساسا علميا متينا للمندلية، أطيح باللاماركية ومشتقاتها اللاحقة (عند ميتشورين وليسنكو) وفتح المجال للمجهودات الحثيثة لدى علماء البيولوجيا التطورية، لإنتاج نظرية علمية تركيبية تعمق نظرية تطور الأنواع وتملأ فراغاتها على ضوء الاكتشافات الجديدة، ما تجسد في اجتهادات الداروينية الجديدة(8) التي تعد، لحد الساعة التركيب النظري الذي أخرج البيولوجيا من أزمتها تلك بفاعلية منقطعة النظير.
حسنا، يمكننا أن نستخلص عدة نتائج بالغة الأهمية من هذا المثال، لكن قبل ذلك يجب أن نورد الأسباب التي جعلتنا نعالج هذا المثال بالضبط : ان أول هاته الأسباب هو أن هذه الحالة (أزمة البيولوجيا ونظرية ليسنكو) كانت موضوعا لنقاشات ملتهبة طوال النصف الثاني من القرن العشرين، سواء في الفلسفة أم السياسة، ناهيك عن العلم نفسه، وكانت الدراسات التي تناولت هذه الأزمة غزيرة(9) يحاول كل منها قراءتها وفقها لمنظوره الفلسفي والسياسي الخاص، وقد تسابق إليها المتسابقون على مقاربة علاقة الفلسفة بالعلم، والذين لم يكن المتسابقون على تقييم ومحاكمة التجربة الاشتراكية السوفياتية، أقل منهم حماسا وجنونية في استخلاص النتائج – المستخلصة في الحقيقة قبل التحليل نفسه – بسرعة وبراعة ملفتة للانتباه، ومثل هاته النتائج هي موجودة أيضا في التحليل الابستيمولوجي لرفاق البديل الجذري لمفهوم النظرية وعلاقتها بالممارسة، كما أن بعضها موجود في التجربة نفسها. وثاني هاته الأسباب، هو أن الفهم السليم للابستيمولوجيا الماركسية لا تستنفذه الكلاسيكيات، وكأن الصراع حول المادية في ميدان العلوم قد انتهى مع اكتشافات الفيزياء وأغلق بذلك كتاب لينين "المادية والنقد التجريبي" بابه للأبد، بل ان هذا الصراع لا يزال مستمرا حتى الساعة، وبأشكال أعنف، خاصة مع موجة الردة والانبطاح والتحريف التي يقودها ماركسيو الأمس، خونة اليوم، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، ولعل كتابات عبد الله الحريف و من لف لفه حول الماركسية والمادية الجدلية لهي خير دليل.
أمام تبين خطأ نظرية ليسنكو حول الوراثة– بقى أمامنا خياران ليس لهما من ثالث، فإما أن نعلن أن هاته الليسنكية لم تكن علمية، وإما أن نقول أنها لم تكن نظرية. فإذا كانت النظرية، هي المعرفة العلمية حسب فلاسفة البديل الجذري، وجب أن تنتفي صفة النظرية عن كل نظرية غير علمية، فتكون بالتالي، كل نظرية، علمية بالضرورة. هذه النتيجة التي تتسق منطقيا مع مفهومهم عن النظرية من جهة، تتسق أيضا مع استهزائهم المعروض والمنقود سابقا في بدايات المقال، من التنبيه إلى ضرورة النظرية في النضال الثوري، بشكل يغفل أن المشكل في حقيقته ليس في غياب النظرية، بل في غياب النظرية العلمية، فانعكاس الواقع في الفكر بشكله النظري، أو بالأحرى انعكاس الواقع في دماغ الانسان في شكل فكر نظري، ليس بالضرورة أن يكون دائما صحيحا وليس من المفروض عليه، قسرا، أن يكون كذلك، وأن "النظرية" التي تتأتى من "الممارسة" لا تكون دائما علمية. وقد يقول قائل، كمخرج من هذا المأزق أن نظرية ليسنكو مثلا، كانت نظرية علمية، لكن غير صحيحة. وهذا يطرح السؤال : ما هو إذن معيار علمية النظرية ؟ اذا لم تكن علمية النظرية تتحدد، ماديا وجدليا، في مضمونها، أي في قدرتها على عكس القوانين الموضوعية للواقع بشكل صحيح، فما الذي يحددها بالتالي كنظرية علمية ؟ اللهم ان كان المقصود هو القبول بالتسطيح المثالي لكارل بوبر حول معيار "القابلية للتخطئة" كمحك لعلمية النظرية، وهذا شيء آخر مختلف تماما.
هذا ليس سوى استنتاج أول نهتدي إليه في تحليلنا لمثال ليسنكو، ويوجد ثان، وهو أن "الممارسة" التي يقيم عليها رفاق "البديل الجذري" الدنيا ولا يقعدونها، ليست بذاتها، كافية للحكم على علمية نظرية من عدمها، إذ على الرغم من أن الأطروحات الميتشورينية – الليسنكية في علم الوراثة قد دعمتها التجارب حول النباتات وفعالية استخدامها في الإنتاج الزراعي، تبين في النهاية أن هاته الأطروحات كانت خاطئة. وهذا يعني أن اختبار صحة النظرية في الممارسة العملية، لا تتحدد نتائجه فقط بالمعطيات التي يقدمها على المدى البعيد وحسب، ولكن أيضا، ولكن بالتحليل العلمي لهاته المعطيات نفسها. فانتظار نتائج بعينها من التجربة، بكونها هي الفيصل في استصواب إحدى الفرضيات النظرية أو تخطئتها – والحكم بالتالي على هاته الفرضية في ضوء هاته النتائج – سيصير عملا صبيانيا اذا لم يقترن بتحليل نظري علمي لحدود العلاقات بين هاته النتائج وبين هاته الفرضية النظرية، إذ قد يكون محتوى هاته النتائج من أسباب ليس بالضرورة الأسباب التي تعبر عنها الفرضية. نهج التجريبية / والبراغماتية هذا يتم استعماله على أوسع نطاق أيضا لدى مقاربة الحركة الاجتماعية، وهو الذي اعتمده بالأساس - وعلى سبيل المثال – تحريفيو ما يسمى بخط إعادة البناء 1979، لدى تقييمهم للخط الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" في ضوء ممارستها العملية، ونتائج هاته الممارسة خلال عشر سنوات من الكفاح الثوري والصمود البطولي(10).
هنالك أيضا استنتاج ثالث يمكن الخروج به من هاته التجربة، وهو أنه من المستحيل الفصل بين الفلسفة والعلم، بين النظرية والمنهج. فحينما نطرح السؤال : لماذا بنى ليسنكو نظرية خاطئة / غير علمية ؟ يتسابق المنظرون البرجوازيون للقول بأن هذا كان نتيجة لتدخل "الايديولوجيا" في العلم، وأن الممارسة العلمية المحضة والممارسة النظرية المعزولة عن "الخلفيات الإيديولوجية والسياسية" هي التي بودها إيصال العالم إلى الحقيقة، أو للقول، مثلما ترى الفلسفة الوضعية ونزعاتها العلموية المنتشرة حتى في أوساط بعض الشيوعيين أنفسهم، أن ذلك كان نتيجة لتدخل الفلسفة في العلم. وهنالك إجابة ثالثة ليست أقل حقدا على الماركسية من سابقتيها، هي أن خطأ ليسنكو كان نتيجة لاعتماده المادية الديالكيتكية، والتي هي بالمناسبة، خاطئة ! هاته الإجابات الثلاث ليست في الحقيقة إجابات ثلاث، بل أوجها ثلاثة لإجابة واحدة، هي إجابة الوضعية positivisme التي تقيم سورا صينيا عظيما بين الفلسفة والعلم، الا أن لكل عالم أو باحث علمي فلسفة يعتمدها في بحثه العلمي، وهي فلسفة عفوية للعالم يعتمدها بغض النظر عن إرادته ووعيه، فكل العلماء ماديون جدليون في المختبر شاءوا أم أبوا، بتعبير بوليتزر، لكن عدم وعي العالم بالفلسفة والمنهج اللذان يعتمد، يؤدي على أبعد المدى أو متوسطه، إلى انحرافه عنه، فليس المطلوب هو تجرد العالم عن المادية الديالكيتكية – أو الفلسفة بالمطلق – بل وعيه بها، ان العلماء الذين هم أشد استنكارا للفلسفة – كما يقول انجلز، ساخرا من الوضعية – هم عبيد للبقايا المبسطة لأسوأ المذاهب الفلسفية.
إلام يرد خطأ ليسنكو إذن، في ضوء هذا الفهم المتقدم الذي أعطته الماركسية للإشكالية ؟ لم يكن راجعا، إلى ارتباط ليسنكو في ممارسته العلمية بالفلسفة، ولا إلى ارتباطه بالمادية الديالكيتكية – التي يتنافس المتنافسون على الطعن فيها – كما لا يمكن إحالته إلى مجرد مستوى التطور التقني والعلمي للإنسانية، بل إلى انزياحه عن المادية الديالكيتكية، وليس الانزياح هذا بسبب عدم وعيه بها أو تعامله العفوي معها، بل بسبب فهمه الخاطئ والمبسط لها، والذي اتجه نحو التجريبية والبراغماتية في فهمه لعلاقة النظرية بالممارسة، وكذلك في علاقة المكتشفات الجديدة للمندلية بقانون الترابط الشامل بين الظواهر، وكيف يتم هذا الترابط الشامل بالضبط، هذا الانزياح هو ما تم التعبير عنه مثلا في "المعجم الفلسفي الصغير"(11) (موسكو – 1955) الذي يهاجم نظرية مندل انطلاقا من هذا الانزياح والفهم الضيق لجدلية النظرية / الممارسة والذي قمنا بعرضه ونقده في الاستنتاج الثاني.
يوجد أيضا الكثير ما يمكن استخلاصه من هذا المثال سواء في ميدان الابستيمولوجيا أم في ميادين أخرى – مثل أطروحة "الحقيقة السياسية" و"العلم البروليتاري" أو تقييم التجربة السوفياتية في مسألة علاقة ديكتاتورية البروليتاريا بالبحث العلمي والفن، وكيف نظرت التجربتان الصينية والألبانية لهذه المسألة – لكنها لا يمكن أن تكون الا موضوع بحث لاحق مستقل. و هاته الاستنتاجات، انطلاقا من مثال ليسنكو والأزمة الابستيمولوجية في علم البيولوجيا، الموضوع الذي يتحدى الإطار النظري والفلسفي الضيق للبديل الجذري في مقاربته الاختزالية للنظرية، وعلاقتها بالممارسة العملية. كما يتحدى، بل يهشم، نظرية التهرب لديه من تقييم تاريخ الحركة الشيوعية العالمية – والذي سبق لنا نقده في "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية...لا أقل من ذلك" - ليس فحسب من حيث نظريتها وممارستها السياسية، بل أيضا من حيث رؤيتها الفلسفية ومقاربتها المنهجية للماركسية والمادية الجدلية، ان عدم التصدي لأزمة الثورة العالمية في التصدي لتقويم منجزات وأخطاء الحركة الشيوعية العالمية، يقود لا محالة، إلى تضييع المنجزات وتكرار الأخطاء.
بحثا عن تبرير للتجريبية، البديل الجذري يلوي عنق علم الفيزياء بعنف:
هاته الأعاصير الفكرية، وزوابع الجدال النظري الملتهبة التي فجرتها شروط الأزمة الراهنة للثورة العالمية والمغربية، والتي ليس المثال السابق الا جزءا يسيرا منها، لا تتحدى الأسس الفلسفية لتيار "البديل الجذري" من حيث تصوره لمفهوم النظرية وحدوده فحسب، بل أيضا في بحثه لأصل النظرية و نقطة ابتدائها عند الانسان، وإذا كان تصوره هذا للنظرية هو بذرة كل منزلقاته الفلسفية اللاحقة، فان هاته المنزلقات لها بعض الاستقلالية النسبية عن مقدماتها، لكنها ترتبط بها في التحليل الأخير. يقومون بطرح سؤال نقطة ابتداء النظرية بعد تلخيص لمفهومها، قائلين : "فعندما نتحدث عن النظرية نتلمس ضمنيا وجود معرفة واسعة حول الشيء أو مجموعة من الظواهر دون أن يعني ذلك أن المعرفة تتجزأ في النظريات، وفي نفس الآن لا يمكن أن نسمي النظرية أطروحة أو مجموع الأطروحات ولو أوسعها شمولا. ويبقى السؤال من أين تبتدئ النظرية ؟"
ثم يواصلون : "من البديهي أن الوقائع هي الأساس الذي تبنى عليه الفرضية العلمية، وبالنظر لهذا أيمكن اعتبار الوقائع بمثابة النواة الأولى ولا نقول الأساس لبناء النظرية.
ان الوقائع هي شكل من الأشكال المتضمنة للحقيقة الحقيقية، وهي المعطى العنيد الذي يواجهه الباحث والدارس في أي مجال من المجالات للقبض واستكشاف الحقيقة. لذا علينا أن نعترف به أحببنا أم كرهنا لكن الوقائع لا تتبث بعضها بعضا بالضرورة. الا أنه في بعض الأحيان يشيد "العلم" على المثل العليا من خلال زيف تنشئه الوقائع وفي أحيان أخرى يتم حصر"الأحكام النظرية" على الواقعة وتحويل النظرية إلى حكم غير مبرهن. وكيفما كان الأمر فالوقائع تبقى مهمة لأنها تحتفظ دائما بالمضمون وبدلالتها في مختلف النظم المعرفية، في حين أن النظرية قد تنهار".
ولإضاءة هذا القول بأمثلة، يوردونها من تاريخ تطور الفكر العلمي : "نتوقف مثلا على نظرية نيوتن حول الحركة والمادة والتي كانت تقول أن الأجسام لا تتحرك ما لم تدفع، ليترك متسعا للتوافق مع اللاهوت، وأن المادة مصنوعة من كرات بلياردو صغيرة وصلبة. هذه النظرية عمرت لمدة قرنين ونصف وفي عام 1925 بها نهائيا وتمت إزاحتها من قائمة النظريات العلمية مع هايزنبرغ وشرودينغر وآخرين الذين طوروا نظرية الكوانتوم، بعد تحليلهم للخصائص الفيزيائية للذرات واكتشاف حركة الالكترونات. فالزلزال أصاب نظرية نيوتن وبقيت المادة تحتفظ بحقيقتها ومضمونها. ومثلهما أصيبت فلسفة ارنست ماخ التي اعتبرت الذرات غير موجودة على الإطلاق والتي أطيح بها في الصراع مع المادية الديالكيتكية على يد لينين، كان أيضا لاكتشافات 1925 كلمة الفصل".
من ذلك يتم الاستخلاص "فجمع الوقائع جزء مهم جدا وفي جميع ميادين البحث العلمي التاريخية والاجتماعية والبيولوجية...وغيرها، للخوض في بناء النظرية. ومع ذلك مهما كان حجم الوقائع فهي ليس في حد ذاتها بالبحث العلمي، لذا فالدارس الجاد هو دائم التنقيب عن الوقائع لكن لا تشكل هدفه، بل هي وسيلة لحل المشاكل التي تعترضه (...) فمن البداية ينطلق الباحث من هدف محدد والذي يتغير ويتطور مع سير عملية البحث، وهذا الهدف يتطلب وقائع محددة ويحتفظ للوقائع الأخرى بقيمتها ما لم يتم إنشاء نظام معرفي نهائي مرضي. إذن، فطرح وقائع ليس من باب الخلفيات السياسية أو الإيديولوجية، بل لأن الأهداف المحددة لا تتطلب ذلك، لأن هدف البحث لا يمكن انجازه بالحشو الكلي لكل الوقائع، وهذا لا يعني أن الوقائع تتضمن في حد ذاتها الهدف المحدد، بالعكس، فالوقائع لا تتضمن الهدف في ذاتها، لذا فهي ليست النواة الأولى للدراسة والبحث. والسؤال هو : من أين تتبلور النواة الأولى ؟ أي من أين تأتي."
من الواضح أن الإمساك بطرح البديل الجذري، في بنائه المفاهيمي – وبالتالي في الحركة الاستخلاصية لمفاهيمه النظرية – للإشكالية التي يريد طرحها والإجابة عنها، في الجزء الأول من "لتعلم السباحة يجب الذهاب في الماء"، والتي هي أصل تكون النظرية، يتطلب ترتيبا في الذهن لمحطات تمرحل هاته الحركة الاستخلاصية التي يطرح سؤال "النواة الأولى للنظرية" كتتويج لها، وذلك لأن الطريقة التي بها يطرح هذا السؤال، والإشكالية المتعلقة به، تحددها بصورة ضمنية الأرضية النظرية التي يتم عليها هذا الطرح، وتحدد لاحقا، الشكل الذي تتخذه الإجابات، أو، ولنكون أكثر دقة ووضوحا، الشكل الذي تتخذه إجابة الممارسة كمصدر للنظرية، الذي يهيئ بذاته شروط إنتاج مقاربة الموضوع من زاوية الممارسة كمقياس لاختبار النظرية، وذلك من نفس الموقع الفكري – موقع التجريبية / البراغماتية – في الجزء الثاني.
ينطلق بناء هاته الأرضية من مقابلة ثنائية بين حقيقتين، الأولى هي كون الوقائع هي ما يواجهه الباحث العلمي في بحثه ودراسته، والتي تحتفظ بقيمتها ومضمونها وان انهارت النظرية – ما يبينه الاستشهاد بمثال نيوتن واكتشافات 1925 / الفيزياء الكوانتية – من جهة، والثانية هي أن الوقائع بحد ذاتها لا تتضمن الهدف لبناء النظرية، وليست النواة الأولى للدراسة والبحث العلميين، وهذا يعني، انطلاقا من هاته المقابلة، أن سؤال أصل تكون النظرية يظل مطروحا رغم الاعتراف بكون الوقائع تعتبر أساسها، وبالتالي فان السؤال الذي تم طرحه في البداية بصيغة "يبقى السؤال من أين تبتدئ النظرية ؟"، يعاد طرحه بصيغة "والسؤال هو من أين تتبلور النواة الأولى ؟ من أين تأتي." ولعل طرح السؤال في شكله الثاني يختلف عن طرحه في شكله الأول، ذلك أن طرح السؤال في شكله الثاني، يقوم على أرضية نظرية تختلف عن الأرضية النظرية التي يقوم عليها طرحه في شكله الأول. إذ في الثاني يقوم على أرضية هاته المقابلة الثنائية التي منها ينطلق في طرح السؤال مجددا في شكل آخر، أعمق – ان جاز التعبير – من شكل طرحه الأول. وجب إذن، النظر في أرضية السؤال أولا قبل النظر في الإجابة التي يعطيها رفاق البديل الجذري عنه، وهي الخطوة الضرورية التي ستمكننا من معرفة الأسباب التي جعلت السؤال يطرح بهذا الشكل بالذات، وألزمت بالتالي، على إجابته، أن تتخذ ذلك الشكل بالضبط.
التجلي الواضح لمضمون هاته الأرضية النظرية يظهر من خلال المثال الذي يقدمونه لأجل "تقريب النظرة"، المأخوذ من تاريخ تطور علم الفيزياء اللذان يرتكبون في حقهما – العلم وتاريخ تطوره، من خلال هذا المثال – فظائع مجزرة حقيقية، ذلك أنهم استبدلوا البحث في تطور علم الفيزياء لأجل استنباط الخلاصات الفلسفية حول النظرية والبحث العلمي، بالتشويه المقصود لهذا العلم لأجل تبرير وجهة نظر فلسفية معدة مسبقا. هذا ما يتبدى مثلا، في عرضهم للانتقال من نيوتن إلى الكوانتوم، هذا العرض الذي يستحق، لجدية ما يحمل من خطر على المادية الديالكيتكية وعلم الفيزياء معا، وقفة مناقشة جدية لما يحمله من مغالطات تاريخية وعلمية، يتم عبرها قولبة الفيزياء، على طريقة سرير بروكست، لصالح الفلسفة التجريبية.
أول ما يلفت النظر من بين هاته المغالطات، هو الادعاء بأن ضرورة المصدر الخارجي (الدافع) للحركة عند نيوتن، لم تدحض الا مع الميكانيكا الكوانتية – مع هايزنبرغ وشرودينغر - وهذا غير صحيح بتاتا، إذ أن تبيان بطلان هاته الرؤية قد تم قبل ذلك بكثير، مع النسبية العامة، هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فهاته الرؤية هي نفسها ليست جزءا من ميكانيكا نيوتن بل هي جزء من فلسفته، وعدم التمييز لدى دراسة النتاج الفكري لعالم محدد بين الفلسفي والعلمي عنده – الذي لا يكون بالضرورة متسقا مع ذاته، أي في اتساق العلمي مع الفلسفي فيه – هو، بحد تعبير مظفر النواب، طلقة قاتلة. فان كانت فلسفة نيوتن لأسباب متعلقة بعجزه عن القطيعة مع المثالية واللاهوت، تقر بضرورة وجود مصدر خارجي للحركة كي يتحرك الجسم، فان ميكانيكا نيوتن تقول شيئا آخر، فانطلاقا من مبدأ القوى المتبادلة الذي شرحه نيوتن في "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"، لا يمكن لجسم A أن يحرك جسما B، الا اذا كانت القوة المطبقة من طرف A على B أكبر قطعا من القوة المطبقة من طرف هذا الأخير على الجسم A.
ولعل علم "مقاومة المواد RDM"– والذي يستند بالأساس إلى الميكانيكا النيوتونية – يكشف بوضوح أشد تهافت افتراءات رفاق البديل الجذري على نيوتن والفيزياء بعامة، هذا الفرع من الميكانيكا، سيشهد انفجارا معرفيا هاما فيما يتعلق بدراسة أعماق بنية المادة، خاصة مع الفرع الجديد الذي سيتشعب عنه الذي هو علم "بنية المواد SDM"، حيث يدرس البنية الداخلية التي تشكل المادة انطلاقا من الأشكال المختلفة لانتظام الجزيئات، والتي تحدد مقاومة جسم مادي معين والقوى الداخلية له، بل أن هذا الجسم يملك طاقة داخلية يعبر عنها بالحرف u وتحسب بمجموع طاقته الحرارية وشغله W. هذا ما يبينه كذلك التكافؤ بين مجموع الطاقة اللازمة لتفريق جزيئات الجسم من جهة، ومابين الطاقة الضرورية لتمزيق هذا الجسم انطلاقا من قوى خارجية، والتي تكون، بالضرورة، أكبر قطعا من الطاقة التي تبقي، داخليا، الجزيئات مجتمعة، هذا يمكن سحبه أيضا على تكون الجزيئات نفسها انطلاقا من الذرات.
ذلك أن تكون ما يبدو للعين السطحية كروابط تساهمية ما بين الذرات، في إطار جزيئة محددة، ليس في حقيقته الموضوعية سوى عجز لكل ذرة على حدة على انتزاع إلكترون – كهرب - من الذرة الأخرى، نظرا لأن الطاقة اللازمة لانتزاع هذا الإلكترون متساوية لديهما معا، وهذا العجز يتم كسره فقط في حالة عدم تساوي كمية هاته الطاقة، ما ينتج عنه تكون الأيونات بشكليها (الكاتيونات والأنيونات)، هاته الطاقة المعبر عنها بE(r) حيث أن E هي هاته الطاقة بدلالة r الشعاع الفاصل مابين الكترونات المجالات الطاقية الخارجية من جهة، ونواة الذرة المدروسة، من جهة أخرى. نذكر مجددا، فلاسفة البديل الجذري، أن اكتشاف هاته القوانين لدى علم "بنية المواد" تم انطلاقا من الإطار النظري للميكانيكا النيوتونية.
أما عن انتظار علم الفيزياء لنظرية الكوانتوم، لأجل تجاوز تصور نيوتن حول المادة بما هي "كرات بلياردو صغيرة وصلبة" فهي مغالطة ما بعدها مغالطة. ذلك أن هذا التصور الذي كان نتاجا لسيادة الغموض في عصر نيوتن حول مفهوم الطاقة – الذي كان يرد، في غالب الأحايين، إلى مبادئ تفسير غيبية – قد تم تجاوزه مع النسبية العامة وليس مع الكوانتوم، التي ستوضح – النسبية - الماهية الفعلية للطاقة، في علاقتها بالكتلة. إذ انه في إطار وحدتهما معا (التي هي المادة) تتحول الواحدة نحو الأخرى بتأثير عوامل حركية متعددة، والسرعة بالأساس، هذا التحول المعبر عنه رياضيا بعلاقة اينشتاين للتكافؤ + K E= mc2 (المتداولة على شكل E= mc2 نظرا لانعدام مقدار الطاقة الحركية K في حالة سرعة الضوء، لأن نهاية الدالة المعبرة عن التكافؤ في ∞-;---;--+ تؤول نحو الصفر). هذا الفتح العلمي الجديد هو الذي بدد التصور السابق حول بنية المادة ككرات بلياردو، إذ انطلاقا منه، تتمظهر المادة على شكلين (الكتلة والطاقة) بما يتناسب وسرعة حركتها، على عكس التصور النيوتوني السابق الذي كان لا يرى المادة الا في شكل واحد وحيد هو الكتلة.
أما الميكانيكا الكوانتية، فليست – كما يحاول رفاق البديل الجذري إنتاج الوهم – رميا لكل التطور السابق للفيزياء في سلة المهملات، كما تشير إلى ذلك عبارات "الزلزال أصاب نظرية نيوتن" و"أطيح بها نهائيا" و"تمت إزاحتها من قائمة النظريات العلمية"، بل محاولة لسد جوانب القصور التي ظهرت في النسبية العامة، لدى مجابهتها لقسم من الظواهر الفيزيائية كان لا بد لمعالجته من تطوير الإطار النظري للميكانيكا، مثلما أن النسبية لم تركل بقوائمها الخلفية ميكانيكا نيوتن(12)، ولتحطيم هذا الوهم نجابهه بسؤال : ماذا نستعمل بالضبط حين نريد دراسة حركة قذيفة من نقطة A إلى نقطة B، هل نلجأ للميكانيكا النيوتونية، أم الى قوانين النسبية العامة مثلا، أو نظرية الكوانتوم ؟ لعل الإجابة الثانية أو الثالثة – وربما الثالثة وحدها – هي وحدها التي يتسع لها منطق البديل الجذري في تحليله لتطور علم الفيزياء، والذي يحاول، في تحليله وفي منطقه، الإيهام بأن تطور العلم يتم بالكنس الكلي لما سبق، والاعتراف باللاحق وحده. فهذا الفكر الذي يريد أن يظهر للناظرين بجلباب المادية، عبر طريق "البقاء للوقائع، والنظريات تنهار" يغفل أن جلباب المادية الميكانيكية – ولاحقا اللاأدرية كتطور حتمي له – هو وحده سيكون على مقاسه، في عناده لمقاربة المادية الديالكيتكية لتطور العلوم والمعرفة الإنسانية، في التناقض بين الحقيقة المطلقة والنسبية في إطار الحقيقة الموضوعية، والذي هو مشروط ومتمرحل – التناقض – تاريخيا.
لعل هذا المثال الذي يعطيه أنصار البديل الجذري عن تطور علم الفيزياء – من نيوتن إلى هايزنبرغ وشرودينغر، دفعة واحدة، سبحان الله - لهو أصدق تأكيد لمجمل تحليلنا السابق حول ضرورة ارتباط مادية الفهم العلمي لتطور المعرفة لدى الإنسانية بتاريخيته، وحول ضياع مادية هذا الفهم، وبالتالي علميته، لدى الرفاق كاتبي "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، لدى مقاربتهم للنظرية والمعرفة العلمية لدى الانسان، وحيث أن الانغلاق التاريخاني/التجريبي في قمقم المظاهر السطحية لحركة تطور الفكر العلمي الفيزيائي - فضلا عن الإخلال بالأمانة العلمية في عرض نيوتن، لحاجة في نفس يعقوب قضاها – أدى إلى الخروج بخلاصات فلسفية مناهضة في العمق للمادية الديالكيتكية ونظريتها عن المعرفة، ذلك ان اكتشاف قوانين حركة الالكترونات مع نظرية الكوانتوم، الذي يحاول أن يظهره الرفاق في تيار البديل الجذري بمظهر "إطاحة" بنظرية نيوتن، و"انهيار" لهاته الأخيرة، يحمل – فضلا على أن الكوانتوم ليست هي التي صححت نيوتن بل النسبية العامة، كما سبق الذكر - مغزى فلسفيا فعليا يختلف عن المغزى الفلسفي الظاهري الذي يحاول أن يكونه، فكلما يجهد الرفاق في الظهور ماديين، تبين، من خلال الأمثلة التي يقدمون وتأويلاتها – أو قل، تأولاتها – العكس تماما، وكأن بهم يقولون "انظروا، نحن ماديون...نحن ماديون، الوقائع تبقى، والنظرية تنهار، لكن الوقائع تبقى قائمة، رغم انهيار النظرية"، لكن ضرورة المادية المعاصرة هي أن تكون ديالكتيكية، وإلا سترتد ضد ماديتها نفسها في آخر التحليل، لأن هذا الفهم الذي يتأول تاريخ الفيزياء بشكل يبدو وكأن الاكتشافات العلمية الجديدة بمثابة إزاحة تامة لما سبقها من تراكم معرفي، وكأنه مع كل نظرية جديدة، "ينهار" النظام المعرفي السابق ويتهاوى، "تنهار" النظرية، ببساطة، له – هذا الفهم – ما له من خطر على الماركسية وحركة الثورة البروليتارية.
لرصد مكمن هذا الخطر لا بد من الوقوف قليلا قبل ذلك على السبب الذي ألزم على كاتبي المقال هذا النط المغامر من نيوتن إلى هايزنبرغ وشرودينغر، الذي لا يمكن رده، إلى الجهل بتاريخ علم الفيزياء، هذا التاريخ الذي صار يعرف خطوطه العامة أي مبتدئ في دراسة الفلسفة و الابستيمولوجيا، ولا إلى التشويه المقصود لهذا التاريخ وحسب، لأن لهذا التشويه أساسه الفلسفي التي حتمت عليه أن يكون، هو في الرغبة بإظهار الكوانتوم وكأنها ليس نتاجا لاختبار النسبية العامة في الواقع حيث كشف لديها عن بعض جوانب النقص – والتي كانت هي نفسها إجابة على جوانب النقص التي ظهرت عند الميكانيكا النيوتونية – بل وكأنها نهاية ل"قرنين ونصف" من عمر نظرية نيوتن، وتم "الإطاحة بها نهائيا" و"إزاحتها من قائمة النظريات العلمية" مع اكتشافات 1925، فمع اكتشاف قوانين حركة الالكترونات، تهافتت النيوتونية وسقطت، ولا بقاء الا للوقائع التي "تحتفظ بقيمتها ومضمونها في مختلف النظم المعرفية"، فالحذف المتعمد – ان لم نقل القذف المتعمد – للنسبية لدى مقاربة تطور العلم الفيزيائي، ليس في عمقه الفلسفي الا تغييبا للنظرية كأداة معرفية لاختبار الواقع الموضوعي نظريا، في الوقت نفسه الذي يكون الواقع الموضوعي محكا ماديا لاختبارها واقعيا، وبالتالي إلغاء الطابع الحلزوني للتطور المعرفي للإنسانية تاريخيا، وإحلال التاريخانية محله، والتي هي الترجمة الأكثر معقولية للتجريبية في مقاربتها لهذا التطور.
والسير على نهج هذا المنطق التجريبي في تحليل تطور الماركسية على سبيل المثال – وهنا تظهر خطورته عليها – سيفضي إلى نتائج كاريكاتورية، أهمها، أن النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية العالمية، باكتشاف قانون تفاوت التطور - وإمكانية قيام الثورة الاشتراكية في بلد واحد أو عدد صغير من البلدان في البداية – إنما قد أعلن "الإطاحة" بنظرية ماركس و"تمت إزاحتها نهائيا من قائمة النظريات العلمية" وأن الماركسية "انهارت" في حين البقاء للوقائع، وقد فات أصحابنا في جريهم وراء الوقائع، بمعزل عن القوانين التي تحرك وجود هاته الوقائع وتطورها واضمحلالها - والتي تعد معرفتها الهدف في الممارسة النظرية، لا هدف الممارسة النظرية وهذا ما سنناقشه لاحقا - أن هاته الأخيرة هي أيضا، متحركة ومتغيرة، خاصة لدى معالجة الحركة الاجتماعية التي يتم وضعها في نفس السلة مع الحركة الطبيعية، تحت يافطة جمع الوقائع : "...فجمع الوقائع جزء مهم جدا وفي جميع ميادين البحث العلمي التاريخية والاجتماعية والبيولوجية...وغيرها، للخوض في بناء النظرية"، أو ربما أن اكتشافات ستالين حول بناء المجتمع الاشتراكي وآلياته، والتناقضات القائمة في عصر الامبريالية والثورة، لدى قيام معسكر اشتراكي، أعلنت "انهيار اللينينية" والبقاء للوقائع، أما إسهامات ماو في المسائل العسكرية والثورة الثقافية والثورة الوطنية الديمقراطية فقد أعلنت إفلاس لينين وستالين، بهذا المقياس.
وبما أنه لا يمكن لرفاق تيار البديل الجذري – لأسباب متعلقة بالوضع السياسي الراهن ومتطلباته، وما يحاولون أن يبدوا عليه كحاملين لراية الماركسية-اللينينية بل وكاستمرارية لكفاحية منظمة إلى الأمام - أن يصلوا إلى مستوى إلغاء ماركس في المرحلة اللينينية لتطور النظرية، وبما أن لهم كذلك، بعض التحسس الأرجي من ستالين الذي لا يمكن أن ينسبوا له فضلا في إضافة إسهامات نوعية إلى اللينينية إلى جانب لينين وبعد وفاته أيضا، ولا يقدرون، بالأحرى، قياس إسهامات ماو تسي تونغ أو غيره في ضوئها. نظرا لهذا كله، فان الخطر القائم على الماركسية في مقاربتهم التجريبية لتطور المعرفة الإنسانية، ليس كامنا في أنه ينفتح على إمكانية إلغاء جزء من النظرية لصالح آخر، بل في إلغاء النظرية لصالح الممارسة، أو لنقل، طلبا للدقة، في إلغاء النظرية بتعلة تبعيتها للممارسة، ونتساءل : في ضوء ذلك، ماذا نعتبر التجربة التاريخية التي راكمتها البروليتاريا العالمية - منذ نجاح ثورة أوكتوبر 1917 وصعود الاتحاد السوفياتي ونجاح الثورتين الصينية والألبانية ونهوض حركة التحرر الوطني العالمية، إلى إعادة تركيز الرأسمالية في المجتمع السوفياتي ابتداء من كارثة المؤتمر العشرين، ثم الانقلاب التحريفي في الصين الشعبية 1976 و"إعلان نهاية الثورة الثقافية"، والتشرذم الذي لحق الحركة الماركسية-اللينينية العالمية والتراجع الذي عرفته حركة التحرر الوطني والثورة الاشتراكية – أنعتبرها كلها، تجربة ممارسة تاريخية للبروليتاريا العالمية يتعين استخلاص الدروس الضرورية منها، وبالتالي الإنتاج المتجدد لنظرية الثورة البروليتارية العالمية - أم نعتبر نتبنى التاريخانية / التجريبية كما يتبناها حزب النهج الديمقراطي الإصلاحي مثلا، في لوحته الشوهاء عن الماركسية، طبيعتها وتطورها وعلاقتها باللينينية وتجربة الحركة الشيوعية العالمية ؟
بين من الآن أن النهج التجريبي الذي سار عليه رفاقنا في تيار البديل الجذري المغربي قد انتهى بهم في مأزق لا يحسد عليه محسود، لأن القبول بالتجريبية لدى تحليل تطور المعرفة العلمية الطبيعية، يستلزم الصبر على قبول نتائجها المضحكة لدى تحليل المعرفة العلمية الاجتماعية، وبالتالي الماركسية، سنأتي بعد قليل، لتحليل الحل الذي يقدمون كمخرج من هذا المأزق، ونعني الإجابة على سؤال أصل ابتداء النظرية الذي ما كان النقاش السابق لحد الآن سوى نقد لأرضيته النظرية. لكن قبل المرور إلى ذلك، لا بد من مزيد من الكشف للنتائج الأخرى التي يؤدي إليها نهج التجريبية، والتي لا تقل عن سابقتها، فظاعة ولا هزلية. وإحدى هاته النتائج، تظهر من خلال إلغاء الفرق النوعي بين الفلسفة والعلوم، الذي ينضاف إلى التأريخ التجريبي لتطور العلوم، فمثلهما "أطاحت" نظرية الكوانتوم مع هايزنبرغ وشرودينغر بنظرية نيوتن، "أطاحت" المادية الديالكيتكية مع لينين بفلسفة ارنست ماخ التي اعتبرت الذرات غير موجودة على الإطلاق، حيث كانت كلمة الفصل في هاته "الإطاحة"، هي اكتشافات 1925، أي نظرية الكوانتوم نفسها.
يتحدث الرفاق هنا وكأن المادية الديالكيتكية لم تكن موجودة قبل 1925، والماخية وحدها وجدت قبل هذا التاريخ، عمرت هي الأخرى – مثل نظرية نيوتن – ما شاء لها الله أن تعمر، ثم أتت اكتشافات نظرية الكوانتوم فتمت "إزاحة" فلسفة ماخ و"الإطاحة" بها، من طرف المادية الديالكيتكية على يد لينين. يبدو أن الإصرار المتعاظم لديهم على فهم كل شيء بالمقلوب، قد أدى إلى تشويه تاريخ تطور الفلسفة أيضا، ذلك أن اكتشافات 1925 التي يتم تقديمها ككلمة فصل ألحقت عبرها المادية الديالكيتكية الهزيمة بالفلسفة الماخية، لم تكن سوى امتداد لحقل الصراع حول العلوم في الفلسفة، هذا الصراع الذي تصدى للمشاركة فيه لينين منذ سنة 1908 في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي" في الشروط السياسية التي أفرزها فشل انتفاضة 1905 الروسية، وارتداد العديد من الماركسيين الروس في العمق، ضد المادية الجدلية ومنهجها في تحليل مكتشفات العلم، حتى وان غلفوا ارتدادهم هذا بغلاف تطويرها وتجديدها، هذا لا يعني أن اكتشافات 1925 جاءت كتأكيد لمضامين كتاب لينين الذي توفي سنة 1924، بل كانت موضوعا لمزيد من الصراع في هذا الحقل، والذي تكلف بمواصلته واغنائه العلماء والفلاسفة السوفييت في حقبة ستالين.
ذلك أن الطريقة التي يتم بها استدماج الاكتشافات العلمية في الفلسفة تختلف – كما سبق لنا الشرح – عن الطريقة التي يتم بها استدماج اكتشافات علم معين في علم آخر، فالاكتشافات التي تمت في مجال البيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية في الخمسينيات، والتي أكدت وجود جزيئة الحمض النووي ADN وكشفت عن بنيتها الكيمائية وعن وظائفها الحيوية، وحسمت بالتالي، الصراع في علم الوراثة بين الليسنكية والمندلية لصالح هاته الأخيرة، أي "كانت لها كلمة الفصل"، كما أن اكتشاف تماثل أنواع الفيروسات الارتجاعية مثلا في صبغيات كل من القرد والإنسان، قد أكدت، انطلاقا من علم الوراثة،و مما لا يدع مجالا للشك، تفسير نظرية داروين للعلاقات التطورية بينهما، وكانت لها بالتالي "كلمة الفصل"، فهذا لا يتم بنفس الطريقة في الفلسفة، ذلك أنه على امتداد تاريخ العلوم الطبيعية وفتوحاتها، والتي أكدت، الواحدة تلو الأخرى، صحة المادية، وطورتها وغيرت شكلها مع كل فتح علمي جديد ("على المادية مع كل تقدم للعلوم أن تغير من شكلها" انجلز)، قلنا أنه على امتداد هذا التاريخ كله الذي تأكدت فيه المادية وتطورت، لم يعن تأكدها هذا وتطورها ذاك إفناء للفلسفة المثالية، بل مواصلة للصراع معها بأشكال متجددة وفي حقول جديدة كل مرة، ان المثالية لن تزول بمجرد اكتشافات علمية يكون لها "كلمة الفصل"، لأن شروطها المادية – أي الشروط المادية للمثالية نفسها - لا زالت قائمة في المجتمع المعاصر، بل ستزال قائمة حتى في مجتمع الاشتراكية نفسه، إلى حين تحقيق الشيوعية على النطاق العالمي.
وأما المماثلة بين الفلسفة والعلم، كنافذة تناظر كاذبة يطل منها رفاق البديل الجذري لأجل مَشكلة (=problématisation) المسألة وكأنها إشكالية وقائع باقية ونظريات منهارة، تطرح بالتالي بصورة متجدد سؤال أصل ابتداء النظرية، وإعطاء الشرعية لطرح هذا السؤال على هاته الأرضية بالذات، والإجابة عنه بالتالي في ضوئها هي، عن طريق تشويه متعمد لتاريخ الفيزياء والفلسفة معا، قلنا ان هذا كله، لا يفعل سوى تأكيد النقاط السابقة التي أتينا على ذكرها من قبل، حول تمسك تيار البديل الجذري بالمادية الأنثروبولوجية والوضعية في تحليلهم لانبثاق المعرفة الإنسانية وتطورها، و ينضاف هذا التمسك إلى مجمل خطهم التجريبي / البراغماتي في الفلسفة ليعطيه قدرة أكبر على التملمس في تحاليلهم النظرية والسياسية، وبالتالي تصورهم للتنظيم الثوري ومتطلبات بنائه، في الشروط الراهنة للصراع الطبقي وتاليا الأزمة الذاتية التي يتخبط فيها الماركسيون-اللينينيون بالمغرب.
في جدلية النظرية والممارسة مجددا، حضرت المادية وغاب الجدل:
على أرضية هذا الفهم، وفي إجابتهم عن السؤال السابق في ضوئه نفسه يشرحون :
"ان الانسان في ممارسته بشكل عام، يقابل العالم الموضوعي، ومن هذا المنطلق نتلمس شكلين للموضوع، العالم الموضوعي (الطبيعة) وممارسة الانسان. والسؤال ما علاقة هذين الشكلين ؟ أي علاقة ممارسة الانسان بالعالم الموضوعي.
ان العالم الموضوعي محكوم بقوانين خارجة عن الانسان، والإنسان تابع للعالم الموضوعي. وبواسطة هذا الأخير يحدد الانسان لممارسته أهدافا. والأهداف هي نتاج العالم الموضوعي بالرغم من ظهورها كاختبار للانسان.
ومن الوهلة الأولى يبدو أن نشاط الانسان من أجل خلق مستلزمات للاستمرار والتحكم في الطبيعة، أي ممارسته بشكل عام، هي العنصر الأول. لماذا ؟ ان حاجيات الانسان ذات خصائص مختلفة ومتنوعة في ممارسته للتغلب على كل ما يعترض تحقيقها تتحدد أهدافه، وهذه الأهداف، أي أهداف الانسان في ممارسته، هي ما يحدد أرضية للبحث النظري ولهذا نستخلص أن نشاط الانسان العملي يتضمن هدف البحث النظري.
فالنشاط العملي للانسان يحدد كل أهدافنا العلمية والنظرية، ولكن لا يؤول إلى النظرية، فانطلاق البحث العلمي هو عبارة عن عملية دفع من احتياجات الممارسة للفكر لاكتشاف نتائج جديدة وتقديمها على شكل أفكار. لذلك نقول أن النظرية اذا لم ترتبط بالممارسة فهي دون أهداف، وأيضا من غير الإمكان ضبط أفق للممارسة اذا لم توجه بالنظرية، ولهذا نتحدث عن جدلية النظرية والممارسة"(انتهى الاقتباس).
لهذا النص براءة ظاهرية منقطعة النظير، لدى قراءته بسطحية، فكل ما يطرح، هو كون الممارسة هي التي تحدد أهداف البحث النظري والعلمي للانسان، وأن هاته الأهداف المطروحة للانسان في ممارسته هي نتاج العالم الموضوعي، وليس نتاج اختياره الحر حتى وان بدت كذلك. إنها، كما يظهر وحسب، "صيغ" ماركسية مائة بالمائة لا تشوبها شائبة، ولا يمكن أن يعترض عليها معترض، وأنه بناء على ذلك، لا يمكن أن نختلف عليها أو فيها، مع تيار البديل الجذري. لكن في هذا الاعتقاد كثيرا من السطحية، ذلك لأنه لا يكفي أن نقول أن هنالك علاقة جدلية بين النظرية والممارسة يكون للممارسة فيها موقع الأولية، وتكون النظرية مشتقة منها والبحث النظري بالتالي ترسمه أهدافها، كي تكون مقاربتنا لعلاقة النظرية بالممارسة مقاربة مادية جدلية، ذلك أنه لأنه من الممكن أن نعطي للنظرية والممارسة مضامين تختلف جذريا عن مضامينها الفعلية، أي كما تطرحها الماركسية، ويختلف بالتالي باختلافها مضمون العلاقة التي نقدمها بين النظرية والممارسة بشكل صيغة "ماركسية"، فإشكالية تبني الماركسية-اللينينية والدفاع عنها لا تحل، في النهاية، عن طريق الصيغ والجمل الجاهزة.
ذلك لأن التجريبية والوضعية والمادية الأنثروبولوجية لها أيضا قراءاتها وتأويلاتها الخاصة لعلاقة النظرية والممارسة، التي تشتق من المضامين التي تعطيها هاته التيارات الفلسفية لكل من النظرية والممارسة، مثال واضح على ذلك هو التحريفية السوفياتية، إذ لم تخل كتبها أبدا (وخاصة معاجمها الفلسفية) من صيغ كهاته، بل ومدعمة بأقوال لماركس وانجلز ولينين - وهي خدعة بصرية، ان جاز القول، سنأتي لتحليل أواليات عملها لاحقا – ولم يكن يعني هذا أن الخروتشوفيين وخلفائهم ماركسيون-لينينيون بل كان بالعكس يؤكد تحريفيتهم بأكثر من شكل. وكذلك فان مختلف تلوينات التحريفية اليوم بالمغرب تستعمل هذه الصيغ دون أن يعني ذلك أنها لم تعد تيارات تحريفية، وقد ناقشنا هاته الظاهرة سابقا في "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك" لدى نقدنا للغموض الذي يكتنف بيان البديل الجذري المغربي، باقتصاره على الصيغ العامة والفضفاضة التي يتفق عليها الجميع ولكن ليس الجميع بالطبع، يعطيها نفس المحتوى، "أعداء الشعوب" مثلا قد يكونون حتى "البيروقراطية الستالينية" كما يقول التروتسكيون.
ان القطيعة الابستيمولوجية التي أنجزها ماركس وانجلز في تاريخ تطور الفكر الإنساني - أي الثورة النظرية التي أنجزها الماركسية في نظرية المعرفة - تشمل بشكل رئيسي إعادة قراءتهما لانعكاس المادة في الوعي / الواقع في الفكر، على ضوء الممارسة الاجتماعية للانسان، ضدا على تصور المادية الميكانيكية التي كانت ترى أن هذا الانعكاس يتم في شكل التأمل السلبي لا بشكل ممارسة عملية، ما تعبر عنه الأطروحة الأولى حول فيورباخ بعبارة : "ان النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها - بما فيها مادية فيورباخ – هي أن الشيء (Gegenstand) الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها الا بشكل موضوع (Objekt) أو بشكل تأمل (Anschauung) لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل تجربة، لا من وجهة النظر الذاتية". (أطروحات حول فيورباخ)، وقد كانت المهمة الرئيسية للماركسيين في حقل الابستيمولوجيا منذ ذلك الحين هي تعميق هاته القطيعة المعرفية بما تشمله من فهم علمي / مادي جدلي لسيرورة انعكاس الواقع الموضوعي في الفكر، على ضوء الممارسة العملية كضرورة لتحقق هاته السيرورة.
الا أن تعميق هذه القطيعة – بل وحتى إرساؤها على سكة صحيحة مع ماركس وانجلز نفسيهما – لم يكن ممكنا دون معرفة المحتوى الحقيقي للممارسة العملية، وصفتها باعتبارها ممارسة اجتماعية، هذا يعني أن الممارسة العملية praxis التي تتوسط بين الانسان والعالم الموضوعي، لا يمكن فهمها الا في ضوء العلاقات التي تربط الانسان بالإنسان / علاقات البشر بعضهم بعضا، أي ان الممارسة العملية التي تربط الانسان بالعالم الموضوعي لا يمكن أن تكون الا ممارسة اجتماعية، أي ممارسة اجتماعية تربط الإنسانية بالعالم الموضوعي، ضد المادية الأنثروبولوجية لفيورباخ التي لا ترى الا الانسان "الفرد"، وبالتالي ترى النشاط النظري نشاطا لأفراد منعزلين في "المجتمع المدني"، والواقع في انعكاسه الخيالي نفسه (الدين) كما يقول ماركس "ونتيجة لذلك لا يرى فيورباخ أن - الشعور الديني – هو نفسه نتاج اجتماعي وأن الفرد المجرد الذي يحلله يرجع في الحقيقة إلى شكل اجتماعي معين." و"ان الحياة الاجتماعية هي بالأساس حياة عملية. وكل الأسرار الخفية التي تجر النظرية نحو الصوفية، تجد حلولها العقلانية في نشاط الانسان العملي وفي فهم هذا النشاط" و"ان وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع – المدني - ووجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع البشري أو البشرية التي تتسم بطابع اجتماعي".(الأطروحات 7-8-10 حول فيورباخ، على التوالي).
ان النزعات التجريبية والبراغماتية والوضعية تنحو دائما نحو الرجوع إلى ما قبل هاته القطيعة المعرفية، وبالتالي إعادة استعادة النظرة المادية الأنثروبولوجية لعلاقة الفكر بالواقع، والأهم من ذلك، والأدهى، استعادة نظرتها لمفهوم "الانسان"، لقد استوعب لينين وستالين مضمون هاته القطيعة المعرفية للماركسية ودافعا عنها في نضالهما ضد التجريبية والاقتصادوية وكافة أشكال إيديولوجية البرجوازية الصغيرة وفلسفتها سواء داخل الحزب البلشفي أم خارجه (مثل الشعبويين والفوضويين). كما ناضل ماو تسي تونغ سيرا على خطاهما لأجل الدفاع عن نظرة المادية الديالكيتكية لعلاقة النظرية بالممارسة، وكان من أهم ما تضمنه دفاعه عن هاته النظرة تمييزه في الممارسة بين التجربة المباشرة والتجربة غير المباشرة، وكيف يتحول الواحد منهما إلى الآخر، وذلك ضد الآراء التجريبية داخل الحزب الشيوعي الصيني التي كان تفهم الممارسة العملية فهما ضيقا يقتصر على التجربة المباشرة ويقصي التجربة غير المباشرة.
ان النكوص إلى النظرة المادية الأنثروبولوجية للانسان لا يمكن أن يتجاوزه أو يلغيه استبدال الانسان الفرد بالتنظيم المفرد أو الحزب المفرد أو الشعب المفرد / أو الأمة المفردة، ليس القفز بالضرورة من الفرد نحو التنظيم قطيعة مع الأطر الفلسفية للمادية الأنثروبولوجية نحو المادية الجدلية، لأن هذا القفز لا يفعل سوى أن يؤنسن humaniser التنظيم أو الحزب أو الشعب، فيصبح للتنظيم مثلا، نفس الموقع الذي هو لدى فيورباخ للانسان الفرد، وبذلك التنظيم يتفردن s’individualise بطريقة يعود فيها الفكر إلى الفيورباخية وهو يعتقد واهما أنه على البساط النظري للماركسية، يمكن تشبيه هذا الانزلاق – لتقريب الصورة - بعملية بسيطة في علم الرياضيات، هي تغيير المتغير لدى محاولة حل معادلة من الدرجة الرابعة مثلا، حيث نقوم بتعويض المجهول المرفوع إلى التربيع x² بمجهول آخر (X أو y) حتى يتسنى لنا حل المعادلة على أساس أنها من الدرجة الثانية فقط، ثم نقوم بعد ذلك بإتمام البحث عن الحل، عن طريق الجذر التربيعي، دون أن يعني هذا خروجنا عن اطار معادلة من الدرجة الرابعة.
هذا يعني بالضرورة أن الممارسة الاجتماعية بالنسبة إلينا كماركسيين لينينيين – خاصة اليوم، في عصر الامبريالية - ليست شيئا آخر غير ممارسة الثورة العالمية نفسها، وليس ممارستنا فحسب نحن كماركسيين لينينيين في المغرب أو غيره. ان الفلسفة الوضعية، المتجلببة بالماركسية، تقوم بالتضييق من مفهوم "الممارسة الاجتماعية" لجعله لا يشمل الا تنظيما أو حزبا أو شعبا بعينه، في حين أنه أوسع من ذلك بكثير، ميزة الثورة البروليتارية هي في عالميتها– في تفاوت تطورها نفسه، وهذا ما يميزنا عن التروتسكيين – التي تفرضها عليها بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية في عصر الامبريالية، باعتبار نمط الإنتاج الرأسمالي أول نمط إنتاج عالمي في تاريخ الإنسانية. وهذا يمنح أساسا تاريخيا للمفهوم الماركسي-اللينيني عن الممارسة الاجتماعية مثلما يمنح أساسا فلسفيا للأممية البروليتارية، وبالتالي فان بناء الخط الفكري والسياسي لحزب الطبقة العاملة في المغرب، لا ينفصم عن بناء الخط الفكري والسياسي للبروليتاريا العالمية بل يتم في إطاره، ان إنتاج الرؤية الإستراتيجية للثورة المغربية يتم في سياق إنتاج الرؤية الإستراتيجية للثورة العالمية، وهذا لا يلغي بالطبع، استقلالهما النسبي.
لقد كان النقاش بين لينين وجيمس كونولي حول معنى الأممية صراعا بين مفهومين متناقضين للأممية البروليتارية، فهاته التي تعني لدى كونولي (وحركة التحرر الوطني في ايرلندا عموما) مجرد امتداد لنضال شعبنا نحن على نضال شعوب أخرى - وبالتالي "دعما" و"مساندة" لهاته الشعوب ينطلق من هذا الفهم بالذات – كانت تعني لدى لينين أبعد من ذلك إذ هي وجوب انطلاق الماركسي من مصالح الثورة العالمية، ومن مدى اشتراكه في التحضير لها ودفعها خطوات إلى الأمام. ما عبر عنه في "ما العمل ؟" في كون "الحركة الاشتراكية-الديمقراطية حركة أممية في جوهرها، وذلك لا يعني فحسب أنه يجب أن نناضل ضد الشوفينية في بلادنا، بل يعني ذلك أيضا أن الحركة المبتدئة في بلاد فتية لا يمكن أن تكون ناجحة الا اذا استوعبت تجربة البلدان الأخرى"(لينين في "انجلز وأهمية النضال النظري). وبالتالي ان الثورة البروليتارية كسيرورة عالمية، تتحول أشكال ممارستها التاريخية الواحدة إلى الأخرى، فما هو تجربة مباشرة للبروليتاريا في بلد معين يتحول إلى تجربة غير مباشرة لها في بلد آخر، هاته التجربة غير المباشرة نفسها يتم الاسترشاد بها في التجربة المباشرة لبلدان أخرى، في وحدة الممارسة الاجتماعية للثورة البروليتارية العالمية، وبالتالي للحركة الشيوعية العالمية. هاته الوحدة هي التي تنبثق منها النظرية الثورية للطبقة العاملة وتتطور، ما دافع عنه ستالين وطوره في "أسس اللينينية" بقوله "ان النظرية هي تجربة الحركة العمالية في جميع البلدان".
هذه الوحدة لا يمكن فهمها الا في ضوء مقاربة المادية الجدلية للعلاقة مابين التحليل والتركيب، ذلك أن التملك النظري لسيرورة مادية محددة لا يمكن أن يمر الا عبر تحديد التناقضات التي تعبر عنها بتحديد أطراف هاته التناقضات، وهذا ما نسميه بالتحليل analyse. ولا يمكن لهاته العملية أن تكون مفيدة للفكر اذا لم تقترن بعملية أخرى هي معرفة الطرف الرئيسي في التناقض الرئيسي الذي يخترقها والذي وحده يمكن أن يرشدنا في فهم طبيعتها، وهذه العملية هي التركيب synthèse، وهو ليس تجميعا انتقائيا للمعطيات والتجارب بل هي سيرورة موضوعية يقوم بها طرف للتناقض بالتهام الطرف الآخر، وتنعكس كذلك في الفكر كما بينت النضالات الإيديولوجية الكبرى للثورة الثقافية، ضد تشويه الفيلسوف التحريفي يان تسين تشين Yan Hsien Tchen للمفهوم الماركسي-اللينيني للتركيب باعتباره "بحثا عن النقاط المشتركة بين النقائض"، ويوجد الكثير مما يقال في هذا الموضوع الشائك، لكن سنترك التفصيل فيه إلى دراسة لاحقة(13).
هذا مفاده أن تناول الممارسة الثورية في علاقتها بالنظرية الثورية في ضوء الفهم الماركسي-اللينيني لمزدوجة التحليل / التركيب يفترض بالضرورة النضال ضد انحرافين : الأول هو انحراف النزعة الماقبلية apriorism، الأساس المنهجي للدوغمائية، والتي تنط إلى التركيب مباشرة قبل التحليل، إذ قبل تحليل التجربة التاريخية للحركة الثورية، محليا وعالميا، تحاول فرض نموذجها النظري على الحركة الثورية (الماوية، على سبيل المثال)، أما الثاني فهو انحراف النزعة الانتقائية، الأساس المنهجي للتجريبية، والتي تلجم الفكر لدى محطة التحليل وبالتالي تنكر القوانين الكونية للانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هذا ينطبق أيضا على نظرة التجريبية / الانتقائية للعلاقة مابين التجربة غير المباشرة والتجربة المباشرة في الممارسة الاجتماعية للإنسانية نفسها، إذ تقصي التجربة غير المباشرة، أو تفهما فهما يلحقها بالتجربة المباشرة، زعما منها أن ذلك إعطاء للأولوية للممارسة. الا أن السؤال الذي يطرح هنا : أين تتجلى بالضبط هاته النزعة لدى البديل الجذري في مقاربته علاقة النظرية بالممارسة ؟ وبالتالي ما الذي يؤكد أن المضمون الذي يعطيه للنظرية، والممارسة – وحتى "الانسان" نفسه – هو هذا المضمون بالذات الذي تقدمه التجريبية ؟ لاستكشاف ذلك، نواصل قراءة المقال :
"ويمكن تحديد خصائص المشكلة التي يبدأ بها البحث النظري، أي المشكل الذي يعترض الممارسة لتحقيق الهدف، في أولى المقاربات، بما يعرفه الانسان وما لا يعرفه، أي بين ما يجهله وما يعرفه. وهو مجال واسع جدا. والانسان يجهل أشياء كثيرة وغير محددة، لكن ليس هنالك مبدأ يمنعنا من تطوير معارفنا. وعلى هذا الأساس نقول ليس للانسان شيء غير ضروري لمعرفته. وفي نفس الآن ليس كل المجهول هو مشكلة البحث العلمي، فالإنسان في نشاطه العملي وفي سير تطوره يخضع للمشاكل التي تعترضه لنظام بحث يكون الأساس المحدد فيه ليس التنقيب في ما يحمله، بل في ما هو ممكن فعليا معرفته ممكنة فعلا في ظل شروط التطور التاريخي التي يمر بها، أي أن الباحث لا يختار أي موضوع يريد لبحثه بل يدرس المشكل الذي معرفته ممكنة فعلا وفي ظل الظروف المحددة، أي التي يطرحها التاريخ على جدول الأعمال. فالبحث النظري من منطلقه مع لحظة تحديد المشكل يبدو كجنين حي تزرع فيه الظروف الموضوعية الروح، لهذا تعد صياغة مشكل البحث مهمة جدية وصعبة ومحكومة بأهداف ومصالح من يقفون خلفها.
وفي نفس الآن، فالموضوع ليس بمعزل عن منطلق أن أهداف الانسان هي نتاج العالم الموضوعي، والأهداف تجده كمعطى أول وتفترضه. وفي حالة الفهم النقيض نؤول إلى الغائية ونعطى لأهداف الانسان الحرية والاستقلال عن المعطى الموضوعي الأولي، بمعنى أن أهداف الانسان مأخوذة خارج الواقع الموضوعي. لذا نقول أن أهداف فاعلية الانسان كجماعات أو كأفراد خاضعة للعالم الموضوعي. وهذه الممارسة في تراكمها تقود الوعي الإنساني في سير حركة إلى أن يكتسب ويعكس قوانين الطبيعة والمجتمع ويصوغها في أفكار وبتطبيقها في الممارسة، أي اختبارها، يصل إلى الحقيقة الموضوعية. وبهذا الموجز المتعسف لسير عملية التطور والتحول التي شهدها ويشهدها تاريخ الانسان لبناء النظرية نتوقف على إحدى استخلاصات لينين في دفاتره الفلسفية : "لكي نفهم يجب أن نبدأ تجريبيا، يجب أن ندرس أن نرتفع من التجريبية إلى العلم، لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء".(انتهى الاقتباس).
يقول الرفاق كاتبو المقال أنفسهم، أن موجزهم "لسير عملية التطور التي شهدها ويشهدها تاريخ الانسان لبناء النظرية" هو موجز متعسف. جميل هو هذا الاعتراف منهم، لكنه ليس، للأسف، كافيا. لأن التمحيص المتأني والرصين يكشف أن هذا الموجز أكثر من متعسف، أو ربما هو متعسف أكثر مما تصور أصحابه أنفسهم، في استعادته لتعسف وتضييق التجريبية لعلاقة النظرية بالممارسة، ولعل بعضا من نقاط الاستعادة هاته تؤكد ما ناقشناه قبل إيراد هذا المقتطف من "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، والبعض الآخر يكشف أشياء أخرى لم نناقشها بعد، وسنتعرض لها في الحين.
أول هذه النقاط مما يستوقف العقل، هو الرفض المتكرر بشكل ملحوظ – نظرا للتأكيد المستمر عليه – لأي بحث نظري يضع أهدافا له لا تستمد من الواقع الموضوعي. وهو رفض مقبول في مبدئه، لكن السؤال الذي يطرح ذاته هنا : كيف سنعرف عما اذا كان موضوع معين للبحث النظري، فعلا مستمدا من الوقائع الموضوعي ومتطلبات الممارسة العملية أم لا ؟ هل يتولد هذا التمييز بصورة عفوية من الممارسة نفسها، بحيث أن المواضيع الذي تطرحه "التاريخ على جدول الأعمال"، تبسط تلقائيا أمام الباحث بمجرد ملاحظته للوقائع الموضوعية، التي ليس بينها وبين الباحث حجاب ؟ أليس من الممكن، في شروط معينة، أن نرفض موضوعا معينا للبحث النظري، تحت حجة أنه ليس مطروحا بمتطلبات ممارستنا العملية، في حين أن تقويم هاته وتوجيه أفقها لا يكون الا بالتصدي له ؟ قد لا يبدو هذا الإشكال المعقد مفهوما من الوهلة الأولى، لذلك سنعمل على توضيحه، أي تفكيك مفاصل تعقده نظريا وعمليا.
لقد قاد حزب العمال جماهير الشعب الفيتنامي في حرب التحرير المناهضة للاحتلال الأمريكي، وقد كان نضال الحزب يستهدف تحرير البلاد من الامبريالية الأمريكية وعملائها في الجنوب (حكومة سايغون)،وإقامة جمهورية ديمقراطية شعبية على كامل التراب الوطني الفيتنامي. نتساءل، هل كان التغير الذي حدث في بنية الثورة البروليتارية العالمية والانقسام الذي وقع صلب الحركة الشيوعية العالمية منذ 1956، مطروحا ضمن مهام الممارسة العملية لحزب العمال الفيتنامي، وبالتالي موضوعا لبحثه النظري أم لا ؟ يمكن أن نعطي لهذا التساؤل إجابتين مختلفين من موقعين فكريين مختلفين، لا : من موقع الوضعية التي تضيق الممارسة العملية إلى "إفراد وجماعات" كما يقول رفاق البديل الجذري، والذي هو موقعهم بالذات. ونعم : من موقع الماركسية-اللينينية التي تفهم الممارسة العملية فهما ماديا جدليا، تكون عبره هاته هي ممارسة الثورة العالمية في عصر الامبريالية. لقد تبنى الحزب الفيتنامي الإجابة الأولى من الموقع الأول – التي تجسدت في موقعه الداعي إلى "الوحدة في المعسكر الاشتراكي" ولاحقا المدافع عن التحريفيين السوفييت بصراحة - والتي تبدو غير مضرة بنظر البراغماتية، قرينة التجريبية، حيث أن الشعب الفيتنامي انتصر في الحرب وحرر بلاده بشجاعة. الا أن الفكر الذي يحصر تقييم التجربة في الانتصار العسكري، من دون تحليل المضامين السياسية لهذا الانتصار (الشعب الجزائري أيضا انتصر على الامبريالية الفرنسية عام 1963، بقيادة البرجوازية الصغيرة !)، يعجز عن تبين تأثير هذا الموضوع الذي تم إهماله كموضوع بحث نظري - وبالتالي معالجة نظرية خاطئة له، بحجة أنه غير مطروح على جدول أعمال التاريخ – على معالجة وبحث المواضيع الأخرى، والتي تبدو، دون غيرها، مطروحة على جدول الأعمال.
مثال آخر نتلمس عبره هذا الإشكال، لدى انقلاب الجنرال الفاشي بينوشي Pinochet على سلفادور أليندي في سنة 1973 بالشيلي. من المعلوم أن الحزب الشيوعي الصيني دعم الانقلاب الفاشي وعقد علاقات ديبلوماسية مع حكومة بينوشي الشيء الذي كان اعترافا بشرعيتها وتغاضيا عن الجرائم التي ارتكبت بحق شعب الشيلي، وقد كان ذلك خطأ جديا. السؤال الذي يطرح هنا بدوره هو : هل كان الصراع الطبقي في المجتمع الصيني، المنعكس في الصراع السياسي صلب الحزب الشيوعي الصيني، حول مجموعة من المسائل التكتيكية الراهنة (مثل العلاقة بالسوفييت، والتحالف مع الولايات المتحدة)،هل كانت هاته التناقضات موضوعا للبحث النظري مطروحا على عاتق الماركسيين-اللينينيين بالشيلي أم لا، تفرضه حاجيات ممارستهم العملية ؟ هل كان أمام الحزب الشيوعي الثوري في الشيلي – الذي كان لا يزال آنذاك ماركسيا لينينيا، قبل أن ينعطف نحو الماوية – مهمة تحليل الأسباب التي دفعت الحزب الشيوعي الصيني يتخذ ذاك الموقف الخاطئ، بناء على نظريته وممارسته في التحالفات التكتيكية للصين الشعبية، والتي يدرس الصراع صلبه، في ضوئها ؟ على هذا السؤال أيضا توجد إجابتان : نعم ولا، من موقعي نظر متناقضين : الماركسية والبراغماتية. ففي الوقت الذي تتساءل هاته الأخيرة متهكمة : وما الفائدة (وهذا هو السؤال المفضل لدى البراغماتية/التجريبية بامتياز : وما الفائدة ؟) التي سيجنيها الشيوعيون الشيليون في النضال ضد الفاشية من معرفة الأسباب التي جعلت الشيوعيين الصينيين ينزلقون ذلك المنزلق ؟ ترى الماركسية ضرورة في التصدي لذلك المنزلق ونقده، لأجل بلورة الخط السياسي الصحيح في تعبئة الجماهير ضد الفاشية، بربطها بخط سديد للجبهة الثورية العالمية، والتي كانت الصين جزءا طليعيا منها آنذاك.
هذا ليس سوى جانب واحد من المأزق النظري الذي يؤدي له موجز البديل الجذري – المتعسف جدا، أكثر من اللازم - لتطور المعرفة عند الانسان (جماعات وأفراد، كما يطرحون)، وهنالك جانب آخر. لأن هذا الإشكال لا ينفتح فقط على إمكانية تغييب موضوع معين أو إسقاطه من دائرة البحث النظري – والتي هي ضمنيا، بحث نظري مغلوط له، ووضع له في غيره موقعه – بتعلة أن متطلبات الممارسة العملية لا تطرحه، وإنما أيضا على إمكانية طرحه بصورة مقلوبة، دون تغييب مفضوح له، وذلك بحجة التماشي مع متطلبات الممارسة، أو، أن الواقع الموضوعي يطرحه بهذا الشكل بالذات لا بغيره. المثال الأكثر وضوحا وقربا على ذلك، هو انحراف العديد من الأحزاب "الشيوعية" العربية عن المادية الجدلية في التعاطي مع واقع وصول البرجوازية الصغيرة للسلطة في بعض الأقطار، إذ هنالك قسم منها انحرف عنها باتجاه الفلسفة العقلانية، وبالتالي رأى في هذا الواقع القائم واقعا مجنونا، لا مدخل لفهمه لأنه من خارج النموذج، وكل ما هو خارج النموذج فهو خارج العقل، وخارج نطاق الفكر العلمي وممارسته في إنتاج المعرفة. وقسم آخر انحرف عنها باتجاه الفلسفة التجريبية، واعتبر، نظرا لذلك، هذا الواقع طبيعيا في حركة التحرر الوطني، ليس بسبب العجز الذاتي للطبقة العاملة عن قيادة التحالف الوطني الثوري، بل لأن البرجوازية الصغيرة لها الشرعية التاريخية لقيادة مرحلة كاملة من حركة التحرر الوطني، بل وقادرة على السير بالمجتمع في طريق من التطور الاقتصادي "اللارأسمالي" والتطور السياسي "الديمقراطي الوطني"، كما كان تسميها التحريفية السوفياتية آنذاك، التي كانت هاته الأحزاب لصيقة بها.
فلنتأمل قليلا هاته الظاهرة، لأنها تساهم بالكثير من الدروس والتجارب في نقد تصور البديل الجذري للبحث النظري وعلاقته بالممارسة / الواقع الموضوعي ومتطلباتهما. ان المعالجة التجريبية لهذا الواقع – وصول البرجوازية الصغيرة للسلطة – لا تطرح كموضوع بحث نظري لها، سوى كيفية انتقال هاته البلدان إلى الاشتراكية سلميا، وضمان المشاركة في السلطة مع الحكم، لأجل الدفع به للإصلاحات السياسية والاقتصادية. ولا تطرح أبدا مهمة الثورة على حكم هاته الطبقة وإسقاطه، لأنه عاجز بنيويا، بعجزها الطبقي، عن تحقيق المهام الديمقراطية نفسها بله الانتقال نحو نمط الإنتاج الاشتراكي. وهي معذورة تمام العذر، لأن هذا هو موضوع البحث النظري، وأهدافه، التي تطرحها الممارسة العملية عليه، فهل يقدر على الاعتراض معترض ؟ لا يمكن نقض هذا المنطق البراغماتي بالمنطق التجريبي نفسه للبديل الجذري، لأنه، وللسخرية، ليس المنطق البراغماتي الا شكلا تاريخيا من المنطق التجريبي، وبالتالي إحدى امتداداته extensions الفلسفية.
لكن لأجل نقض هذا المنطق التجريبي نفسه للبديل الجذري، يجب أن نميز جوهر انزلاقه – أو قل سيره على السكة الصحيحة للتجريبية – فيما يتعلق بعلاقة البحث النظري، موضوعه وأهدافه من جهة، ومابين الممارسة العملية والواقع الموضوعي من جهة ثانية، والذي هو، بالضبط، رفضه لأي استقلالية نسبية لدينامية وتطور البحث النظري عن الممارسة العملية التي تفرضه، التي ينتج عنها بالضرورة، عجزه عن تبين أن الانتقال من التجربة / الممارسة إلى النظرية ليس انتقالا سلسا وتلقائيا، بل أنه يتحقق عبر التركيب / تلخيص تجربة الممارسة العملية بصورة صحيحة، وإلا ضاعت خبرات تجربة الممارسة أو لخصت بصورة خاطئة، وبالتالي فان إنتاج النظرية هو أيضا ممارسة نظرية نقوم فيها باختبار الواقع نظريا، واختبار مفاهمينا النظرية واقعيا. هذا العجز الذي لدى البديل الجذري عن تبين هاته الحقيقة، هو الذي يؤدي بدوره إلى الخلط الفظيع مابين هدف الممارسة النظرية من جهة، ومابين الهدف في الممارسة النظرية، من جهة أخرى.
فإذا كان هدف الممارسة النظرية هو خدمة متطلبات الممارسة العملية، فان الهدف في الممارسة النظرية يختلف حسب المراحل التي يصل إليها البحث النظري في تطوره،وبالتالي التناقضات التي يفكها هذا البحث في كل مرحلة من هاته المراحل. فإذا قلنا مثلا، أن ممارستنا الثورية كماركسيين-لينينيين تطرح أمامنا مهمة بحث نظري يكون هدفه قراءة الوضع الاجتماعي والسياسي بالمغرب، والمرحلة التي يقطعها الصراع الطبقي في البنية الاجتماعية المغربية، لأجل الاسترشاد بهاته القراءة في صياغة البرنامج السياسي للثورة المغربية. ان هذا الهدف العملي يعد هدف الممارسة النظرية، لكن للوصول إليه (البرنامج) نتطرق إلى عدة مواضيع هي مراحل نقطعها في سيرورة بحثنا النظري. منها مثلا، ما يتصل بتقييمنا لتجربة الحركة الشيوعية العالمية وتراث الحركة الماركسية-اللينينية المغربية (ورئيسيا، منظمة "إلى الأمام") الذي يشكل هدفا في الممارسة النظرية، وليس، كما قد يبدو للمنطق التجريبي للبديل الجذري، بلا أساس في الواقع الموضوعي أو لا تطرحه الممارسة العملية ضمن راهن مهامها، ذلك لأنه لا يقبل أي استقلالية نسبية للبحث النظري عن أهدافه العملية، بل ويفهم الأهداف العملية هي نفسها فهما ضيقا جدا. هذا يصح على العلوم الطبيعية أيضا، فإذا كان علم الفلك على سبيل المثال قد نشأ أول ما نشأ، خدمة لحاجيات الانسان في الإنتاج الزراعي، فانه يبحث اليوم عما اذا كانت هنالك أكوان متعددة (Multivers) متوازية فيما بينها،يحاول تحليل النجوم البعيدة كيمائيا، ومعرفة المسافات بين المجرات، وعما اذا كان الكون يتوسع أم لا، فهل هذا يطعن في هذا الموضوع، باعتباره لا تطرحه حاجيات الممارسة، أم هو يطعن بالعكس، في الأطروحة الماركسية للممارسة كمصدر للنظرية ؟ لا هذا ولا ذاك، بل هو يطعن بالعكس تماما، عن التأويل التجريبي الذي يتبناه رفاق البديل الجذري، في مقاربتهم علاقة النظرية بالممارسة.
مثل هذا التأويل لا يمكن أن يغطي عوراته الاستشهاد، أو الاستنجاد بلينين. فمقولة لينين "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" التي يحاول بها رفاق البديل الجذري تبرير خطهم الفلسفي التجريبي، قد خلت من قبلها المقولات في تبرير العفوية والتجريبية، منها مثلا، مقولة ماركس "ان خطوة تخطوها الحركة إلى الأمام، أهم من دزينة من البرامج" التي استعملها الاقتصادويون ضد لينين الذي كشف بدوره في "ما العمل ؟" الآليات التي يستند إليها هذا الإقحام المتعسف لمقولة ماركس في سياق غير سياقها، بعد اقتلاعها اقتلاعا من سياقها. وربما يعتقد الرفاق في تيار البديل الجذري المغربي أن من الممكن إخافة الماركسيين-اللينينيين بالمقولات أو إفحامهم بالمقتطفات، وفي هذا سقطة نظرية واضحة نشرحها في حينها.
ان التبني الفعلي لتراث لينين النظري والدفاع الحقيقي عنه يكون عبر تبني اللينينية، وليس في تبني لينين بذاته ولذاته، أي كنصوص ومقتطفات يتم اجتزاؤها وتقديمها، في سياقات أخرى، على أنها وجهة النظر اللينينية حول المسألة، حيث يتم تصور تكافئ اللينينية ولينين في عملية مماهاة كاذبة خاطئة. وهاته المماهاة هي كذلك ليس فقط لأنه يمكن استعمال نصوص للينين (وهذا ينطبق على ماركس أيضا) ضد النسق النظري للينينية، مثلما برعت التحريفية السوفياتية في ذلك، بل وأيضا لأن لينين ليس بالضرورة دائما - أي في كل ما تركه لنا من تراث نظري - لينينيا : لقد كان لينين لا يزال يعتبر، في كتاباته الأولى، وفيا لتصور ماركس، أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تقوم أولا الا في البلدان الرأسمالية المتقدمة لأوروبا الغربية ودفعة واحدة، وخارج ذلك لا يمكن للثورة الروسية أن تتكلل بالنجاح :
"سنصنع من ثورة روسيا السياسية المدخل للثورة الاشتراكية في أوروبا ".
(من "الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين" 1905، المجلد 8 من "أعمال لينين الكاملة"، الصفحة 303، طبعة 1965 بالانجليزية، دار التقدم، موسكو).
"يمكن للثورة الروسية أن تنتصر بمجهوداتها الخاصة، الا أنه ليس لديها الإمكانية لإرساء سلطتها وتوطيدها بقوتها وحدها. إنها لا تستطيع فعل ذلك ما لم تكن هنالك بعد ثورة اشتراكية في الغرب."
(من "مؤتمر الوحدة لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي" 1906، المجلد 10 من "أعمال لينين الكاملة"، الصفحة 280، طبعة 1965 بالانجليزية، دار التقدم، موسكو).
من الواضح أن هاته المقتطفات هي فعلا مقتطفات للينين، لكن هل هي لينينية ؟ نقصد، هل يمكن تقديم الأفكار التي عرضها لينين في هاته المقالات، على أنها اللينينية ؟ من الواضح أن الجواب بنعم يصب أوتوماتيكيا في مصلحة التروتسكيين، الذين من حقهم، وفقا لهذا المنطق – وهم يتبعونه يوميا – أن يقدموا مثل هاته المقتطفات على أساس كونها نقضا "للأطروحات الستالينية حول الثورة الاشتراكية في بلد واحد"، على اعتبار أن هاته الأطروحات تتناقض مع اللينينية بتناقضها مع هذا النص ! يمكن لنا أيضا، أن نجيب على التروتسكيين بدورنا عبر إيراد نصوص أخرى للينين تتبث أنه نظر لإمكانية تحقق العملية الثورية في بلد واحد. لكن اتباث أطروحة معينة، ماركسيا، لا يتم عن طريق النصوص، بل ان استحضار النصوص والمقتطفات نفسها يختلف عند الفكر العلمي الماركسي عن استحضارها عند الفكر الديني. في الأول تكون النصوص خاضعة للنسق النظري الذي تأتي هي كتدعيم له، أما في الثاني فإنها تكون هي الأساس في بناء النسق النظري نفسه، يمكن لهذا التمييز أن ينسحب، حتى على القراءة الهيجلية الجديدة لأعمال ماركس – مثلما هي لدى غرامشي – والتي تقوم بتقديم كتابات الشباب لماركس (مخطوطات 1844) ومفاهيمها (مثل الاغتراب aliénation) باعتبارها جزءا من البناء النظري للماركسية تربطها مع كتابات النضج علاقة استمرارية.
لعل هذه النقطة تتخطى بكثير حدود نقد استشهاد رفاق البديل الجذري بلينين، نحو معالجة أعماق تصورنا للماركسية-اللينينية ومنهج مقاربتنا لبنائها النظري. لكن دعنا الآن – ولأسباب منهجية بحتة – فقط في حدود المقتطفات المقتلعة اقتلاعا من سياقها والمحشوة حشوا في غير سياقها. نقول أن إنتاج الفهم العلمي السليم، للنظرية اللينينية عن المعرفة لا يمكن أن يتم الا عبر تحليل مادي ديالكتيكي لسيرورة تطور المعرفة الإنسانية وتطور مقاربة الماركسية لهذا التطور، أما الإتيان بمقبسات للينين لتبرير أطروحات تجريبية، فليس في الأمر من لينينية. وإلا، خرجنا بخلاصة مفادها أن لينين يتناقض مع ذاته حينما ينظر في "ما العمل ؟" لكون الوعي الثوري لا يمكن أن يأتي العمال الا من الخارج، وهذه أطروحة، اذا اقتصرنا على منطق التأويل النصي الضيق لرفاق البديل الجذري، تتناقض بلا شك مع "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، أفلا يكتسب العمال الوعي السياسي، في معاركهم اليومية بشكل عفوي، كما كانت تحاجج النزعة التريديونيونية آنذاك ؟ ليس في الحقيقة هذا السؤال الإنكاري، سوى مدخل لاستيعاب حقيقة جوهرية واستعادتها، هي أنه لو كان التبني الفعلي للينينية يتبث بإيراد المقتطفات من لينين، لامتلأت شوارع المغرب باللينينات – جمع لينين – إلى درجة إعاقة حركة المرور.
سنبين أين تتجلى بالضبط هاته الاستمرارية الإيديولوجية والسياسية لمنطلقات البيان – ومنزلقاته أيضا -في المنشورات اللاحقة لتيار البديل الجذري، بتفصيل وتدقيق في النقد الذي نعد. إلا أن الجديد اليوم في وثائق أنصار"البديل الجذري" وكتاباتهم، هو مقال بعنوان "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" على جزأين، نشر الأول منهما بتاريخ 13 فبراير 2014، والثاني بتاريخ 10 أبريل 2014، وكلاهما منشور على موقع الحوار المتمدن (العددان 4364 و4420 على التوالي). ان الأهمية البالغة والاختلاف النوعي لهذا المقال عن سابقيه تستوقف القارئين، بل والكاتبين أيضا، لذلك أجلنا العمل على نقد هاته الكتابات اللاحقة للبيان مباشرة، إلى ما بعد دراسة هذا المقال الجديد ونقده، وذلك نظرا، كما قلنا سابقا، لأهميته البالغة، واختلافه النوعي. ومن الطبيعي بعد هذا القول، أن تتبادر للذهن أسئلة: أين تتجلى أهمية مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" ؟ لماذا دراسة هذا المقال ونقده مهمان ؟ وفيم يتحدد اختلافه النوعي عن باقي الانتاجات "الكتابية" لتيار البديل الجذري المغربي ؟
نعتقد أن الإمساك بنقطة الاختلاف النوعي الأساسية في مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" هي المفتاح الرئيس لتحديد أهميته بالنسبة لفهم التصور الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي لتيار البديل الجذري، ولمجمل تطور الحركة الماركسية-اللينينية المغربية في نضالها من أجل تجاوز أزمتها الذاتية في سيرورة بناء الحزب الثوري للبروليتاريا، والذي غيابه عقدة المرحلة من تطور الحركة الثورية في المغرب بشكل عام. ان نقطة الاختلاف النوعي الأساسية لهذا المقال الجديد تكمن في كونه، بخلاف كل المنشورات السابقة، بدل أن يحاول قراءة الواقع الاجتماعي والسياسي بمنظور المنطلقات الإيديولوجية للبديل الجذري، يحاول القيام بالتأصيل الفلسفي لهذه المنطلقات الإيديولوجية نفسها. ان أنصار البديل الجذري في مقالهم الجديد يناضلون لأجل إقامة أساس ابستيمولوجي لخطهم الفكري والسياسي، ورئيسيا لخطهم الفكري الذي يحاولون اليوم جاهدين، كما من قبل، أن يبرهنوا على أنه الماركسية-اللينينية، لكن أقل ما يقال عنه، ومن خلال ما يتبين بعد الدراسة والنقد، هو كونه شيئا يشبهها- في الظاهر وحسب - يشبه الماركسية-اللينينية، لكنه للأسف ليس هي.
ان وضع رفاق "البديل الجذري" للأسس الفلسفية لتصورهم في هذا المقال، يحمل أهمية نظرية وسياسية كبرى، إذ تتيح هذه العملية النفاذ إلى أعماق هذا التصور، والعلاقات بين أسسه الفلسفية وأطروحاته النظرية والسياسية والتنظيمية، بل وانطلاقا من تحليل هاته الأسس الفلسفية، استشراف الأطروحات التي قد ينفتح عليها هذا التصور مستقبلا، حسب تطور الصراع الطبقي محليا وعالميا، والقراءات الطبقية والسياسية التي تنجم بالضرورة المنطقية عنه، لواقع الثورة المغربية والعالمية، في مختلف المنعرجات وأمواج المد والجزر التي عرفتها ويمكن أن تعرفها تبعا لهذا التطور وتناقضاته المعقدة. إذ أن الدور المحدد للخط الإيديولوجي والسياسي له هو نفسه مستوياته الخاصة التي يدرس عليها، التي لا تتوقف فقط عند موقع النظرية الثورية، بما هي "العامل الأكثر ديناميكية في الايديولوجيا" على حد تعبير تسيانغ تشون كياو(1)، بل إلى مركزية المنطلقات الفلسفية التي تقوم عليها النظرية بذاتها، فلا يمكن للماركسية-اللينينية، علم الثورة البروليتارية العالمية، أن تقوم على أسس فلسفية مثالية أو ميتافيزيقية (وهما معا، في التحليل الأخير)، حتى وان أدعى مدعوها المادية الجدلية، أو أثقلوا نصوصهم بترسانة لفظية شيوعية، هي ليست بالضرورة ترسانة مفاهيمية، بل بالعكس من ذلك تذهب في العمق ضد الإطار النظري للشيوعية، هذا الدرس، يستخلص من تجربة الثورة العالمية.
أضف إلى ذلك شيئا آخر، هو أن مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، كمحاولة لإقامة أساس من المشروعية الابستيمولوجية لتيار البديل الجذري، يهدف في قسم كبير منه، إلى نفي تهمة التجريبية عن هذا التيار، في رد ضمني على دينامية النقاشات الدائرة وسط المناضلين الماركسيين-اللينينيين، حول ضرورة البناء المنسجم والسليم للخط الإيديولوجي والسياسي للحركة الماركسية-اللينينية المغربية، لتجاوز واقع الضبابية الإيديولوجية والتيه السياسي، بعيدا عن النزعات الدوغمائية والتجريبية التي تتولد من استمرارية هذا الواقع وتعيد إنتاجه بدورها، حول ملحاحية الإجابة التنظيمية على الواقع الحالي، المتسم بالتشتت والتبعثر التنظيميين، بمنأى كذلك عن أمراض الحلقية والزعاماتية والأستاذية والبراغماتية التي هي الأخرى من عوامل تأبيده. حول الحاجة إلى برنامج سياسي واضح ومتكامل للعملية الثورية، يتخطى / يحطم محدودية الشعارات العامة والفضفاضة، ويتيح بالتالي إمكانية التجاوز الفعلي للقوى الإصلاحية وتلجيم تأثيرها على مختلف قطاعات الحركة الجماهيرية لدفع هاته الحركة في الأفق الثوري، في حذر من (ونضال ضد) منزلقات الانتظارية والارادوية، التي هي بدورها كتعبير عن ضيق أفق البرجوازية الصغيرة وتذبذبها، عنصر تعميق لأزمة غياب هذا البرنامج الثوري للحركة الماركسية اللينينية-المغربية، يتغذى من شروط هاته الأزمة ويغذيها في آن.
هاته النقاط الهامة وغيرها حاولنا مناقشتها سابقا، في سياق نقدنا لوثيقة "بيان البديل الجذري المغربي"، وبالتحديد في فقرة "المرحلة التي نعيش، المهام التي نواجه، والقطيعة التي نحتاج"، وخلصنا إلى كون ما يسمى بالبديل الجذري، إنما هو بالفعل، التعبير الأكثر تركيزا عن انحرافات ثلاثة : الارادوية والتجريبية والبراغماتية، كما بينا مختلف الدلائل التي يمكن استشفافها سواء من بيان البديل الجذري، أم من فكرته من الأساس، والتي تعطي – الدلائل – لهذه الخلاصة مشروعية معرفية وسياسية. ان مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" هو اليوم بجزئيه، مخصص للطعن في هاته الخلاصة، أي في النقد المقدم في "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك" وان كان رفاق البديل الجذري لا يشيرون إليه إلا بشكل ضمني، وبتلميحات محتشمة وخجولة. قد يلاحظ القارئ أنهم قرروا المرور مباشرة، وبسرعة (أو ربما بتسرع) إلى نقد هاته الخلاصة، من الناحية الفلسفية، دون التعرض بالنقد للمقدمات التاريخية والسياسية والنقاط المبدئية التي قامت عليها، اللهم في لحظات طفيفة خفيفة حاولوا جاهدين تصوير الأطروحات التي فيها وكأنها نتائج محضة للتطور المنطقي لمحاكماتهم الفلسفية الماركسية بشكل خالص ونقي، بينما هاته المحاكمات هي نفسها، ليست إلا تبريراتهم الأداتية لأطروحات البيان وأفكاره الأساسية. لا بأس، فهذا الرد لهو – على فظاعة خطئه المنهجي هذا – بالنسبة لتيار البديل الجذري، خطوة تقدمية عظمى !
لذلك فان الوجه الآخر للأهمية التي يكتسيها المقال الجديد لأنصار البديل الجذري المغربي، هو أنه يتيح لنا إمكانية مزيد من التعميق المعرفي والسياسي للنقد السابق، انطلاقا من النضال الدؤوب لهذا التيار من أجل مشروعية ابستيمولوجية، من أجل أساس في النظرية المادية الجدلية للمعرفة، ونفي تهم التجريبية والبراغماتية والارادوية عنه. إلا أن هذا المقال الجديد يقوم، وبشكل ساخر، بعكس الوظيفة المتوخاة منه تماما، انه يؤكد هاته التهم بدل أن ينفيها، ويدين ذاته إدانة مضاعفة، أما تبيان ملامح التجريبية التي تكشف عن نفسها ثانية لدى البديل الجذري، فهي مهمتنا نحن، في هذا النقد الذي نقدمه اليوم مجددا، أعمق فأعمق، لهذا التيار، ومهمة الماركسيين-اللينينيين كافة، الذين يحملون مشروع التحويل الثوري للمجتمع المغربي وللعالم بأسره.
البديل الجذري والصراع الإيديولوجي : رفض مبدئي للنقد أم رفض للنقد المبدئي ؟
قبل الشروع في التأسيس الفلسفي لخط "البديل الجذري"،أو بالأحرى، وهو الأقرب إلى الصحة، قبل تأسيس الشرعنة الفلسفية لهذا الخط، لا يفوت أنصاره أن يعرضوا في البداية أطروحاته وأفكاره الأساسية، التي ليس ما يليها من تحاليل ومناقشات سوى تبريرها الفلسفي. والحق أن بعض هاته الأطروحات والأفكار، ان لم تكن كلها بالفعل، كنا نتوقعها، قبل صدور "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" بل حتى قبل كتابة "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك"، بل وأشرنا ذلك في بداية المقال، وليس في الأمر من قوة التنبؤ بقدر ما فيه من سلامة المنطق، في تتبع منطق التجريبية وما تقدمه من حجج في هجومها على الفكر العلمي وفي دفاعها أيضا ضده.
على هاته الأفكار لن نقدم سوى بضع ملاحظات بسيطة سريعة، نترك مهمة تعميقها للآتي من التحليل. يعلن كاتبو المقال أنه "سيتم الوقوف في هاته المساهمة على مواضيع قد تثار لحد الآن من باب المزايدات النظرية والإعلامية مستعينة بحقائق مصطنعة مدعومة بالكذب والوشايات للمضي في مهمة تهدف لشل أي تقدم ممكن" وهذه الظاهرة أصبحت كما يقولون "خلفها واقع الشتات وتعدد المجيمعات، والأمراض المنتقلة من الواقع السائد إلى أوساطها ويحفزها الأعداء من الخارج وبطرق خبيثة بالتلاعب على عوامل حساسة مثل الوصاية، الزعامة، الانفرادية(...) وهذا ما يستوجب الوقوف عند أفكار تثار من هنا وهناك وما تلقيه من تشويش نظري وسياسي في شروط نمو لا مفر فيها من صراع الدبابيس". هكذا يقدمون موضوع مساهمتهم وأهدافها، التي تستثير في الحس العلمي المتيقظ، وبسرعة، ملاحظات واعتراضات مشروعة. لكن صبرا، يوجد المزيد.
يواصل المقال : "فمما يتبين أن الانفعالات المنبعثة من انتقادات "البديل الجذري" تجتمع على رفض التقدم وتختلف في المستندات والدعاية، فمنهم من يخلط خلطة غريبة ولا تهمه الترسبات سوى أن يقدم الجميع في مرج واحد. ومنهم من يحلف بأغلظ الإيمان عند رؤية أي نهوض في المرحلة، بأن لا مآل له إلا ما آل إليه التحريفيون، وكأن من انحرفوا لم تكن لهم منطلقات و أهداف واضحة تعبر عن ذلك منذ البداية، بل النهوض هو الذي قادهم للانحراف، ويتذرعون "بنظريات" –مهدوية- في دعوة لترقب الواقع حتى تتطابق وقائع الأرض معها. فمثل هؤلاء سيظل الشعب، وبالدرجة الأولى العمال، يبتعدون عنهم يوما بعد يوم مع التقدم في الصراع مع الأعداء، وما ان يسمع أحد حديثهم حتى يدير ظهره لهم لا محالة وينصرف".
هكذا يفهم البديل الجذري إذن، النقد الموجه إليه. وربما يكون القارئ قد فهم الآن، من خلال هاته المقتطفات، لماذا قلنا فيما قبل أننا كنا نتوقع مثل هاته الأفكار، بل وأشرنا إليها في المقال الذي سبق. ان الانتقادات الموجهة للبديل الجذري، كلها، وكلها كلها، مزايدات نظرية وإعلامية، تستعين بحقائق مصطنعة، بوشايات وكذب، هدفها شل أي نهوض،رفض أي تقدم، وهي لا تختلف سوى في المستندات، بل الأسوأ من ذلك، أنها مدعومة من طرف الأعداء ! وهنا، بدل أن يفهم البديل الجذري مهمة الصراع الإيديولوجي، فهما ماركسيا لينينيا، باعتباره ضرورة للحركة الشيوعية - لا مندوحة لها عنه في بناء خطها الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي، بل وحتى العسكري – يفهمه فهما تآمريا، باعتباره يرمي إلى شل التقدم والنهوض، بل ويشجعه "الأعداء". انه فهم أقرب إلى الفكر القومي منه إلى الماركسية-اللينينية، فكل ما هو داخل، يجب أن يقبل بسيادة السائد، فإذا رفضها أو قاومها، كان عميلا "للخارج"، ومعرقلا "للنهضة القومية" و"التقدم الوطني" ليس لأنه في حقيقته فعلا عميل للخارج، بل لأنه وبغض النظر عن طبيعته السياسية، مناهض للسائد في الداخل. حتى لو كان هذا السائد هو المعرقل في الحقيقة للنهوض والتقدم، وحتى لو كان كذلك، هو العميل الفعلي ل"الخارج" في "الداخل".
لأن القبول بالتقدم والنهوض كمعيار، في ضوء مزدوجة الداخل / الخارج عند الإيديولوجية القومية والبديل الجذري على السواء، يفترض بداية الاتفاق على مضمون هذا التقدم والنهوض، وهو الذي نقدر انطلاقا منه تحديد القوى القادرة على انجازه، والأدوات الضرورية للسير به باتساق مع مضمونه الفعلي، الذي هو التجاوز المطرد للأزمة القائمة، لذلك كان فهم هاته الأزمة ضروريا لفهم مضمون حلها، أي انجاز التقدم والنهوض، ومطلق الضرورة بالتالي لمعرفة القوى التي ستتصدى له وأدواتها في ذلك. هناك تبعا لهذا، مقاربتان متعارضتان كليا لفهم أزمة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، وبالتالي، للطريق الصحيح لإخراج هاته الحركة من عنق الزجاجة، أي تخطي واقع الأزمة. وواجب الماركسيين-اللينينيين أن يتمسكوا بالمقاربة المادية الجدلية في معالجة أزمة حركتهم نفسها، حذرين من كل إمكانات الانزلاق نحو المقاربة الميتافيزيقية الانتقائية لهاته الأزمة، والتي لها أعمق الأثر، بالتالي، في إعادة إنتاجها المتجددة باستمرار.
إذ أنه ليس مجرد إعلان لعنوان، أو لتأسيس تيار، أو حتى تنظيم، محاولة من أجل "التقدم والنهوض" لدرجة يصير معها كل نقد لهذا العنوان أو التيار أو التنظيم رفضا للتقدم وشلا للنهوض. ان فهم البديل الجذري للتقدم والنهوض فهما ميتافيزيقيا، يؤدي بصفة أوتوماتيكية إلى فهم ميتافيزيقي بدوره للانتقادات الموجهة إليه. وهذا يتسق مع تفسيره لهاته الانتقادات باعتبارها من مخلفات "واقع الشتات وتعدد المجيمعات"، وبالتالي فان "التقدم والنهوض" هو تجاوز "واقع الشتات وتعدد المجيمعات". انه تجاوز للوجه / الجانب التنظيمي للأزمة، بل ان هذا المظهر هو هو الأزمة، لذلك كان حلها بالتالي في منطق تفكير رفاق البديل الجذري حلا "تجميعيا" للمناضلين تحت عنوان البديل الجذري "عنوان كل المناضلين الماركسيين اللينينيين المغاربة" بحسب تعبيرهم نفسه، الا أنه يجب أن نورد هنا ملاحظة طريفة، فتيار البديل الجذري، رغم كل ذلك، لا يقدم إجابة على أزمة الجانب التنظيمي أيضا، أو بالأحرى على الجانب التنظيمي للأزمة.
ان ما يدعوه البديل الجذري ب"واقع الشتات وتعدد المجيمعات" ليس في الحقيقة سوى تمظهر لواقع أعمق، هو واقع الضبابية الفكرية والسياسية، واقع غياب الخط الإيديولوجي والسياسي السديد للحركة الماركسية اللينينية المغربية، أما الانطلاق من التنظيمي لتفسير السياسي، وتاليا الإيديولوجي، وبالتالي لفهم أزمة هذه المستويات جميعا...فهو محاولة لوضع الراكب تحت الحمار، إذ يستحيل إطلاقا أن تكون أي مبادرة معينة، في ذاتها وبذاتها كمبادرة، خطوة لتجاوز الأزمة إلا إذا توفرت فيها شروط هذا التجاوز، أو على الأقل، أن يكون أصحابها واعين لطبيعة الأزمة والعلاقات الجدلية المعقدة بين عناصرها ومستوياتها البنيوية – المتفاوتة من حيث تطورها كذلك - حتى يكونوا تبعا لذلك قادرين على إنضاج شروط الحل خطوة فخطوة، وبهذا ليس أي نقد، لأي مبادرة، رغبة في تأبيد الواقع القائم، أو "رفضا للتقدم وشلا للنهوض" كما ينظر البديل الجذري، واهما وموهوما.
ذلك أنه يوجد فعلا، نقد من هذا النوع، فالخلاف مع "البديل الجذري" نفسه، قد يختلف. وتكون أرضية هذا الاختلاف هي المواقع الذي يتم منها، والتي يكشفها مضمون النقد وأهدافه، فنقد للبديل الجذري يروم التجاوز الفعلي لأزمة الحركة-الماركسية اللينينية المغربية - انطلاقا من الوعي العلمي لطبيعة هاته الأزمة، والكشف المبدئي لمنزلقات البديل الجذري وأخطائه، التي تعري فهمه المقلوب للأزمة، وفهمه المقلوب، بالتالي، للحل – يختلف عن نقد يتمسك بواقع بالأزمة و يجهد في توثينه، ليس لأنه، مطلقا، ينتقد البديل الجذري، بل لأنه يسقط في نفس منزلقاته الميتافيزيقية ويعجز عن الإفلات منها، ولكن بالشكل المقلوب تماما (الدوغمائية). لكن أصحابنا أنصار "البديل الجذري" العتيد، لا يفرقون بين هذا وذاك، يفضلون الجمع بين الكل تمهيدا لمهاجمة قسم بعينه من هذا الكل، انه القسم الذي يقدم نقدا مبدئيا، أو ربما بالأصح، إنهم يستخدمون تكتيك "مهاجمة أكبر عدد من الناس لحماية قبضة منهم"، فعدم التفرقة بين النقد الدوغمائي والنقد الماركسي، يهدف في الحقيقة إلى مهاجمة النقد الماركسي، لا الدوغمائي. لأن التجريبية ليست سوى الوجه الآخر للجمود العقائدي، أما المادية الديالكتيكية، فهي نقيضها ونقيض وجهيها، لذلك يتركز ضدها الهجوم حتى وان بدا في الظاهر هجوما على "الكل"، فما يظهر للعين السطحية، رفضا مبدئيا – أي من حيث المبدأ – للنقد، لدى أنصار البديل الجذري، ليس في واقعه سوى رفض للنقد المبدئي، أو لنقل أنه لا يتخذ شكل الرفض المبدئي للنقد إلا ليخفي محتواه كرفض للنقد المبدئي.
ان الجمود العقائدي ليس النقيض الرئيسي للتجريبية في الصراع بين المقاربتين المادية الجدلية والميتافيزيقية الانتقائية لأزمة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية. بل إنما وجهان مترابطان متلازمان للمقاربة الثانية، لكن تيار البديل الجذري الذي يتهم كل من انتقد "بخلط خلطة غريبة ولا تهمه الترسبات سوى أن يقدم الجميع في مرج واحد"، هو الذي يقوم في الحقيقة بتقديم الجميع في مرج واحد، في خانة واحدة. ومادام الحال كذلك، فما هو نوع النقد الذي قد يتقبله هذا التيار ؟ أهو نقد من نوع "نحن نقبل فكرة تيار البديل الجذري، بل نحن ننتمي للبديل الجذري، بما هو عنوان "جميع المناضلين الماركسيين اللينينيين المغاربة" لكن لدينا اختلاف مع الرفاق في نقطة كذا ونقطة كذا" ؟ هذا لم يعد نقدا، انه نقد ذاتي ! لسنا كذلك مبدئيا ضد هذا النوع من النقد، أي تحت أي شروط كانت، ولكن في هاته الحالة بالضبط، أي لدى معالجة خط البديل الجذري وأطروحاته الأساسية، يعد أي نقد لاغيا إذا لم يقطع جذريا مع خطه التجريبي / البراغماتي / الارادوي، لأجل بلورة الفهم العلمي الصحيح للأزمة التي تتخبط فيها الحركة وآفاق حلها وأدواته، لكن "الليبرالية تنكر الصراع الإيديولوجي، وتدعو إلى السلم اللامبدئي، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور الأساليب البالية المبتذلة، والى تفسخ بعض الأفراد والوحدات في الحزب والمنظمات الثورية تفسخا سياسيا"، كما يقول ماو تسي تونغ.
ومما يتبين جليا، أن القارئ عليه أن يتوجه إلى الله بالحمد والشكر نظرا لأن الكاتبين قد أكملوا كتابة المقال، ليعرضوا بدائلهم لتجاوز الأزمة والتأصيل الفلسفي / الابستيمولوجي لهاته البدائل، ذلك أن مثل هاته المقدمة هي، كافية بضرورتها المنطقية المحضة - حتى وان ادعوا أن غرضهم التوضيح ورد المزايدات "النظرية والإعلامية" - لإيقاف النقاش عند هذه النقطة. فحينما يكون الصراع الإيديولوجي، و النقد المبدئي، مجرد ضرب من "رفض التقدم وشل النهوض" مبني على "الكذب والوشاية"، ليس هنالك للنقاش الفكري والسياسي، بوجه عام، من دور يلعبه.
دفاع مزيف عن الممارسة، هجوم حقيقي على النظرية :
لكن الأمور تتخذ مباشرة فيما بعد منحى تصاعديا، فتصير ليست فقط الانتقادات الموجهة للبديل الجذري، موضوع الهجوم، بل النظرية ذاتها، ودورها في الحركة الثورية. أو قل، انه يتخذ شكل الهجوم على تصور أصحاب هاته الانتقادات لدور النظرية، بينما هو في الحقيقة هجوم على دور النظرية، وبالتالي على النظرية ذاتها. ومن توضيحات المقدمة بخصوص مضمون مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" وأهدافه يواصلون : "وبالمناسبة سنولي هذا العمل لمن احترفوا هذه الصناعة، إلى أولئك الذين أيقظتهم روح البوعزيزي من سباتهم، وبدل التوجه للفعل في الميدان لتأدية الواجب والضروري ولإنتاج وسائل التقدم والمقاومة، أخذوا بالصياح في العالم الافتراضي، بقوة "منبهي" الجموع لغياب التصور والنظرية على من تطأ أقدامهم ساحة الصراع، وممثلين فرسان النظرية التي تحطم كل القلع، وتفرض ميثاق يحدد من أين تنطلق النظرية وكيف تصاغ ومن خالف الميثاق لا نظرية له. وفي البند الأول والأساسي هو لا نظرية دون التمسح بالأصنام".
الواقع أن مثل هاته الفكرة تنقصها الجدة، لأن وضع "التوجه إلى الميدان، النزول إلى الساحة، الممارسة العملية" في تنافر مع النظرية الثورية والتصور العلمي للثورة، بل ووضع هاته الأشياء كبديل للنظرية هاته والتصور ذاك، ليس أمرا جديدا في تاريخ الحركة الشيوعية، بل كان دائما من الحجج الرئيسية للاقتصادوية والعفوية وان تغير شكلها عبر التاريخ وتطورات الصراع الطبقي المحرك له. الا أن ما ينقص هذه الفكرة ليس حقا الجدة بقدر ما تنقصها الجدية، لأنه من المهزلي فعلا، أن يردد تيار "البديل الجذري" - الذي يزعم لنفسه تبني الماركسية-اللينينية، وتبني مشروع إخراج الحركة الثورية المغربية من أزمتها – مثل هاته المعزوفة وهو يعلم مسبقا تقادمها في الزمن، وأنها كأطروحة نظرية للتجريبية، لا تفعل سوى تقوية الدوغمائية وتغذيتها، حتى وان كانت تصارعها، بل خاصة حينما تصارعها، أما النقيض الرئيسي الذي تلتقيان (التجريبية والدوغمائية معا) على ممارسة العداء له، إنما هو المادية الجدلية.
كما أن هاته الفكرة تحمل ثلاث مغالطات أخرى، فأنصار "البديل الجذري" يحاولون عبرها تمرير وهم خطير، فهم الذين توغلوا، بلا حذر، في توثين الممارسة، قد برهنوا على أكثر مما كانوا يريدون البرهنة عليه. فمحاكمتهم العقلية لا تثبث فقط أن كل من دافع – في خضم الانتفاضات الشعبية الأخيرة في الوطن العربي والمغاربي، وانطلاقا من تحليل أزمتها المتمثلة في غياب القيادة الثورية في هاته البلدان - عن دور النظرية الثورية والتصور العلمي في انجاز الثورة، إنما لم يفعل سوى "الصياح في العالم الافتراضي" وتخلف عن "التوجه للفعل في الميدان لتأدية الواجب والضروري" وحسب، وإنما تثبث أيضا، في سياق الدفاع عن "البديل الجذري"، أن أنصار البديل الجذري - المدافعين الأفذاذ عن الممارسة العملية والمحاربين الأشداء ضد الدوغمائية (يجوز، بل يجدر، قراءتها "ضد النظرية")– وحدهم كانوا في الميدان، وأن باقي المناضلين، وهم بالمناسبة الذين نبهوا لضرورة النظرية الثورية كمرشد للعمل الثوري، لم يكونوا متواجدين في الميدان إلى جانب الجماهير، ولم يشاركوا في تأطير وتنظيم وتجذير نضالاتها المتعاظمة، وهذه هي المغالطة الأولى. أما كان حريا بأنصار البديل الجذري أن يشير إلى أن الاختلاف بينه وبين هؤلاء المناضلين، في الممارسة الميدانية نفسها، إنما هو حول موقع النظرية الثورية، والعلائق الصحيحة بينها وبين الممارسة السياسية الثورية، بدل أن يعلنوا أنهم وحدهم في الميدان – ومقدار صحة هذا التواجد هو أيضا موضع تساؤل وسؤال – وكل ما خلاهم كان مختبئا وراء الحواسيب ؟
إننا لا ننكر وجود "مناضلين" من هذا النوع، وقد تحدثنا عن ذلك في السابق لدى مناقشة النزعة الدوغمائية، وهي حقيقة موضوعية. لكن رفاق البديل الجذري، بتكتيك "مهاجمة أكبر عدد من الناس لحماية قبضة منهم" يسلكون نفس سلوك منظري حزب النهج الديمقراطي، الذي يدعون لأنفسهم هم وحدهم "التواجد في الساحة " و"الممارسة العملية" "الفعل النضالي" وكل من ينتقد خطهم التحريفي الإصلاحي إنما هو "مختبئ في العالم الافتراضي"، وقد فات منظري النهج، كما البديل الجذري، من شدة الولع بالبراغماتية، أنه التواجد الميداني نفسه من عدمه لا يشكل مقياسا لتخطئة خط إيديولوجي وسياسي أو استصوابه (وهذه هي المغالطة الثانية) وإلا، كان سيكون نقد مناضلي "إلى الأمام" - الذين كانوا لا يزالون قلة قليلة جدا في 1970 - لتحريفية حزب "التحرر والاشتراكية" واصلاحيته، نقدا باطلا، بحجة أنهم "غير متواجدين في الميدان"، بل حتى نقد الحزب الشيوعي الصيني وحزب العمل الألباني للأطروحات التصفوية للتحريفيين السوفييت واليوغسلاف كان سيكون أكثر بطلانا وعبثية، لأن الشيوعيين الصينيين والألبان "غير متواجدين في الميدان، في الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا"، وكذلك نقد ستالين للانحرافات الحاصلة في مجال بناء الكولخوزات مثلا، والمقدم في مقاله الشهير "دوخة النجاح"، فهو تافه بلا ريب، لأن ستالين لم يكن فلاحا تعاونيا، وبعيدا عن "الميدان"، أما مؤلفات لينين المكتوبة في الفترات التي كان فيها منفيا إلى سيبريا، أو هاربا إلى فنلندا،و جل كتب ماركس وانجلز، فستستحق – حسب منطق البديل الجذري – الحرق بلا شك !
أما المغالطة الثالثة، وهي أشد وطئا – وأقوم قيلا – هي أن أنصار البديل الجذري، لتسهيل هجومهم على التصور العلمي والنظرية الثورية، يحاولون إظهار "النظرية والتصور" وكأنها هي موضوع النقاش، وليس النظرية الثورية والتصور العلمي، فحين ننبه أن الماركسيين-اللينينيين هم بحاجة للنظرية، فلا نتحدث عن النظرية في ذاتها وبذاتها، ولكن عن حاجتهم لنظرية ثورية، عن حاجتهم لنظرية صحيحة. وحين نناقش ضرورة خط إيديولوجي وسياسي للحركة الماركسية-اللينينية المغربية، فلا نتكلم عن ضرورة خط، أيا كان، بل عن ضرورة خط إيديولوجي وسياسي سديد، فالمهمة ليست بناء التصور أو إنتاج النظرية، بل هي بناء التصور والنظرية الصحيحين، و ذلك ببساطة لأن الأزمة ليست أزمة غياب التصور أو النظرية، بل هي أزمة غياب التصور والنظرية الصحيحين، لكن رفاق البديل الجذري، ومنذ الأسطر الأولى لمقالهم، يجتهدون في إلصاق القول المعاكس بالمناضلين كمقدمة لا بد منها لمهاجمتهم، ولإنجاح ذلك، يوردون حجة سخيفة.
وهاهي نوردها بدورنا، في الحين : "ومنهم من يحلف بأغلظ الإيمان عند رؤية أي نهوض في المرحلة، بأن لا مآل له إلا ما آل إليه التحريفيون، وكأن من انحرفوا لم تكن لهم منطلقات و أهداف واضحة تعبر عن ذلك منذ البداية، بل النهوض هو الذي قادهم للانحراف"، حيث يتبين بوضوح وضع "النهوض" في مقابل "المنطلقات والأهداف"، ليبرهنوا أن النهوض ليس هو الذي يقود للانحراف – وهذا صحيح في مبدئه – ولكن التحريفيين لهم منطلقات وأهداف خاصة قادتهم إلى ذلك المصير، لكن هذا لا يعني الوجود الموضوعي لتقابل مانوي(2) - بل تقابل زرادشتي، بلا خشية من المبالغة - بين النهوض من جهة والمنطلقات والأهداف من جهة أخرى، ان التقابل الذي يمكن أن يوجد، هو بين المنطلقات والأهداف الثورية، لتنظيم ثوري – أي ماركسي لينيني - معين، من جهة، وبين المنطلقات والأهداف التحريفية / الإصلاحية لتنظيم تحريفي، من جهة أخرى. هاته المنطلقات والأهداف هي التي تعطي للنهوض نفسه محتواه، وتفتح أمامه إمكانيات التقدم أو الارتداد.
لقد دعم الحزب "الشيوعي"(اقرأها "التحريفي") الإيراني(3)، عصابة الخميني الظلامية وتحالف معها، مما أدى في نهاية الأمر إلى إصابة الثورة الإيرانية في مقتل، أفلم يكن لهذا الحزب نظرية وتصور يرشدانه، بل ويبرران ممارسته السياسية الانتهازية نفسها، في تحالفه مع القوى الظلامية، واعتبارها، عن ضلال ولتضليل، "قوى مناهضة للامبريالية" ؟ هل كان تذيل الحزب "الشيوعي" الجزائري(4) للقيادة البرجوازية الصغيرة في حرب التحرير المناهضة للاحتلال الفرنسي – والتي أدت إلى تلجيم حركة التحرر الوطني الجزائرية ضمن أفق البرجوازية الصغيرة وإطارها الإصلاحي - ناجما عن افتقاره لنظرية وتصور، أم لامتلاكه لنظرية وتصور خاطئين ؟ وقس على ذلك سائر الأحزاب والتنظيمات التي انزلقت في مستنقع التحريفية، أو ولدت تحريفية منذ البدء. فلم يكن "النهوض" هو الذي أدى بها للانحراف، بل خطها الإيديولوجي والسياسي الخاطئ، ولكن هذا الخط هو الذي أعطى للنهوض مضمونه، وأدى به، على أبعد المدى أو متوسطه – بعيدا عن أوهام العقل البراغماتي، وهو عقل "النتائج الفورية" الذي جرب غير ذات مرة، وتكسر على جدار الواقع - إلى التحول نحو نقيضه تماما، إلى التحول نحو الارتداد والفشل وبالتالي ترك الحركة الثورية تراوح في مكانها، بين ضرورتها التاريخية وإمكان تحققها السياسي. وهذا ما يحتم على الماركسيين-اللينينيين، مهمة إعلاء راية الخط الإيديولوجي والسياسي الصحيح، في وجه الخطوط الخاطئة، وهو وحده العمل من أجل نهوض فعلي، أما إعلاء راية "النهوض" في وجه "النظرية والتصور" بوجه عام، فهو العمل من أجل نهوض وهمي.
المغالطات السابقة بخصوص النظرية تكملها مغالطات لاحقة بخصوص دور الممارسة، رغم أن بعضا من هاته الأخيرة لا ينجم عن المغالطات الأولى بل عن عرض واستعمال مشوهين لأطروحات نظرية صحيحة، لكن ما هو أشد مركزية وأهمية، في سيرورة إنتاج المغالطات اللاحقة حول دور الممارسة العملية، ليس المغالطات السابقة حول النظرية - ولا حتى القولبة المقصودة للأطروحات النظرية الماركسية اللينينية في قالب والبراغماتية والتجريبية – بل الإشكالية التي ينطلق منها أنصار البديل الجذري في بناء هاته المغالطات، فالنقد الحقيقي، حسب تعبير ماركس، "لا يجب أن يتناول الأجوبة بل الأسئلة"، لأن هاته الأسئلة هي التي تحدد مسبقا للأجوبة مسارات تكونها واثبات ذاتها كأجوبة، والتي تستمد إما من الواقع الموضوعي، الذي بدأت تنضج فيه شروط تكون هاته الأجوبة، وإما إلى الطريق المسدود أو حل اللاحل اذا ما انطلق البحث من أسئلة خاطئة، فالبشرية "لا تطرح الا المشكلات التي تقدر على حلها، أو بدأت على الأقل تتراءى شروط هذا الحل في الواقع المادي، وكل مشكلة لا حل لها، هي مشكلة خاطئة، أي مطروحة بشكل خاطئ"(ماركس).
وهاك الإشكالية التي يطرحون : "وإلا فالسؤال المفروض الخوض فيه بدل التيه في هرم بنيان "فكر" شيد بمعزل عن سير تطور التاريخ ويطالب الواقع بالانضباط له هو : كيف أو بم سنتجاوز الوضع القائم ؟ فإذا سلمنا نظريا بضرورة الأداة الثورية، أيكون المخرج هو انتظار قيادة تنزل من السماء لحل اللغز أم سنخرجها إخراجا من عصير النصوص أم إنشاؤها في العالم الافتراضي...؟ ان التنظيم لا يشيد في النظرية ويطالب الواقع بالانضباط له أو التكيف معه. وبكل وضوح، الأمر فيه من يحمل فهما مغلوطا على مستوى الفكر يعكس خيار التلكؤ في الممارسة من جهة، ومن جهة أخرى هناك من ينتظر ليتطابق الواقع مع نص فذلك على طريقة مهدي عامل كخيار لستر العجز"(انتهى الاقتباس).
ان السؤال هنا هو : كيف أو بم سنتجاوز الوضع القائم ؟ لكن هذا السؤال يفتح بدوره على سؤال مقابل : ما الوضع القائم ؟ نعني، ما هي السمات المحددة والملموسة للوضع القائم ؟ نسلم معهم أيضا، نظريا، بضرورة الأداة الثورية – ولا نعلم ما القيمة التي تضيفها كلمة "نظريا" إلى الجملة عندهم، أم أنها بالعكس تنزع القيمة عن ضرورة الأداة الثورية، وتسفهها بتصويرها كمسألة سكولائية – فهل غياب هاته الأداة الثورية / الحزب الثوري في تعبير أصح، هو ميزة الوضع القائم ؟ هذا صحيح، لكن أنتوقف عند هذا المستوى من الواقع، أم نخترقه للنفاذ أعمق فأعمق، لتحليل الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى استمرارية واقع غياب الحزب الثوري للطبقة العاملة ؟ والأهم من ذلك، ضبط العلاقات الصحيحة مابين هاته الأسباب والعوامل، حسب التفاوت البنيوي للمستويات التي تستوي عليها (الايديولوجيا، السياسة، التنظيم) وتفاوت التطور في تأثيرها وفعلها على الحركة الماركسية اللينينية-المغربية، في كل مرحلة من مراحل تطورها على هاته المستويات جميعا ؟ ان فرملة الفكر عند محطة الجرد الحسي الباهت للواقع الذي تتجسد فيه الأزمة، يخفي تحليلا خاطئا يعتمده لدى فهمه لأعماق هذا الواقع الأزموي (نظرية الشكل التنظيمي قبل المضمون السياسي)، وبالتالي يجعل المخرج لا ينفتح الا على إحدى ثلاثة خيارات عقيمة :
- انتظار قيادة تنزل من السماء لحل اللغز.
- إخراجها إخراجا من عصير النصوص.
- إنشاؤها في العالم الافتراضي.
والواقع أن طرح الحركة الماركسية-اللينينية المغربية لأزمتها على بساط البحث والتحليل المادي الجدلي - الذي يتخطى حدود التدوين التجريبي للمعطيات الحسية للواقع نحو الإمساك العلمي بالتناقضات الداخلية والقوانين الموضوعية التي تحركه وتفرز الأزمة المتجسدة فيه كما تفرز التربة المادية للمخرج الممكن – لا يجعلها تضيق رؤيتها في هاته الخيارات الإنكارية، فحين يحاول البديل الجذري، إلصاق هاته الخيارات بخصومه، وإظهار أنهم جميعا، لا تعدو خياراتهم أن تكون هاته الخيارات بالذات، حتى يبين أن لا خيار الا الخيار الذي يطرحه (والذي سنعالجه بعد قليل) – لأنه هو المتبقي، بل هو الوحيد – إنما يعكس أخطاءه المنهجية والنظرية الخاصة، بل والأكثر طرافة، يبسط الخيارات الفعلية، التي يتبناها جميعا في آن واحد – لا على مستوى اللوحات العامة والمشوهة حول "الممارسة" و"الميدان" – بل التي تؤسس لوجوده كتيار "البديل الجذري" : انتظار قيادة تنزل من السماء لحل اللغز، وهي بالمناسبة، تيار البديل الجذري، الذي حل لنا اللغز العتيد بكلمة واحدة "الممارسة"، إخراجها إخراجا من عصير النصوص، لأن التجريبية هي أيضا لا تشجب "النصوص" مبدئيا، بل تلجأ لها أيضا عند الحاجة، لتبرير فلسفتها وإخفاء وجهها الحقيقي، وإنشاؤها في العالم الافتراضي، وذلك أبو الأوهام، "عنوان" البديل الجذري عنوان كل المناضلين الماركسيين اللينينيين المغاربة !
نضع جانبا هذه المفارقة، بصفة مؤقتة على الأقل. حتى يتاح لنا التطرق بعض الشيء للخيار المتبقي الذي يحاجج به أصحابنا بكونه الوحيد الصالح لتجاوز الوضع الراهن، ذلك أن "اجترار الحديث عن غياب الأداة الثورية بعد كل مد ثوري وكل انتفاضة والانتعاش بخلق مراسيم السياحة الثورية، فهو مثله مثل من يذكر الله أثناء مرور جنازة، ولهذا نقول وبكل بساطة ان النهوض لبدأ العمل خير من أن لا نبدأ. فلا مفر من تعلم السباحة، وخير طريق هو الذهاب في الماء، فشرف أن نموت ونحن نحاول ونقاوم الأمواج في خضم الصراع ونبلغ الرسالة لمن هم مستعدون لإتمام المشوار على درب من قدموا دماءهم من قضايا الشعوب. ان المهمة الأصعب هي الخروج إلى الواقع واستكشافه والفعل فيه والتفاعل معه، وهي جعله لغة الفكر وليس العكس."(انتهى الاقتباس).
يظهر أن الترسانة اللفظية phraséologie الماركسية التي كانت تؤثث جوانب المقال فيما قبل، قد تبخرت لدى الوصول إلى هاته النقطة الحرجة وتم الاستعاضة عنها، هي نفسها، بالاستعارات والتشبيهات الرومانسية المقتلعة اقتلاعا من سياقها والمحشوة حشوا في غير سياقها، وذلك بغرض إخفاء عورات هذا الطرح. لكن لا بأس، فهذه هي وظيفة النقد في الأصل، أي استكشاف مفاصل الطرح وعوراته وحتى وان حاول أصحابه إخفاءه وراء المحسنات البلاغية (وراء "الفذلكة" التي ثارت ثائرة الرفاق على أن تكون على طريقة مهدي عامل، بينما يجيزون استعمالها على طريقتهم الخاصة) بل استكشاف هاته المفاصل والعورات من خلال هاته المحسنات نفسها، والتي لا يمكن لها أن تفلت، مهما اشتد إتقانها وتنميقها، من الأسس النظرية و الفلسفية التي تقوم عليها.
ان اجترار الحديث عن غياب الأداة الثورية هو كمثل من يذكر الله لدى مرور جنازة، هذا صحيح. لكن أليس اجترار الحديث عن "الذهاب إلى الميدان" كمثل من يرد هو أيضا، على الأول بعبارة دينية أخرى ؟ فعلى العاطس أن يقول وفقا لتعاليم الاسلام "الحمد لله" لدى العطس، وعلى من يكون بجانبه أن يقول "رحمك الله" فيرد عليه الأول "يغفر لي ولك الله". تظهر أزمة الحركة الثورية جلية في الانتفاضات الشعبية، فتنادي الدوغمائية بضرورة الأداة الثورية دون أي توضيح نظري أو عملي حول مفاصل انجازها بالضبط، فترد عليها التجريبية بضرورة النزول إلى الميدان...وهكذا دواليك، حيث يظهر التلازم الضروري بين التجريبية والدوغمائية كما هو، عند لينين، بين الانتهازية والفوضوية، بين الانسحابية والتصفوية، حيث تغذي النزعتان، المثاليتان والميتافيزيقيتان، بعضهما البعض في الصراع ضد بعضها البعض. ربما فات أنصار البديل الجذري، أن أسوأ ما في التشبيه الذي أعطوه، هو كونه اذا ما مدد إلى أقصى تطوره المنطقي، إنما ينقلب عليهم.
ولهذا يقولون، وبكل بساطة "أن النهوض لبدء العمل خير من أن لا نبدأ، فلا مفر من تعلم السباحة، وخير طريق هو الذهاب في الماء"، هاته العبارة، هي على غموضها وإبهامها، تركز الأطروحة النظرية الأساسية لتيار البديل الجذري، التي لم يكتب مقال "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" الا لأجل التأصيل لها فلسفيا، وابستيمولوجيا بالأساس، أي في نظرية المعرفة، لأجل إعطائها مظهر أطروحة نظرية ماركسية-لينينية. ولكشف ذلك نواجهها بسؤال : في سياق هاته الأزمة المزمنة التي تتخبط فيها الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، على المستويات الثلاثة المتفاوتة فيما بينها بنيويا وتطوريا، ما المقصود بالضبط ببدء العمل ؟ أو بالأحرى، حين نتحدث عن "بدء العمل" لأجل إخراج الحركة الماركسية اللينينية من أزمتها المزمنة، ما العمل الذي نتحدث عنه بالضبط ؟ أهو بناء الخط الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي للأداة الثورية، وبالتالي برنامجها الثوري ؟ أم هو بناء هذه الأداة تنظيميا ؟ أم هما معا ؟ وفي الحالتين، لأي عملية تعود الأولوية في العملية الشاملة لبناء الأداة الثورية ؟ أهو بناؤها إيديولوجيا وسياسيا، أم بناؤها تنظيميا ؟
من الواضح أن سخرية رفاق البديل الجذري السابقة من النظرية وموقعها في النضال الثوري - وتسفيههم لأطروحة الدور المحدد للخط الإيديولوجي والسياسي في كل شيء، بما فيه البناء التنظيمي نفسه، الذي يرتبط بالخط الإيديولوجي والسياسي في شكل خط تنظيمي – إنما تسهل البحث على الباحث بإزاحتها لعدد لا بأس به من الخيارات المتاحة. فلا يمكن لرفاق البديل الجذري القول بأن "بدء العمل" هو بناء الخط الإيديولوجي والسياسي للحركة، لأن هذا ما انتقدوه بالضبط في ما سبق لحد الآن، ولو كانوا ليدافعوا عنه لما تكبدوا عناء كتابة كل هذا المقال. وقد يقال كذلك : ان البديل الجذري لا ينادي بكون "بدء العمل" هو البناء التنظيمي وحد، وليس البناء الإيديولوجي والسياسي وحده، بل الاثنين معا، في "علاقة جدلية"، أو "ترابط جدلي". لكن ذلك، والانتقائية بوجه عام، لا تحل مسألة الأولوية، لا تعطي، ولا يمكن لها أن تعطي، فكرة واضحة (بغض النظر عن صحتها) عن الأسبقية مابين المستويات الثلاثة في سيرورة البناء، وبالتالي تفاوتها البنيوي.
ان الخيار الوحيد الذي ينفتح عليه منطق البديل الجذري، ويتسع له تفكيره النظري، هو أن "بدء العمل" يعني بالضرورة بدء البناء التنظيمي للأداة الثورية، وهذا في أحسن الحالات، ذلك أن محاججة رفاق البديل الجذري غالبا ما تشتط، متعدية واقع غياب التنظيم الثوري نحو وهم غياب الممارسة العملية للماركسيين-اللينينيين وعدم وجودهم في ميدان الصراع الطبقي ومعمعانه، وأن البديل الجذري هو الذي سيقوم، ولأول مرة، بإخراج الماركسيين-اللينينيين نحو الساحة النضالية. لكن، هاته المحاججة في حدودها المعقولة ذاتها، أي في نطاق المناداة بالبناء التنظيمي ك"بدء للعمل"(إنتاج وسائل التقدم والمقاومة، في تعبير سابق بالمقال نفسه)، تنطوي على منزلقات خطيرة، وذلك، كما قلنا سابقا، قبل حتى أن تتخطى حدودها المعقولة، لتبلغ ما بعدها – أي بإنكار الارتباط العملي للمناضلين الثوريين بالساحة النضالية والميدان – إلى حدود هي، ان صح التعبير، حدودها المجنونة.
وهاته المنزلقات يولدها الفهم المقلوب للعلاقة بين التنظيم والنظرية والممارسة، فبدل النظر إلى التنظيم كوسيلة، كحلقة توسط لتحقيق الهدف (المجسد في خط التنظيم وبرنامجه السياسي) في الممارسة السياسية الثورية، وبالتالي يتحدد شكله بمضمون هذا الهدف، يتم النظر إليه، عكسيا، كغاية في ذاتها. أو في أحسن الحالات، كحلقة توسط يتم من خلالها معرفة الهدف نفسه، المجسد في خط التنظيم وبرنامجه الذي يتحدد مابعديا posteriori، وفي هاته الحالة سيكون الشكل التنظيمي محددا ماقبليا apriori – بل، وهذا هو الأنكى، تشكله الممارسة العملية، لا الخط الإيديولوجي والسياسي الذي يوجهها، وهذا محور مستقل في النقاش سنأتي عليه بعد قليل – ومابين ماقبلية التنظيمي ومابعدية الإيديولوجي والسياسي، لا يبقى شيء من اللينينية بل من الماركسية، بله من التراث الثوري للبروليتاريا المغربية والحركة الماركسية-اللينينية المغربية.
لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء، هذا صحيح. لكن هل سنعرف بذلك، إلى أين يجب أن نسبح بالضبط ؟ فالنزول إلى الماء يعلم السباحة، لكنه لن يحدد للسابح وجهة السباحة وان كان هذا السابح سباحا. فحتى لو قضى عمره كله في الماء (الممارسة) لن يستطيع معرفة نقطة وصوله الا بالاعتماد على بوصلة (النظرية)، نقطة الوصول هاته هي التي تحدد للسباح طريقة السباحة نفسها ووسائلها (التنظيم)، في تلاؤم هاته الطريقة مع الشروط الملموسة للمياه التي يسبح فيها. اللهم ان كان يريد التخبط في الماء بلا وجهة (صيغة برينشتاين : الحركة هي كل شيء، الهدف لا شيء) حتى تخور قواه فيغرق، أو يستنجد بضفة آمنة دافئة، والمستنقعات هي بالمناسبة، أكثر الأمكنة المائية دفئا وأمانا على الإطلاق. يعتقد البديل الجذري، أن مشكلتنا أننا يجب أن نتعلم السباحة، لذلك يجب أن ننزل للماء إذ أننا لسنا فيه، لكن المعضلة غير ذلك، إذ أننا في الماء، وما نحن بحاجة إليه ليس في الحقيقة أن نتعلم كيف نسبح، بل أن نعرف أين نسبح، وتبعا لذلك سنعرف كيف نسبح بشكل صحيح، أفضل من سباحتنا العفوية اليوم التي تقودها الضبابية والتيه.
ان الطبقة العاملة المغربية بحاجة إلى خط ماركسي لينيني، على الصعيد الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي، وحتى العسكري. وبلورة هذا الخط سيرورة مادية تخضع لقوانين موضوعية، مهمة الشيوعيين حيالها هي معرفة هذه القوانين واستخدامها بشكل جيد، و هذه المعرفة هي، كما يقول ماو، مسألة علم. وبالتالي فان استبدال التحليل العلمي (أو شبهه) بالرومانسية - والمحسنات البلاغية على شاكلة "فشرف أن نموت ونحن نحاول ونقاوم الأمواج في خضم الصراع ونبلغ الرسالة لمن هم مستعدون لإتمام المشوار على درب من قدموا دماءهم من قضايا الشعوب" – لا تحل شيئا البتة، بل بالعكس تكرس الأزمة وتعمقها، بتكريسها لنهج العفوية الذي يؤدي إلى إضاعة طاقة المناضلين والجماهير والرمي بالجميع إلى منحدر التحطم، ولعل التجربة التاريخية لممارسة "الثورة" الكوبية ونظريتها، وما آلت إليه، والدروس الغنية والمريرة أيضا لحركة 3 مارس 1973 البلانكية، وما انتهت عليه، لهي الجدران الحجرية التي تتكسر عليها الذاتية والرومانسية ويتصلب عليها العلم والمادية.
حول النظرية والعلم، المنهج والفلسفة / تهافت الابستيمولوجيا الوضعية :
بعد بسط الحل الذي يراه رفاق البديل الجذري مخرجا من الأزمة – والذي تقدمنا عبر ما سبق بمناقشته ونقده وكشف الأسس النظرية التي يقوم عليها – ينطلقون في رحلة لتأصيل هذا الحل فلسفيا، أو قل لتبريره. عند هاته النقطة، يقتحم الرفاق مجال الفلسفة، وبالتحديد نظرية المعرفة، وذلك في محاولة جاهدة للبرهنة على أن هذه الإجابة لها جذورها العميقة في المادية الديالكيتكية، ومقاربتها للعلاقة مابين النظرية والممارسة، وكيف تتولد النظرية من الممارسة وتختبر النظرية في الممارسة. لكن التبني اللفظي للمادية الديالكيتكية شيء، والتبني المعرفي لها شيء آخر، أو لنقل ان تبنيها في اللفظ شيء، وفي المعرفة شيء آخر. وأول شيء يتم التطرق إليه - من بين أشياء عدة، كمفهوم النظرية، وأصل تكونها، وعلاقتها بالنشاط العملي للانسان، وأبحاث انجلز ولينين بهذا الصدد – هو مفهوم النظرية نفسه، والحدود الذي يرسمه لها تعريفها والتي يمكن إزاءها تحديد النظرية من غيرها، وينطلق هذا التعريف من أنه "يستعمل أحيانا مفهوم النظرية بشكل واسع ومطاطي للتعبير عن كل معارف الإنسان، أي أن الاستعمال لا يطال معرفة محددة بل المعرفة بشكل عام، وتكتسي النظرية، من هذا المنطلق، معنى المرادف للمعرفة، في حين أن المعرفة لا يمكن أن تؤول وتختزل في النظرية ولا في مجموعها."
لذلك، وتبعا لرفض التعريف الواسع والمطاطي السابق "فالنظرية هي بالمعنى الدقيق هي المعرفة العلمية، أي هي شكل من أشكال الفكر الخاصة المحددة في تطور المعرفة الإنسانية، وهذا لا يعني أن النظرية مجال ضيق، بالعكس هي حقل واسع من المعرفة، ويتسع بطريقة منتظمة مصحوبة بعملية الهدم والبناء، بالتقدم في عملية الوصف والتفسير لظاهرة أو مجموعة من الظواهر في ضرورتها وفي علاقتها المتعددة الجوانب، وفي حركتها وتناقضاتها، وإتاحة المعرفة بأسبابها وبالأساس الحقيقي للأطروحات وبحججها ومبرراتها".
ثم يواصلون : "وتعكس درجة معرفة الإنسان لعملية الترابط والتكامل الكلية الكونية على صيغة قوانين مكتشفة، وهذا التعريف البسيط لا يستفي ويستنفذ جميع المحتويات والمضامين والوجوه لمفهوم النظرية ومع ذلك يحتوي الأساس في الشروط التاريخية من تطور الحضارة الإنسانية، فمثلما العالم الواقعي لا يتكون من الأشياء الجاهزة والتامة، أي من التباث، فكذلك انعكاساتها في فكر الإنسان، لهذا فالتحديد النهائي للمعنى سيفقد المعنى، لأن ما نكسبه من معرفة تحدده الظروف والمستوى الذي وصلته الإنسانية في صراعها من أجل إنتاج شروط عيش جديدة وهذه المقدمات هي في تفاعل وتغير مستمرين".
نوقف الاقتباس هنا لنبدي بعض الملاحظات الأساسية، ذلك أن التعريفات المختلفة، بخصوص المواضيع المتنوعة في الابستيمولوجيا (النظرية، المعرفة، العلم، الممارسة، الفرضية...الخ)، تعبر بالضرورة عن موقف محدد في الابستيمولوجيا. فليس التعريف معطى بديهيا مسبقا أمام الفكر للانطلاق منه في بناء نظرية للمعرفة، حيث أن الاصطفافات الرئيسية في هذا المجال لا تتحدد الا بالقراءات المختلفة لهاته التعاريف، من طرف شتى تيارات الفكر، بل بالعكس من ذلك، فعملية الانطلاق في بناء نظرية للمعرفة ابتداء من تعريف، لا تبتدئ في الحقيقة من التعريف، وإنما من عملية بنائه ذاتها، رغم أن اتساق الفكر مع ذاته – أي سلامته المنطقية – ليست شرطا محققا دائما، خاصة حينما نتحدث عن الانتقائية المميزة للاتجاهات المعادية للمادية الديالكيتكية، لكن ما نريد أن نخلص إليه، في التحليل الأخير، هو أن مفهوم رفاق "البديل الجذري" عن النظرية، يعكس موقفا محددا في نظرية المعرفة، وبالتالي يحمل بذور كل مناقشاتهم الابستيمولوجية اللاحقة حول أصلها ودورها وعلاقتها بالنشاط العملي.
ينطلق هذا التعريف، أولا، من تمييز بين المعرفة والنظرية. إذ أنهم يرفضون مفهوما للنظرية يستعمل للتعبير بشكل "واسع ومطاطي عن كل معارف الإنسان" في مرادفة بين المعرفة والنظرية، دون الأخذ بعين الاعتبار، تمييز معرفة محددة عن غيرها، وتحديد هاته بالتالي بكونها نظرية، ان موضوع المعالجة هنا هو التنوع الكيفي للمعرفة الإنسانية، فليست كل معرفة بالضرورة معرفة نظرية، وذلك لأن الإنسان يواجه، في حياته اليومية، كما هائلا من المعارف ليست كلها معارف نظرية، وبهذا الصدد، فان أي شخص مثلا، له معارف معينة متعددة، عن أقربائه، عن الأماكن، والأشخاص المحيطين به وعن نفسه. ولكن هذه المعارف ليست معارف نظرية، لأن الانعكاس الحسي للواقع الموضوعي، أي للعالم الخارجي، المادي، ليس معرفة نظرية، وليس دائما، قابلا للتحول إلى معرفة نظرية، وذلك ليس بطبيعة الواقع الموضوعي، بل نظرا للشروط التاريخية التي تحدد الإمكانات الذاتية للمعرفة، وصيرورتها معرفة نظرية انطلاقا من الانعكاس الحسي وعلى قاعدته.
إذن أي معرفة للانسان يمكن تمييزها بأنها معرفة نظرية ؟ إنها المعرفة التي تتخطى حدود الانعكاس الحسي لظاهر الواقع نحو الإمساك بالقوانين الموضوعية التي تحركه، أي بالروابط الضرورية بين عناصره، هذا التمييز المرتبط بالتنوع الكيفي للمعرفة لا يقف ضد المبدأ المادي لوحدة العالم، بل بان هذا التنوع نفسه ليس سوى انعكاس لعلاقات إدراكية بالواقع مختلفا كيفيا. لكن هذه الإجابة – وهذا ما يجب أن ينتبه إليه كل من ينطلق من منهج التحليل المادي التاريخي - تفتح بدورها على سؤال آخر، فإذا كانت المعرفة النظرية، ليست سوى مرحلة عليا في تطور الانعكاس الموضوعي للعالم المادي في فكر الإنسان، كيف تطورت هذه المعرفة تاريخيا ؟ وبالتالي، ما هي الأشكال التاريخية المحددة التي اتخذتها هاته المعرفة النظرية خلال التطور الاجتماعي/التاريخي للإنسانية ؟ ان رفاق البديل الجذري في محاولة تعريفهم للنظرية يغفلون هذا السؤال الأساسي، فينزلقون - في غمرة التفريق بين المعرفة والنظرية، والنضال ضد المماهاة الشائعة بينهما – في وهم المماثلة، في النظرية ذاتها، مابين العلمي وغير العلمي فيها، مابين المعرفة النظرية والمعرفة العلمية، وذلك على قشرة الموز التي تقضي بالاكتفاء بالتمييز بين المعرفة الحسية والمعرفة النظرية تمييزا تجاوريا.
ان هذا الانزلاق هو النتيجة المنطقية للسير بعيدا عن التحليل التاريخي، فلا يكفي التحليل المادي للمعرفة أن يكون ديالكتيكيا، بل عليه أيضا – وهنا تتجسد ديالكتيكيته فعلا – أن يكون تاريخيا، فحركة التاريخ هي مجال اختبار نظرية المعرفة الماركسية، وليس المجرد مجاله، ولا يمكن له أصلا أن يكون له كذلك. فالمعرفة النظرية لم تكن دوما معرفة علمية، وليست بسبيلها دوما أن تكون كذلك، فكيف يمكن أن نقارب، تاريخيا، ظهور المعرفة النظرية عند الإنسان ؟ وما المدخل لفهم الحدود القائمة بين النظري والعلمي، أو بالأحرى، بين العلمي وغير العلمي في النظري ذاته ؟ وبالتالي فهم التكون المعرفي للنظرية العلمية انطلاقا من المادية الديالكيتكية ؟
ان أول خطوة على طريق التحليل المادي التاريخي للمعرفة، هو التحرر من مفهوم "الإنسان" نفسه، فدراسة الإنسان في الحقيقة لا تنطلق من الإنسان، بل من العلاقات الاجتماعية الذي ليس هو سوى نتاج تاريخي لها، فالإنسان لا ينوجد الا في علاقات اجتماعية – هي بالأساس، وليس بالمطلق، علاقات إنتاج - والتي هي الإطار الضروري التي تتطور ضمنها علاقة الإنسان بالطبيعة، وإذا كان الحال هكذا، فعلاقة الإنسان بالطبيعة لن تكون سوى علاقة الإنسانية بالطبيعة، علاقة هاته الأخيرة بالمجتمع الإنساني ككل. أما "الإنسان" المجرد المعزول، الذات المفترضة التي تنصهر فيها علاقات الإنتاج لصالح القوى المنتجة، وبصيغة أعم علاقات الناس بعضهم البعض لصالح علاقتهم بالطبيعة، فهو الوهم المثالي / الميتافيزيقي المتجذر في المادية الميكانيكية وحتى آخر أشكالها ما قبل-الماركسية، أي المادية الأنثروبولوجية لفيورباخ، التي سميت كذلك انطلاقا من مركزية مفهوم "الإنسان anthropos" في بنائها الفلسفي، فكانت بالتالي، كشكل للمادية الميكانيكية، مادية أناسية. وبالتالي، فان تحول ماركس وانجلز المطرد نحو القطع مع استعمال لفظ "الإنسان" نفسه في كتاباتهما، والتحول إلى استبداله بالناس / البشر والإنسانية / البشرية كان يعكس نضالهما من أجل القطيعة المعرفية مع المادية الأنثروبولوجية ومع الانسانوية بعامة، لأن مفهومها عن "الإنسان" كان عامل تكبيل لتطور الفلسفة المادية، قياسا إلى مستوى الفتوحات العلمية الجديدة.
فدراسة المعرفة عند الإنسان هي دراسة المعرفة عند الإنسانية، في علاقة هذه المعرفة بنضال الإنسانية من أجل إنتاج وإعادة إنتاج شروط عيشها أي النضال من أجل الإنتاج، والتجربة العلمية، وأيضا في علاقتها بالصراع الدائر صلب الإنسانية نفسها، أي الصراع الطبقي (وليس النضال الأول وحسب، كما يتوهم كاتبو المقال). وبالتالي فان المعرفة الإنسانية بمختلف أشكالها، تقاس في ضوء علاقتها بالممارسة الاجتماعية للإنسانية، أي بنشاطها العملي. هاته الأشكال التي تختلف كيفيا، في ارتباطها بهذا النشاط العملي ذاته. وبحث السيرورة التاريخية لنشوء هذا الاختلاف الكيفي، أي هذا التمايز الناشئ بين الكم الغزير للمعطيات والوقائع الحسية التي يكتسبها الانسان / الإنسانية يوميا، والمرتبطة ارتباطا وثيقا بممارستها الاجتماعية من جهة، وبين المعرفة النظرية التي تملك استقلالا نسبيا عن هاته الممارسة، وتتطور – في إطار علاقتها بها – على صعيدها الخاص، وقوانينها المميزة، أي أن المعرفة النظرية لا توجد الا في المستوى الذي يمكن إزاءه أن تستقل فيه المعرفة عن الممارسة، فمن المعلوم أن علم الفلك قد بدأ أولا انطلاقا من حاجات المجتمع في النشاط الزراعي، ولكنه صار معرفة نظرية عندما صار بإمكانه أن يكتسب استقلالا نسبيا عن وظيفته العملية المباشرة.
ان المعرفة النظرية كانعكاس للضرورات الموضوعية والعلاقات الداخلية بين ظواهر العالم المادي، كانت انعكاسا للضرورات الموضوعية للحركة في هذا العالم - لهذه الحركة المادية / المادة المتحركة التي هي العالم المادي نفسه – التي تتخذ أشكالا متعددة، يتطور كل منها وفق قوانينه الخاصة، و ينفي أحدها الآخر من حيث مستويات تطورها كحركة مادية، فالحركة الاجتماعية أعلى من الحركة الطبيعية، وتضمها في آن، كما الحركة الطبيعية الإحيائية (ما بعد ظهور أول كائن حي) أعلى من الحركة الطبيعية ما قبل-الإحيائية وتنفيها، في الحركة الطبيعية نفسها، كما أن الحركة البيولوجية أعلى من الحركة الكيمائية (التي بدورها تنفي الحركة الميكانيكية)، في الحركة الطبيعية ما قبل-الإحيائية ذاتها بدورها. ان التنوع الكبير في أشكال الحركة المادية يفترض تنوعها في أشكال الوعي بها وفهمها، كما أن الفرق بين فهم الحركة المادية في كل شكل من أشكالها الخاصة، وبالتالي القوانين التي تحكم تطور كل شكل منها، من جهة، وبين الحركة المادية في قوانينها الكلية، يفرض التمييز بين موضوعين للمعرفة النظرية، فالقوانين الكلية للحركة هي موضوع الفلسفة، أما القوانين الجزئية التي تتطور حسبها الأشكال المختلفة للحركة هو موضوع العلوم المختلفة، لم تعرف المعرفة النظرية، في أول شكل تاريخي لها، هذا التمييز القائم في عصرنا بين الفلسفة والعلوم، فباحتكار الفلاسفة للمعرفة النظرية – في اليونان مثلا – كان غياب هذا التمييز لصالح الفلسفة، التي كانت أول شكل تاريخي للمعرفة النظرية للإنسانية.
لذلك فان القفز الذي يقوم به رفاق البديل الجذري، بسرعة، من نقد المماثلة مابين المعرفة والنظرية إلى المماثلة مابين النظرية والمعرفة العلمية، قفز إلى واد من الضلال الفلسفي نشك حقيقة في قدرتهم على الصعود منه بسهولة، بل ان هذا الصعود سيدخل مع الانتقال نحو مزيد من معالجتهم للنظرية، مجالا شائكا لاستحالة فعلية. لكن، قبل التعرض بالدراسة والنقد لهاته المعالجة، لا بد من استكمال ما بدأنا في نقد المماثلة الأولى، لأنها الأساس الابستيمولوجي للمعالجة اللاحقة من جهة، وللأطروحات النظرية السابقة – كتلك التي حول النظرية والتنظيم والممارسة– من جهة أخرى. قلنا أن الفلسفة تختلف عن العلم، وأن هذا الأخير لم يأخذ مكانه المستقل في الفكر النظري الا بعد تطور تاريخي طويل، لدى انفصاله النهائي عن الفلسفة، هذا الانفصال لم يكن أبدا قطيعة بينهما، بل كان تمايزا في المستويات التي يدرسان عليها الواقع عموديا دون أن يكون تجزيئا أفقيا للواقع يأخذ كل منهما شبرا يكون له موضوعا، هذا الوهم، والذي هو نظرية القطيعة، كان نفسه من أشكال ارتباط الفلسفة بالعلم، أو بالأحرى شكلا لارتباط أحد تيارات الفلسفة بالعلم، ما تجسد بقوة في الفلسفة الوضعية.
في هاته النقطة بالضبط، تظهر ملحاحية ارتباط مادية الفهم العلمي لتطور المعرفة النظرية عند الإنسانية بتاريخيته، أي الضرورة في أن ننظر للمعرفة الإنسانية ليس من حيث علاقة الإنسانية بالطبيعة بل وأيضا في علاقة الناس بعضهم بعضا، في الصراع الطبقي، أي التناقض الرئيسي في المجتمع، في ممارساته المتناقضة على المستويات البنيوية الثلاثة (الاقتصادي، السياسي، الإيديولوجي) للكل الاجتماعي، والذي يؤسس له، على المستوى الاقتصادي، التناقض الأساسي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. فالفلسفة ليست معرفة نظرية بالقوانين الكلية للحركة فحسب، وإنما هي أيضا مجال للصراع الطبقي وبالتالي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي الذي يعبر عن واقع هذا الصراع، في ارتباطه بفتوحات العلم واكتشافاته نفسها، فالصراع بين المادية والمثالية– والذي هو جوهر كل تطور الفلسفة منذ ظهورها حتى اليوم - هو أيضا شكل إيديولوجي للصراع الطبقي، أو أدق، لممارساته. وحين يرتبط بالعلوم الطبيعية مثلا، لا يكون شكل هذا الارتباط مماثلا لشكل ارتباط هاته العلوم ببعضها البعض، فالاكتشافات الجديدة في الكيمياء الحيوية مثلا تساعد في الإجابة على إشكالات عالقة في البيولوجيا، وتقوم البيولوجيا بالتالي باستدماجها، كشرط ضروري لتطورها، لكن الطابع التناقضي للفلسفة، في الصراع بين المادية والمثالية، في علاقة هذا الصراع نفسه بالصراع الطبقي، يجعل الصراع من أجل استدماجها في تطور الفلسفة يأخذ أشكالا مختلفة حسب معسكرات الصراع فيها نفسها، فالماديون الفرنسيون في القرن 18 مثلا، تمثلوا اكتشاف الذرة على نحو يختلف عن محاولات تطويع هذا الاكتشاف بالقسر لدى المثاليين – نظرية المونادات عند لابنيتز بالأساس – والاستيعاب المادي لهذا الاكتشاف وحده أتاح للفلسفة، في تلك الحقبة، إمكانية آفاق جديدة للتطور.
ومثلما تؤثر العلوم على الفلسفة، فان هاته بدورها توثر على العلوم. ويفتح تطور الصراع صلبها – الفلسفة – إمكانيات مسارات متناقضة لتطور العلوم، فالاستيعاب المادي للاكتشافات العلمية لا يفتح آفاق التطور أمام الفلسفة وحدها، بل ان المادية نفسها تفتح آفاق التطور للعلوم، وتطور المادية، عبر التاريخ، تفعل فيه العلوم ويفعل فيها بدوره، إذ أن الاكتشافات الثلاث الكبرى في القرن التاسع عشر (الخلية، تحول الطاقة، تطور الأنواع) وضعت أمام المادية تحديا حقيقيا ما كان لها أمامه الا أن ترمي عنها ميكانيكيتها وتستحيل مادية ديالكتيكية، كما أن هاته الأخيرة وفرت بدورها الأساس لمزيد من التطور اللاحق للعلم والذي تجسد مثلا في الثورة الكوانتية في علم الفيزياء. وبالضد من ذلك، فان المثالية والميتافيزيقا كان لهما بالغ الأثر في عرقلة التطور العلمي والفلسفي معا، في علاقة هذه العرقلة بمصالح الطبقات الرجعية في التاريخ.
هاته البنية من التداخل والاستقلال النسبي ما بين الفلسفة والعلوم، في وحدة المعرفة النظرية للإنسانية، في تطورها التاريخي، في علاقته بالتطور الاجتماعي للإنسانية وتناقضاته الخاصة، هي المدخل نحو فهم صحيح للنظرية، يرصدها حسب تطورها الفعلي، لا حسب ما يراد بالوهم أن يلصقه بها كتطور لها، انطلاقا من "نظرية" افتراضية و"ممارسة" افتراضية وبالأخص "إنسان" افتراضي، بعيدا عن التاريخ وحركته الملموسة، فعبارة - "وتعكس درجة معرفة الإنسان لعملية الترابط والتكامل الكلية الكونية على صيغة قوانين مكتشفة، وهذا التعريف البسيط لا يستفي ويستنفذ جميع المحتويات والمضامين والوجوه لمفهوم النظرية ومع ذلك يحتوي الأساس في الشروط التاريخية من تطور الحضارة الإنسانية، فمثلما العالم الواقعي لا يتكون من الأشياء الجاهزة والتامة، أي من التباث، فكذلك انعكاساتها في فكر الإنسان، لهذا فالتحديد النهائي للمعنى سيفقد المعنى، لأن ما نكسبه من معرفة تحدده الظروف والمستوى الذي وصلته الإنسانية في صراعها من أجل إنتاج شروط عيش جديدة وهذه المقدمات هي في تفاعل وتغير مستمرين" - التي يحاول بها رفاق البديل الجذري إضفاء بعض التاريخية المفقودة على تحليلهم الابستيمولوجي، ليس في أحسن الحالات سوى تزيين تاريخاني historiciste لتحليل لاتاريخي(5)، فمقاربة التطور الاجتماعي والمعرفي للإنسانية تاريخيا، ينطلق من التناقضات التي تفرز الحركة الاجتماعية والمعرفية، أما الانطلاق من الحركة نفسها، من سطحها وظواهرها الخارجية، بطريقة يصير فيها كل تعاقب زمني حقا تعاقبا تاريخيا، فهي مجرد تاريخانية لا تمس الجوهر الأساسي للمنزلق، وهي اقتلاع علاقة الناس بالطبيعة عن الإطار البنيوي التي تتطور ضمنه هاته العلاقة ( علاقتهم ببعضهم البعض ).
ذلك أن انعكاس الواقع في دماغ الانسان، في شكله النظري نفسه، ليس بالضرورة أن يكون دائما صحيحا، سواء تعلق الأمر بادراك الواقع في قوانينه الكلية، أم في إدراك كل شكل خاص من أشكال حركته، وهذه العملية لا تتدخل فيها علاقة الإنسانية بالطبيعة وحسب (مستوى التطور التقني والعلمي)، بل وأيضا الصراع الطبقي، هذا لا يعني، كما يتوهم البعض وجود "حقيقة سياسية" أو "حقيقة طبقية"، "علم برجوازي" و"علم بروليتاري" مثلا، أو "علم تقدمي" و"علم رجعي"(6) في تعبير آخر، بل أنه يوجد علم واحد وحقيقة موضوعية واحدة، يكون اكتشافها واستثمارها مجالا لصراع طبقي خاصة في العلوم الاجتماعية وهذا ما سنأتي لتحليله بعد قليل، فالعلمية المطلوبة في الفكر تتحدد بمضمونه، في قدرته على عكس القوانين الموضوعية للواقع المادي ولحركته، بشكل صحيح، وليس شكله النظري كافيا، بذاته ولذاته، في اتباث ذاته كفكر علمي، نجد أنفسنا، في أحايين كثيرة، أمام نظريات غير صحيحة.
لقد كانت نظرية لامارك Lamarck (7)حول تطور الأحياء تقوم على مبدأين أساسيين : الأول هو مبدأ الاستعمال / عدم الاستعمال، فالعضو الذي يستعمل بوتيرة عالية من طرف المتعضي ينمو ويستمر، أما العضو الذي لا يستعمل فينحو نحو الضمور و الاضمحلال،و الثاني هو وراثة الصفات المكتسبة، فالصفات التي يكتسبها المتعضي خلال دورة نموه، هي قابلة – حسب لامارك - للانتقال وراثيا إلى خلفه، ويحدث تطور الأنواع في الطبيعة انطلاقا من تفاعل هذين المبدأين. ومن المعلوم أن داروين، لدى اكتشافه للانتخاب الطبيعي كمحرك للتطور البيولوجي، لم يتقدم بتفسير لعامل انتقال الصفات الوراثية من السلف إلى الخلف، واعتبر، في سياق تعميماته حول التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي في "أصل الأنواع"، أن هذا العامل لا يزال غير معروف بعد بالنسبة للعلم (وان كان قد وضع فرضيته لتفسير الوراثية بشمولية التخلق سنة 1868، المستوحاة من أبقراط والتي لم تعط أهمية حتى لاكتشافات مندل، المعاصر له) هذا ما وفر للاماركية أرضية كي تستمر، خاصة على أيدي ميتشورين عالم النبات الروسي الشهير، الذي بنى صرحه النظري في علم الوراثة على أرضية اللاماركية، أبحاث ميتشورين بدورها وجدت طريقها إلى التعمق والاغتناء مع تروفيم ليسنكو، صاحب الكتاب الضخم "البيولوجيا الزراعية" الذي كان له أعمق الأثر في حسم الصراع حول قوانين الوراثة في الاتحاد السوفياتي ضد المندلية، وبالتالي مشتقاتها وتفرعاتها لدى وايزمان ومورغان مثلا.
ذلك أن الاكتشافات الجديدة في علم الوراثة وضعت البيولوجيا في قمقم أزمة ابستيمولوجية حقيقية، فالقوانين التي تحكم انتقال الصفات الوراثية من الكائن الحي إلى نسله، تعتمد على علاقات إحصائية لا تأخذ بعين الاعتبار ظروف الوسط / العالم الخارجي التي يوجد فيها الكائن الحي، والتي هي بالضبط ظروف الصراع على البقاء والضغط الانتخابي المسلط على الفرد والنوع معا، وهذا ما وضع علم الأحياء أمام الإشكال المحير : اذا كانت القوانين المندلية لا تعترف بأثر الوسط على الصفات الوراثية، وبالتالي لا وجود لصفات مكتسبة، ما هو أصل التغيرية الوراثية ؟ كيف يتم حفظ صفات وطرح أخرى عبر الانتخاب الطبيعي، اذا ما كانت هاته الصفات أصلا، لا تحسب للعالم الخارجي حسابا ؟ لقد انبثقت هاته الأزمة المعرفية انطلاقا ما بدا كتناقض مابين المبادئ الداروينية للتطور البيولوجي من جهة، والقوانين المندلية للوراثة من جهة أخرى، ولم تكن المحاولات الحثيثة لاكتشاف المادة الوراثية - مثل تجارب غريفيت Griffith الذي سماها بالعلة المحولة– بحد ذاتها كافية للخروج منها، وفي هاته الشروط العصيبة، برز اتجاهان رئيسيان في التعاطي مع المندلية.
الاتجاه الأول عبر عنه العلماء والفلاسفة البرجوازيون الذين – وقسم مهم منهم، هم من المندليين أنفسهم – الذين سارعوا فرحين لاعتبار قوانين الوراثة المندلية، فعلا إلغاء لوجود التطور في الطبيعة الحية، وأن التغيرية الوراثية لا يمكن أن نجد جذورها الا في الصدفة أو في أسباب فوق-طبيعية، ذلك أنه حين تصير ظواهر التغير البسيط (التطور الصغروي Microévolution)، غير مفهومة، فان ما هو أكثر تعقيدا منها، كانبثاق الأنواع – الانتواع والتطور الكبروي Macroévolution) سرا مبهما لا يعلم تأويله الا الله. لقد أعادت الفلسفة المثالية إنتاج نفس الهجمات ضد المادية، التي وجهتها لها مع الثورة الكوانتية في الفيزياء بشكل آخر، وفي حقل معرفي آخر هو البيولوجيا، خاصة، في سياق تاريخي يعرف تقدما ملحوظا للثورة العالمية في شروط الأزمة العامة للرأسمالية، مرتبطا بصعود الاتحاد السوفياتي كأول دولة اشتراكية تحت قيادة الرفيق ستالين، وانتشار الماركسية-اللينينية بصورة واسعة وتحولها إلى إيديولوجية حركة التحرر الوطني في عدد كبير من بلدان العالم (الصين، ألبانيا، كوريا...).
أما الاتجاه الثاني فعبر عنه العلماء السوفيات، أو للدقة المدرسة الميتشورينية في علم الوراثة بالاتحاد السوفياتي، لقد اعتبر رواد هذا الاتجاه، وفي مقدمتهم ليسنكو، أن المندلية نظرية خاطئة، وأن القوانين التي تقدمها ليست قوانين طبيعية بل هي مجرد علاقات إحصائية - احتمالية، لا تسندها أي دلائل مادية، واعتبر ليسنكو أيضا، أنه لا وجود لأي "مادة وراثية" مفترضة. وانطلاقا من مجموعة من التجارب أجراها ليسنكو على النباتات - قام فيها بإجراء عدة تغييرات على أجيال متعاقبة منها وفي شروط مختلفة – خلص إلى كون الصفات المكتسبة يتم ثوريتها فعلا، وأن الوراثة لا يمكن أن تتم بخارج التفاعل مع الوسط الخارجي للمتعضي. وقد ضمن مؤلفه الرئيسي "البيولوجيا الزراعية - الوراثة، الانتقاء، وإنتاج الذرة" ملخصات ونتائج تجاربه حول النباتات، وكذلك مجادلاته ضد المندليين بالاتحاد السوفياتي وخارجه، والتي قامت على فكرة معاداة المندلية للمادية الديالكيتكية، وقانون الترابط الشامل بين الظواهر، واستعادة قراءة انجلز لنظرية التطور في "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان" التي استدمجت فرضية داروين حول قوانين توازي النمو للمتعضي، والتي كان لها، مع اكتشاف الاستقلال والترابط بين المورثات (الجينات) تأويل آخر.
لقد اعتبر ليسنكو أن قواعد الوراثة عند ميتشورين هي التي تتسق مع نظرية التطور عند داروين ومع المادية الديالكيتكية، أما المندلية فهي معادية لهما معا، وقد انحازت قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي آنذاك لهذا الطرح ووقفت موقفا سلبيا من المندلية وممثليها المحليين، خاصة بعد أن لاقت نظرية ليسنكو، لدى تطبيقها في الإنتاج الزراعي بكولخوزات وسوفخوزات الاتحاد السوفياتي، نجاحات عملية باهرة. لكن تقدم العلوم فيما بعد، والبيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية خاصة، بين أن ذلك غير صحيح، إذ مع اكتشاف جزيئة الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين ADN الذي عمق ووضح مبادئ النظرية الصبغية حول الوراثة، وأعطى أساسا علميا متينا للمندلية، أطيح باللاماركية ومشتقاتها اللاحقة (عند ميتشورين وليسنكو) وفتح المجال للمجهودات الحثيثة لدى علماء البيولوجيا التطورية، لإنتاج نظرية علمية تركيبية تعمق نظرية تطور الأنواع وتملأ فراغاتها على ضوء الاكتشافات الجديدة، ما تجسد في اجتهادات الداروينية الجديدة(8) التي تعد، لحد الساعة التركيب النظري الذي أخرج البيولوجيا من أزمتها تلك بفاعلية منقطعة النظير.
حسنا، يمكننا أن نستخلص عدة نتائج بالغة الأهمية من هذا المثال، لكن قبل ذلك يجب أن نورد الأسباب التي جعلتنا نعالج هذا المثال بالضبط : ان أول هاته الأسباب هو أن هذه الحالة (أزمة البيولوجيا ونظرية ليسنكو) كانت موضوعا لنقاشات ملتهبة طوال النصف الثاني من القرن العشرين، سواء في الفلسفة أم السياسة، ناهيك عن العلم نفسه، وكانت الدراسات التي تناولت هذه الأزمة غزيرة(9) يحاول كل منها قراءتها وفقها لمنظوره الفلسفي والسياسي الخاص، وقد تسابق إليها المتسابقون على مقاربة علاقة الفلسفة بالعلم، والذين لم يكن المتسابقون على تقييم ومحاكمة التجربة الاشتراكية السوفياتية، أقل منهم حماسا وجنونية في استخلاص النتائج – المستخلصة في الحقيقة قبل التحليل نفسه – بسرعة وبراعة ملفتة للانتباه، ومثل هاته النتائج هي موجودة أيضا في التحليل الابستيمولوجي لرفاق البديل الجذري لمفهوم النظرية وعلاقتها بالممارسة، كما أن بعضها موجود في التجربة نفسها. وثاني هاته الأسباب، هو أن الفهم السليم للابستيمولوجيا الماركسية لا تستنفذه الكلاسيكيات، وكأن الصراع حول المادية في ميدان العلوم قد انتهى مع اكتشافات الفيزياء وأغلق بذلك كتاب لينين "المادية والنقد التجريبي" بابه للأبد، بل ان هذا الصراع لا يزال مستمرا حتى الساعة، وبأشكال أعنف، خاصة مع موجة الردة والانبطاح والتحريف التي يقودها ماركسيو الأمس، خونة اليوم، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، ولعل كتابات عبد الله الحريف و من لف لفه حول الماركسية والمادية الجدلية لهي خير دليل.
أمام تبين خطأ نظرية ليسنكو حول الوراثة– بقى أمامنا خياران ليس لهما من ثالث، فإما أن نعلن أن هاته الليسنكية لم تكن علمية، وإما أن نقول أنها لم تكن نظرية. فإذا كانت النظرية، هي المعرفة العلمية حسب فلاسفة البديل الجذري، وجب أن تنتفي صفة النظرية عن كل نظرية غير علمية، فتكون بالتالي، كل نظرية، علمية بالضرورة. هذه النتيجة التي تتسق منطقيا مع مفهومهم عن النظرية من جهة، تتسق أيضا مع استهزائهم المعروض والمنقود سابقا في بدايات المقال، من التنبيه إلى ضرورة النظرية في النضال الثوري، بشكل يغفل أن المشكل في حقيقته ليس في غياب النظرية، بل في غياب النظرية العلمية، فانعكاس الواقع في الفكر بشكله النظري، أو بالأحرى انعكاس الواقع في دماغ الانسان في شكل فكر نظري، ليس بالضرورة أن يكون دائما صحيحا وليس من المفروض عليه، قسرا، أن يكون كذلك، وأن "النظرية" التي تتأتى من "الممارسة" لا تكون دائما علمية. وقد يقول قائل، كمخرج من هذا المأزق أن نظرية ليسنكو مثلا، كانت نظرية علمية، لكن غير صحيحة. وهذا يطرح السؤال : ما هو إذن معيار علمية النظرية ؟ اذا لم تكن علمية النظرية تتحدد، ماديا وجدليا، في مضمونها، أي في قدرتها على عكس القوانين الموضوعية للواقع بشكل صحيح، فما الذي يحددها بالتالي كنظرية علمية ؟ اللهم ان كان المقصود هو القبول بالتسطيح المثالي لكارل بوبر حول معيار "القابلية للتخطئة" كمحك لعلمية النظرية، وهذا شيء آخر مختلف تماما.
هذا ليس سوى استنتاج أول نهتدي إليه في تحليلنا لمثال ليسنكو، ويوجد ثان، وهو أن "الممارسة" التي يقيم عليها رفاق "البديل الجذري" الدنيا ولا يقعدونها، ليست بذاتها، كافية للحكم على علمية نظرية من عدمها، إذ على الرغم من أن الأطروحات الميتشورينية – الليسنكية في علم الوراثة قد دعمتها التجارب حول النباتات وفعالية استخدامها في الإنتاج الزراعي، تبين في النهاية أن هاته الأطروحات كانت خاطئة. وهذا يعني أن اختبار صحة النظرية في الممارسة العملية، لا تتحدد نتائجه فقط بالمعطيات التي يقدمها على المدى البعيد وحسب، ولكن أيضا، ولكن بالتحليل العلمي لهاته المعطيات نفسها. فانتظار نتائج بعينها من التجربة، بكونها هي الفيصل في استصواب إحدى الفرضيات النظرية أو تخطئتها – والحكم بالتالي على هاته الفرضية في ضوء هاته النتائج – سيصير عملا صبيانيا اذا لم يقترن بتحليل نظري علمي لحدود العلاقات بين هاته النتائج وبين هاته الفرضية النظرية، إذ قد يكون محتوى هاته النتائج من أسباب ليس بالضرورة الأسباب التي تعبر عنها الفرضية. نهج التجريبية / والبراغماتية هذا يتم استعماله على أوسع نطاق أيضا لدى مقاربة الحركة الاجتماعية، وهو الذي اعتمده بالأساس - وعلى سبيل المثال – تحريفيو ما يسمى بخط إعادة البناء 1979، لدى تقييمهم للخط الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" في ضوء ممارستها العملية، ونتائج هاته الممارسة خلال عشر سنوات من الكفاح الثوري والصمود البطولي(10).
هنالك أيضا استنتاج ثالث يمكن الخروج به من هاته التجربة، وهو أنه من المستحيل الفصل بين الفلسفة والعلم، بين النظرية والمنهج. فحينما نطرح السؤال : لماذا بنى ليسنكو نظرية خاطئة / غير علمية ؟ يتسابق المنظرون البرجوازيون للقول بأن هذا كان نتيجة لتدخل "الايديولوجيا" في العلم، وأن الممارسة العلمية المحضة والممارسة النظرية المعزولة عن "الخلفيات الإيديولوجية والسياسية" هي التي بودها إيصال العالم إلى الحقيقة، أو للقول، مثلما ترى الفلسفة الوضعية ونزعاتها العلموية المنتشرة حتى في أوساط بعض الشيوعيين أنفسهم، أن ذلك كان نتيجة لتدخل الفلسفة في العلم. وهنالك إجابة ثالثة ليست أقل حقدا على الماركسية من سابقتيها، هي أن خطأ ليسنكو كان نتيجة لاعتماده المادية الديالكيتكية، والتي هي بالمناسبة، خاطئة ! هاته الإجابات الثلاث ليست في الحقيقة إجابات ثلاث، بل أوجها ثلاثة لإجابة واحدة، هي إجابة الوضعية positivisme التي تقيم سورا صينيا عظيما بين الفلسفة والعلم، الا أن لكل عالم أو باحث علمي فلسفة يعتمدها في بحثه العلمي، وهي فلسفة عفوية للعالم يعتمدها بغض النظر عن إرادته ووعيه، فكل العلماء ماديون جدليون في المختبر شاءوا أم أبوا، بتعبير بوليتزر، لكن عدم وعي العالم بالفلسفة والمنهج اللذان يعتمد، يؤدي على أبعد المدى أو متوسطه، إلى انحرافه عنه، فليس المطلوب هو تجرد العالم عن المادية الديالكيتكية – أو الفلسفة بالمطلق – بل وعيه بها، ان العلماء الذين هم أشد استنكارا للفلسفة – كما يقول انجلز، ساخرا من الوضعية – هم عبيد للبقايا المبسطة لأسوأ المذاهب الفلسفية.
إلام يرد خطأ ليسنكو إذن، في ضوء هذا الفهم المتقدم الذي أعطته الماركسية للإشكالية ؟ لم يكن راجعا، إلى ارتباط ليسنكو في ممارسته العلمية بالفلسفة، ولا إلى ارتباطه بالمادية الديالكيتكية – التي يتنافس المتنافسون على الطعن فيها – كما لا يمكن إحالته إلى مجرد مستوى التطور التقني والعلمي للإنسانية، بل إلى انزياحه عن المادية الديالكيتكية، وليس الانزياح هذا بسبب عدم وعيه بها أو تعامله العفوي معها، بل بسبب فهمه الخاطئ والمبسط لها، والذي اتجه نحو التجريبية والبراغماتية في فهمه لعلاقة النظرية بالممارسة، وكذلك في علاقة المكتشفات الجديدة للمندلية بقانون الترابط الشامل بين الظواهر، وكيف يتم هذا الترابط الشامل بالضبط، هذا الانزياح هو ما تم التعبير عنه مثلا في "المعجم الفلسفي الصغير"(11) (موسكو – 1955) الذي يهاجم نظرية مندل انطلاقا من هذا الانزياح والفهم الضيق لجدلية النظرية / الممارسة والذي قمنا بعرضه ونقده في الاستنتاج الثاني.
يوجد أيضا الكثير ما يمكن استخلاصه من هذا المثال سواء في ميدان الابستيمولوجيا أم في ميادين أخرى – مثل أطروحة "الحقيقة السياسية" و"العلم البروليتاري" أو تقييم التجربة السوفياتية في مسألة علاقة ديكتاتورية البروليتاريا بالبحث العلمي والفن، وكيف نظرت التجربتان الصينية والألبانية لهذه المسألة – لكنها لا يمكن أن تكون الا موضوع بحث لاحق مستقل. و هاته الاستنتاجات، انطلاقا من مثال ليسنكو والأزمة الابستيمولوجية في علم البيولوجيا، الموضوع الذي يتحدى الإطار النظري والفلسفي الضيق للبديل الجذري في مقاربته الاختزالية للنظرية، وعلاقتها بالممارسة العملية. كما يتحدى، بل يهشم، نظرية التهرب لديه من تقييم تاريخ الحركة الشيوعية العالمية – والذي سبق لنا نقده في "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية...لا أقل من ذلك" - ليس فحسب من حيث نظريتها وممارستها السياسية، بل أيضا من حيث رؤيتها الفلسفية ومقاربتها المنهجية للماركسية والمادية الجدلية، ان عدم التصدي لأزمة الثورة العالمية في التصدي لتقويم منجزات وأخطاء الحركة الشيوعية العالمية، يقود لا محالة، إلى تضييع المنجزات وتكرار الأخطاء.
بحثا عن تبرير للتجريبية، البديل الجذري يلوي عنق علم الفيزياء بعنف:
هاته الأعاصير الفكرية، وزوابع الجدال النظري الملتهبة التي فجرتها شروط الأزمة الراهنة للثورة العالمية والمغربية، والتي ليس المثال السابق الا جزءا يسيرا منها، لا تتحدى الأسس الفلسفية لتيار "البديل الجذري" من حيث تصوره لمفهوم النظرية وحدوده فحسب، بل أيضا في بحثه لأصل النظرية و نقطة ابتدائها عند الانسان، وإذا كان تصوره هذا للنظرية هو بذرة كل منزلقاته الفلسفية اللاحقة، فان هاته المنزلقات لها بعض الاستقلالية النسبية عن مقدماتها، لكنها ترتبط بها في التحليل الأخير. يقومون بطرح سؤال نقطة ابتداء النظرية بعد تلخيص لمفهومها، قائلين : "فعندما نتحدث عن النظرية نتلمس ضمنيا وجود معرفة واسعة حول الشيء أو مجموعة من الظواهر دون أن يعني ذلك أن المعرفة تتجزأ في النظريات، وفي نفس الآن لا يمكن أن نسمي النظرية أطروحة أو مجموع الأطروحات ولو أوسعها شمولا. ويبقى السؤال من أين تبتدئ النظرية ؟"
ثم يواصلون : "من البديهي أن الوقائع هي الأساس الذي تبنى عليه الفرضية العلمية، وبالنظر لهذا أيمكن اعتبار الوقائع بمثابة النواة الأولى ولا نقول الأساس لبناء النظرية.
ان الوقائع هي شكل من الأشكال المتضمنة للحقيقة الحقيقية، وهي المعطى العنيد الذي يواجهه الباحث والدارس في أي مجال من المجالات للقبض واستكشاف الحقيقة. لذا علينا أن نعترف به أحببنا أم كرهنا لكن الوقائع لا تتبث بعضها بعضا بالضرورة. الا أنه في بعض الأحيان يشيد "العلم" على المثل العليا من خلال زيف تنشئه الوقائع وفي أحيان أخرى يتم حصر"الأحكام النظرية" على الواقعة وتحويل النظرية إلى حكم غير مبرهن. وكيفما كان الأمر فالوقائع تبقى مهمة لأنها تحتفظ دائما بالمضمون وبدلالتها في مختلف النظم المعرفية، في حين أن النظرية قد تنهار".
ولإضاءة هذا القول بأمثلة، يوردونها من تاريخ تطور الفكر العلمي : "نتوقف مثلا على نظرية نيوتن حول الحركة والمادة والتي كانت تقول أن الأجسام لا تتحرك ما لم تدفع، ليترك متسعا للتوافق مع اللاهوت، وأن المادة مصنوعة من كرات بلياردو صغيرة وصلبة. هذه النظرية عمرت لمدة قرنين ونصف وفي عام 1925 بها نهائيا وتمت إزاحتها من قائمة النظريات العلمية مع هايزنبرغ وشرودينغر وآخرين الذين طوروا نظرية الكوانتوم، بعد تحليلهم للخصائص الفيزيائية للذرات واكتشاف حركة الالكترونات. فالزلزال أصاب نظرية نيوتن وبقيت المادة تحتفظ بحقيقتها ومضمونها. ومثلهما أصيبت فلسفة ارنست ماخ التي اعتبرت الذرات غير موجودة على الإطلاق والتي أطيح بها في الصراع مع المادية الديالكيتكية على يد لينين، كان أيضا لاكتشافات 1925 كلمة الفصل".
من ذلك يتم الاستخلاص "فجمع الوقائع جزء مهم جدا وفي جميع ميادين البحث العلمي التاريخية والاجتماعية والبيولوجية...وغيرها، للخوض في بناء النظرية. ومع ذلك مهما كان حجم الوقائع فهي ليس في حد ذاتها بالبحث العلمي، لذا فالدارس الجاد هو دائم التنقيب عن الوقائع لكن لا تشكل هدفه، بل هي وسيلة لحل المشاكل التي تعترضه (...) فمن البداية ينطلق الباحث من هدف محدد والذي يتغير ويتطور مع سير عملية البحث، وهذا الهدف يتطلب وقائع محددة ويحتفظ للوقائع الأخرى بقيمتها ما لم يتم إنشاء نظام معرفي نهائي مرضي. إذن، فطرح وقائع ليس من باب الخلفيات السياسية أو الإيديولوجية، بل لأن الأهداف المحددة لا تتطلب ذلك، لأن هدف البحث لا يمكن انجازه بالحشو الكلي لكل الوقائع، وهذا لا يعني أن الوقائع تتضمن في حد ذاتها الهدف المحدد، بالعكس، فالوقائع لا تتضمن الهدف في ذاتها، لذا فهي ليست النواة الأولى للدراسة والبحث. والسؤال هو : من أين تتبلور النواة الأولى ؟ أي من أين تأتي."
من الواضح أن الإمساك بطرح البديل الجذري، في بنائه المفاهيمي – وبالتالي في الحركة الاستخلاصية لمفاهيمه النظرية – للإشكالية التي يريد طرحها والإجابة عنها، في الجزء الأول من "لتعلم السباحة يجب الذهاب في الماء"، والتي هي أصل تكون النظرية، يتطلب ترتيبا في الذهن لمحطات تمرحل هاته الحركة الاستخلاصية التي يطرح سؤال "النواة الأولى للنظرية" كتتويج لها، وذلك لأن الطريقة التي بها يطرح هذا السؤال، والإشكالية المتعلقة به، تحددها بصورة ضمنية الأرضية النظرية التي يتم عليها هذا الطرح، وتحدد لاحقا، الشكل الذي تتخذه الإجابات، أو، ولنكون أكثر دقة ووضوحا، الشكل الذي تتخذه إجابة الممارسة كمصدر للنظرية، الذي يهيئ بذاته شروط إنتاج مقاربة الموضوع من زاوية الممارسة كمقياس لاختبار النظرية، وذلك من نفس الموقع الفكري – موقع التجريبية / البراغماتية – في الجزء الثاني.
ينطلق بناء هاته الأرضية من مقابلة ثنائية بين حقيقتين، الأولى هي كون الوقائع هي ما يواجهه الباحث العلمي في بحثه ودراسته، والتي تحتفظ بقيمتها ومضمونها وان انهارت النظرية – ما يبينه الاستشهاد بمثال نيوتن واكتشافات 1925 / الفيزياء الكوانتية – من جهة، والثانية هي أن الوقائع بحد ذاتها لا تتضمن الهدف لبناء النظرية، وليست النواة الأولى للدراسة والبحث العلميين، وهذا يعني، انطلاقا من هاته المقابلة، أن سؤال أصل تكون النظرية يظل مطروحا رغم الاعتراف بكون الوقائع تعتبر أساسها، وبالتالي فان السؤال الذي تم طرحه في البداية بصيغة "يبقى السؤال من أين تبتدئ النظرية ؟"، يعاد طرحه بصيغة "والسؤال هو من أين تتبلور النواة الأولى ؟ من أين تأتي." ولعل طرح السؤال في شكله الثاني يختلف عن طرحه في شكله الأول، ذلك أن طرح السؤال في شكله الثاني، يقوم على أرضية نظرية تختلف عن الأرضية النظرية التي يقوم عليها طرحه في شكله الأول. إذ في الثاني يقوم على أرضية هاته المقابلة الثنائية التي منها ينطلق في طرح السؤال مجددا في شكل آخر، أعمق – ان جاز التعبير – من شكل طرحه الأول. وجب إذن، النظر في أرضية السؤال أولا قبل النظر في الإجابة التي يعطيها رفاق البديل الجذري عنه، وهي الخطوة الضرورية التي ستمكننا من معرفة الأسباب التي جعلت السؤال يطرح بهذا الشكل بالذات، وألزمت بالتالي، على إجابته، أن تتخذ ذلك الشكل بالضبط.
التجلي الواضح لمضمون هاته الأرضية النظرية يظهر من خلال المثال الذي يقدمونه لأجل "تقريب النظرة"، المأخوذ من تاريخ تطور علم الفيزياء اللذان يرتكبون في حقهما – العلم وتاريخ تطوره، من خلال هذا المثال – فظائع مجزرة حقيقية، ذلك أنهم استبدلوا البحث في تطور علم الفيزياء لأجل استنباط الخلاصات الفلسفية حول النظرية والبحث العلمي، بالتشويه المقصود لهذا العلم لأجل تبرير وجهة نظر فلسفية معدة مسبقا. هذا ما يتبدى مثلا، في عرضهم للانتقال من نيوتن إلى الكوانتوم، هذا العرض الذي يستحق، لجدية ما يحمل من خطر على المادية الديالكيتكية وعلم الفيزياء معا، وقفة مناقشة جدية لما يحمله من مغالطات تاريخية وعلمية، يتم عبرها قولبة الفيزياء، على طريقة سرير بروكست، لصالح الفلسفة التجريبية.
أول ما يلفت النظر من بين هاته المغالطات، هو الادعاء بأن ضرورة المصدر الخارجي (الدافع) للحركة عند نيوتن، لم تدحض الا مع الميكانيكا الكوانتية – مع هايزنبرغ وشرودينغر - وهذا غير صحيح بتاتا، إذ أن تبيان بطلان هاته الرؤية قد تم قبل ذلك بكثير، مع النسبية العامة، هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فهاته الرؤية هي نفسها ليست جزءا من ميكانيكا نيوتن بل هي جزء من فلسفته، وعدم التمييز لدى دراسة النتاج الفكري لعالم محدد بين الفلسفي والعلمي عنده – الذي لا يكون بالضرورة متسقا مع ذاته، أي في اتساق العلمي مع الفلسفي فيه – هو، بحد تعبير مظفر النواب، طلقة قاتلة. فان كانت فلسفة نيوتن لأسباب متعلقة بعجزه عن القطيعة مع المثالية واللاهوت، تقر بضرورة وجود مصدر خارجي للحركة كي يتحرك الجسم، فان ميكانيكا نيوتن تقول شيئا آخر، فانطلاقا من مبدأ القوى المتبادلة الذي شرحه نيوتن في "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"، لا يمكن لجسم A أن يحرك جسما B، الا اذا كانت القوة المطبقة من طرف A على B أكبر قطعا من القوة المطبقة من طرف هذا الأخير على الجسم A.
ولعل علم "مقاومة المواد RDM"– والذي يستند بالأساس إلى الميكانيكا النيوتونية – يكشف بوضوح أشد تهافت افتراءات رفاق البديل الجذري على نيوتن والفيزياء بعامة، هذا الفرع من الميكانيكا، سيشهد انفجارا معرفيا هاما فيما يتعلق بدراسة أعماق بنية المادة، خاصة مع الفرع الجديد الذي سيتشعب عنه الذي هو علم "بنية المواد SDM"، حيث يدرس البنية الداخلية التي تشكل المادة انطلاقا من الأشكال المختلفة لانتظام الجزيئات، والتي تحدد مقاومة جسم مادي معين والقوى الداخلية له، بل أن هذا الجسم يملك طاقة داخلية يعبر عنها بالحرف u وتحسب بمجموع طاقته الحرارية وشغله W. هذا ما يبينه كذلك التكافؤ بين مجموع الطاقة اللازمة لتفريق جزيئات الجسم من جهة، ومابين الطاقة الضرورية لتمزيق هذا الجسم انطلاقا من قوى خارجية، والتي تكون، بالضرورة، أكبر قطعا من الطاقة التي تبقي، داخليا، الجزيئات مجتمعة، هذا يمكن سحبه أيضا على تكون الجزيئات نفسها انطلاقا من الذرات.
ذلك أن تكون ما يبدو للعين السطحية كروابط تساهمية ما بين الذرات، في إطار جزيئة محددة، ليس في حقيقته الموضوعية سوى عجز لكل ذرة على حدة على انتزاع إلكترون – كهرب - من الذرة الأخرى، نظرا لأن الطاقة اللازمة لانتزاع هذا الإلكترون متساوية لديهما معا، وهذا العجز يتم كسره فقط في حالة عدم تساوي كمية هاته الطاقة، ما ينتج عنه تكون الأيونات بشكليها (الكاتيونات والأنيونات)، هاته الطاقة المعبر عنها بE(r) حيث أن E هي هاته الطاقة بدلالة r الشعاع الفاصل مابين الكترونات المجالات الطاقية الخارجية من جهة، ونواة الذرة المدروسة، من جهة أخرى. نذكر مجددا، فلاسفة البديل الجذري، أن اكتشاف هاته القوانين لدى علم "بنية المواد" تم انطلاقا من الإطار النظري للميكانيكا النيوتونية.
أما عن انتظار علم الفيزياء لنظرية الكوانتوم، لأجل تجاوز تصور نيوتن حول المادة بما هي "كرات بلياردو صغيرة وصلبة" فهي مغالطة ما بعدها مغالطة. ذلك أن هذا التصور الذي كان نتاجا لسيادة الغموض في عصر نيوتن حول مفهوم الطاقة – الذي كان يرد، في غالب الأحايين، إلى مبادئ تفسير غيبية – قد تم تجاوزه مع النسبية العامة وليس مع الكوانتوم، التي ستوضح – النسبية - الماهية الفعلية للطاقة، في علاقتها بالكتلة. إذ انه في إطار وحدتهما معا (التي هي المادة) تتحول الواحدة نحو الأخرى بتأثير عوامل حركية متعددة، والسرعة بالأساس، هذا التحول المعبر عنه رياضيا بعلاقة اينشتاين للتكافؤ + K E= mc2 (المتداولة على شكل E= mc2 نظرا لانعدام مقدار الطاقة الحركية K في حالة سرعة الضوء، لأن نهاية الدالة المعبرة عن التكافؤ في ∞-;---;--+ تؤول نحو الصفر). هذا الفتح العلمي الجديد هو الذي بدد التصور السابق حول بنية المادة ككرات بلياردو، إذ انطلاقا منه، تتمظهر المادة على شكلين (الكتلة والطاقة) بما يتناسب وسرعة حركتها، على عكس التصور النيوتوني السابق الذي كان لا يرى المادة الا في شكل واحد وحيد هو الكتلة.
أما الميكانيكا الكوانتية، فليست – كما يحاول رفاق البديل الجذري إنتاج الوهم – رميا لكل التطور السابق للفيزياء في سلة المهملات، كما تشير إلى ذلك عبارات "الزلزال أصاب نظرية نيوتن" و"أطيح بها نهائيا" و"تمت إزاحتها من قائمة النظريات العلمية"، بل محاولة لسد جوانب القصور التي ظهرت في النسبية العامة، لدى مجابهتها لقسم من الظواهر الفيزيائية كان لا بد لمعالجته من تطوير الإطار النظري للميكانيكا، مثلما أن النسبية لم تركل بقوائمها الخلفية ميكانيكا نيوتن(12)، ولتحطيم هذا الوهم نجابهه بسؤال : ماذا نستعمل بالضبط حين نريد دراسة حركة قذيفة من نقطة A إلى نقطة B، هل نلجأ للميكانيكا النيوتونية، أم الى قوانين النسبية العامة مثلا، أو نظرية الكوانتوم ؟ لعل الإجابة الثانية أو الثالثة – وربما الثالثة وحدها – هي وحدها التي يتسع لها منطق البديل الجذري في تحليله لتطور علم الفيزياء، والذي يحاول، في تحليله وفي منطقه، الإيهام بأن تطور العلم يتم بالكنس الكلي لما سبق، والاعتراف باللاحق وحده. فهذا الفكر الذي يريد أن يظهر للناظرين بجلباب المادية، عبر طريق "البقاء للوقائع، والنظريات تنهار" يغفل أن جلباب المادية الميكانيكية – ولاحقا اللاأدرية كتطور حتمي له – هو وحده سيكون على مقاسه، في عناده لمقاربة المادية الديالكيتكية لتطور العلوم والمعرفة الإنسانية، في التناقض بين الحقيقة المطلقة والنسبية في إطار الحقيقة الموضوعية، والذي هو مشروط ومتمرحل – التناقض – تاريخيا.
لعل هذا المثال الذي يعطيه أنصار البديل الجذري عن تطور علم الفيزياء – من نيوتن إلى هايزنبرغ وشرودينغر، دفعة واحدة، سبحان الله - لهو أصدق تأكيد لمجمل تحليلنا السابق حول ضرورة ارتباط مادية الفهم العلمي لتطور المعرفة لدى الإنسانية بتاريخيته، وحول ضياع مادية هذا الفهم، وبالتالي علميته، لدى الرفاق كاتبي "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، لدى مقاربتهم للنظرية والمعرفة العلمية لدى الانسان، وحيث أن الانغلاق التاريخاني/التجريبي في قمقم المظاهر السطحية لحركة تطور الفكر العلمي الفيزيائي - فضلا عن الإخلال بالأمانة العلمية في عرض نيوتن، لحاجة في نفس يعقوب قضاها – أدى إلى الخروج بخلاصات فلسفية مناهضة في العمق للمادية الديالكيتكية ونظريتها عن المعرفة، ذلك ان اكتشاف قوانين حركة الالكترونات مع نظرية الكوانتوم، الذي يحاول أن يظهره الرفاق في تيار البديل الجذري بمظهر "إطاحة" بنظرية نيوتن، و"انهيار" لهاته الأخيرة، يحمل – فضلا على أن الكوانتوم ليست هي التي صححت نيوتن بل النسبية العامة، كما سبق الذكر - مغزى فلسفيا فعليا يختلف عن المغزى الفلسفي الظاهري الذي يحاول أن يكونه، فكلما يجهد الرفاق في الظهور ماديين، تبين، من خلال الأمثلة التي يقدمون وتأويلاتها – أو قل، تأولاتها – العكس تماما، وكأن بهم يقولون "انظروا، نحن ماديون...نحن ماديون، الوقائع تبقى، والنظرية تنهار، لكن الوقائع تبقى قائمة، رغم انهيار النظرية"، لكن ضرورة المادية المعاصرة هي أن تكون ديالكتيكية، وإلا سترتد ضد ماديتها نفسها في آخر التحليل، لأن هذا الفهم الذي يتأول تاريخ الفيزياء بشكل يبدو وكأن الاكتشافات العلمية الجديدة بمثابة إزاحة تامة لما سبقها من تراكم معرفي، وكأنه مع كل نظرية جديدة، "ينهار" النظام المعرفي السابق ويتهاوى، "تنهار" النظرية، ببساطة، له – هذا الفهم – ما له من خطر على الماركسية وحركة الثورة البروليتارية.
لرصد مكمن هذا الخطر لا بد من الوقوف قليلا قبل ذلك على السبب الذي ألزم على كاتبي المقال هذا النط المغامر من نيوتن إلى هايزنبرغ وشرودينغر، الذي لا يمكن رده، إلى الجهل بتاريخ علم الفيزياء، هذا التاريخ الذي صار يعرف خطوطه العامة أي مبتدئ في دراسة الفلسفة و الابستيمولوجيا، ولا إلى التشويه المقصود لهذا التاريخ وحسب، لأن لهذا التشويه أساسه الفلسفي التي حتمت عليه أن يكون، هو في الرغبة بإظهار الكوانتوم وكأنها ليس نتاجا لاختبار النسبية العامة في الواقع حيث كشف لديها عن بعض جوانب النقص – والتي كانت هي نفسها إجابة على جوانب النقص التي ظهرت عند الميكانيكا النيوتونية – بل وكأنها نهاية ل"قرنين ونصف" من عمر نظرية نيوتن، وتم "الإطاحة بها نهائيا" و"إزاحتها من قائمة النظريات العلمية" مع اكتشافات 1925، فمع اكتشاف قوانين حركة الالكترونات، تهافتت النيوتونية وسقطت، ولا بقاء الا للوقائع التي "تحتفظ بقيمتها ومضمونها في مختلف النظم المعرفية"، فالحذف المتعمد – ان لم نقل القذف المتعمد – للنسبية لدى مقاربة تطور العلم الفيزيائي، ليس في عمقه الفلسفي الا تغييبا للنظرية كأداة معرفية لاختبار الواقع الموضوعي نظريا، في الوقت نفسه الذي يكون الواقع الموضوعي محكا ماديا لاختبارها واقعيا، وبالتالي إلغاء الطابع الحلزوني للتطور المعرفي للإنسانية تاريخيا، وإحلال التاريخانية محله، والتي هي الترجمة الأكثر معقولية للتجريبية في مقاربتها لهذا التطور.
والسير على نهج هذا المنطق التجريبي في تحليل تطور الماركسية على سبيل المثال – وهنا تظهر خطورته عليها – سيفضي إلى نتائج كاريكاتورية، أهمها، أن النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية العالمية، باكتشاف قانون تفاوت التطور - وإمكانية قيام الثورة الاشتراكية في بلد واحد أو عدد صغير من البلدان في البداية – إنما قد أعلن "الإطاحة" بنظرية ماركس و"تمت إزاحتها نهائيا من قائمة النظريات العلمية" وأن الماركسية "انهارت" في حين البقاء للوقائع، وقد فات أصحابنا في جريهم وراء الوقائع، بمعزل عن القوانين التي تحرك وجود هاته الوقائع وتطورها واضمحلالها - والتي تعد معرفتها الهدف في الممارسة النظرية، لا هدف الممارسة النظرية وهذا ما سنناقشه لاحقا - أن هاته الأخيرة هي أيضا، متحركة ومتغيرة، خاصة لدى معالجة الحركة الاجتماعية التي يتم وضعها في نفس السلة مع الحركة الطبيعية، تحت يافطة جمع الوقائع : "...فجمع الوقائع جزء مهم جدا وفي جميع ميادين البحث العلمي التاريخية والاجتماعية والبيولوجية...وغيرها، للخوض في بناء النظرية"، أو ربما أن اكتشافات ستالين حول بناء المجتمع الاشتراكي وآلياته، والتناقضات القائمة في عصر الامبريالية والثورة، لدى قيام معسكر اشتراكي، أعلنت "انهيار اللينينية" والبقاء للوقائع، أما إسهامات ماو في المسائل العسكرية والثورة الثقافية والثورة الوطنية الديمقراطية فقد أعلنت إفلاس لينين وستالين، بهذا المقياس.
وبما أنه لا يمكن لرفاق تيار البديل الجذري – لأسباب متعلقة بالوضع السياسي الراهن ومتطلباته، وما يحاولون أن يبدوا عليه كحاملين لراية الماركسية-اللينينية بل وكاستمرارية لكفاحية منظمة إلى الأمام - أن يصلوا إلى مستوى إلغاء ماركس في المرحلة اللينينية لتطور النظرية، وبما أن لهم كذلك، بعض التحسس الأرجي من ستالين الذي لا يمكن أن ينسبوا له فضلا في إضافة إسهامات نوعية إلى اللينينية إلى جانب لينين وبعد وفاته أيضا، ولا يقدرون، بالأحرى، قياس إسهامات ماو تسي تونغ أو غيره في ضوئها. نظرا لهذا كله، فان الخطر القائم على الماركسية في مقاربتهم التجريبية لتطور المعرفة الإنسانية، ليس كامنا في أنه ينفتح على إمكانية إلغاء جزء من النظرية لصالح آخر، بل في إلغاء النظرية لصالح الممارسة، أو لنقل، طلبا للدقة، في إلغاء النظرية بتعلة تبعيتها للممارسة، ونتساءل : في ضوء ذلك، ماذا نعتبر التجربة التاريخية التي راكمتها البروليتاريا العالمية - منذ نجاح ثورة أوكتوبر 1917 وصعود الاتحاد السوفياتي ونجاح الثورتين الصينية والألبانية ونهوض حركة التحرر الوطني العالمية، إلى إعادة تركيز الرأسمالية في المجتمع السوفياتي ابتداء من كارثة المؤتمر العشرين، ثم الانقلاب التحريفي في الصين الشعبية 1976 و"إعلان نهاية الثورة الثقافية"، والتشرذم الذي لحق الحركة الماركسية-اللينينية العالمية والتراجع الذي عرفته حركة التحرر الوطني والثورة الاشتراكية – أنعتبرها كلها، تجربة ممارسة تاريخية للبروليتاريا العالمية يتعين استخلاص الدروس الضرورية منها، وبالتالي الإنتاج المتجدد لنظرية الثورة البروليتارية العالمية - أم نعتبر نتبنى التاريخانية / التجريبية كما يتبناها حزب النهج الديمقراطي الإصلاحي مثلا، في لوحته الشوهاء عن الماركسية، طبيعتها وتطورها وعلاقتها باللينينية وتجربة الحركة الشيوعية العالمية ؟
بين من الآن أن النهج التجريبي الذي سار عليه رفاقنا في تيار البديل الجذري المغربي قد انتهى بهم في مأزق لا يحسد عليه محسود، لأن القبول بالتجريبية لدى تحليل تطور المعرفة العلمية الطبيعية، يستلزم الصبر على قبول نتائجها المضحكة لدى تحليل المعرفة العلمية الاجتماعية، وبالتالي الماركسية، سنأتي بعد قليل، لتحليل الحل الذي يقدمون كمخرج من هذا المأزق، ونعني الإجابة على سؤال أصل ابتداء النظرية الذي ما كان النقاش السابق لحد الآن سوى نقد لأرضيته النظرية. لكن قبل المرور إلى ذلك، لا بد من مزيد من الكشف للنتائج الأخرى التي يؤدي إليها نهج التجريبية، والتي لا تقل عن سابقتها، فظاعة ولا هزلية. وإحدى هاته النتائج، تظهر من خلال إلغاء الفرق النوعي بين الفلسفة والعلوم، الذي ينضاف إلى التأريخ التجريبي لتطور العلوم، فمثلهما "أطاحت" نظرية الكوانتوم مع هايزنبرغ وشرودينغر بنظرية نيوتن، "أطاحت" المادية الديالكيتكية مع لينين بفلسفة ارنست ماخ التي اعتبرت الذرات غير موجودة على الإطلاق، حيث كانت كلمة الفصل في هاته "الإطاحة"، هي اكتشافات 1925، أي نظرية الكوانتوم نفسها.
يتحدث الرفاق هنا وكأن المادية الديالكيتكية لم تكن موجودة قبل 1925، والماخية وحدها وجدت قبل هذا التاريخ، عمرت هي الأخرى – مثل نظرية نيوتن – ما شاء لها الله أن تعمر، ثم أتت اكتشافات نظرية الكوانتوم فتمت "إزاحة" فلسفة ماخ و"الإطاحة" بها، من طرف المادية الديالكيتكية على يد لينين. يبدو أن الإصرار المتعاظم لديهم على فهم كل شيء بالمقلوب، قد أدى إلى تشويه تاريخ تطور الفلسفة أيضا، ذلك أن اكتشافات 1925 التي يتم تقديمها ككلمة فصل ألحقت عبرها المادية الديالكيتكية الهزيمة بالفلسفة الماخية، لم تكن سوى امتداد لحقل الصراع حول العلوم في الفلسفة، هذا الصراع الذي تصدى للمشاركة فيه لينين منذ سنة 1908 في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي" في الشروط السياسية التي أفرزها فشل انتفاضة 1905 الروسية، وارتداد العديد من الماركسيين الروس في العمق، ضد المادية الجدلية ومنهجها في تحليل مكتشفات العلم، حتى وان غلفوا ارتدادهم هذا بغلاف تطويرها وتجديدها، هذا لا يعني أن اكتشافات 1925 جاءت كتأكيد لمضامين كتاب لينين الذي توفي سنة 1924، بل كانت موضوعا لمزيد من الصراع في هذا الحقل، والذي تكلف بمواصلته واغنائه العلماء والفلاسفة السوفييت في حقبة ستالين.
ذلك أن الطريقة التي يتم بها استدماج الاكتشافات العلمية في الفلسفة تختلف – كما سبق لنا الشرح – عن الطريقة التي يتم بها استدماج اكتشافات علم معين في علم آخر، فالاكتشافات التي تمت في مجال البيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية في الخمسينيات، والتي أكدت وجود جزيئة الحمض النووي ADN وكشفت عن بنيتها الكيمائية وعن وظائفها الحيوية، وحسمت بالتالي، الصراع في علم الوراثة بين الليسنكية والمندلية لصالح هاته الأخيرة، أي "كانت لها كلمة الفصل"، كما أن اكتشاف تماثل أنواع الفيروسات الارتجاعية مثلا في صبغيات كل من القرد والإنسان، قد أكدت، انطلاقا من علم الوراثة،و مما لا يدع مجالا للشك، تفسير نظرية داروين للعلاقات التطورية بينهما، وكانت لها بالتالي "كلمة الفصل"، فهذا لا يتم بنفس الطريقة في الفلسفة، ذلك أنه على امتداد تاريخ العلوم الطبيعية وفتوحاتها، والتي أكدت، الواحدة تلو الأخرى، صحة المادية، وطورتها وغيرت شكلها مع كل فتح علمي جديد ("على المادية مع كل تقدم للعلوم أن تغير من شكلها" انجلز)، قلنا أنه على امتداد هذا التاريخ كله الذي تأكدت فيه المادية وتطورت، لم يعن تأكدها هذا وتطورها ذاك إفناء للفلسفة المثالية، بل مواصلة للصراع معها بأشكال متجددة وفي حقول جديدة كل مرة، ان المثالية لن تزول بمجرد اكتشافات علمية يكون لها "كلمة الفصل"، لأن شروطها المادية – أي الشروط المادية للمثالية نفسها - لا زالت قائمة في المجتمع المعاصر، بل ستزال قائمة حتى في مجتمع الاشتراكية نفسه، إلى حين تحقيق الشيوعية على النطاق العالمي.
وأما المماثلة بين الفلسفة والعلم، كنافذة تناظر كاذبة يطل منها رفاق البديل الجذري لأجل مَشكلة (=problématisation) المسألة وكأنها إشكالية وقائع باقية ونظريات منهارة، تطرح بالتالي بصورة متجدد سؤال أصل ابتداء النظرية، وإعطاء الشرعية لطرح هذا السؤال على هاته الأرضية بالذات، والإجابة عنه بالتالي في ضوئها هي، عن طريق تشويه متعمد لتاريخ الفيزياء والفلسفة معا، قلنا ان هذا كله، لا يفعل سوى تأكيد النقاط السابقة التي أتينا على ذكرها من قبل، حول تمسك تيار البديل الجذري بالمادية الأنثروبولوجية والوضعية في تحليلهم لانبثاق المعرفة الإنسانية وتطورها، و ينضاف هذا التمسك إلى مجمل خطهم التجريبي / البراغماتي في الفلسفة ليعطيه قدرة أكبر على التملمس في تحاليلهم النظرية والسياسية، وبالتالي تصورهم للتنظيم الثوري ومتطلبات بنائه، في الشروط الراهنة للصراع الطبقي وتاليا الأزمة الذاتية التي يتخبط فيها الماركسيون-اللينينيون بالمغرب.
في جدلية النظرية والممارسة مجددا، حضرت المادية وغاب الجدل:
على أرضية هذا الفهم، وفي إجابتهم عن السؤال السابق في ضوئه نفسه يشرحون :
"ان الانسان في ممارسته بشكل عام، يقابل العالم الموضوعي، ومن هذا المنطلق نتلمس شكلين للموضوع، العالم الموضوعي (الطبيعة) وممارسة الانسان. والسؤال ما علاقة هذين الشكلين ؟ أي علاقة ممارسة الانسان بالعالم الموضوعي.
ان العالم الموضوعي محكوم بقوانين خارجة عن الانسان، والإنسان تابع للعالم الموضوعي. وبواسطة هذا الأخير يحدد الانسان لممارسته أهدافا. والأهداف هي نتاج العالم الموضوعي بالرغم من ظهورها كاختبار للانسان.
ومن الوهلة الأولى يبدو أن نشاط الانسان من أجل خلق مستلزمات للاستمرار والتحكم في الطبيعة، أي ممارسته بشكل عام، هي العنصر الأول. لماذا ؟ ان حاجيات الانسان ذات خصائص مختلفة ومتنوعة في ممارسته للتغلب على كل ما يعترض تحقيقها تتحدد أهدافه، وهذه الأهداف، أي أهداف الانسان في ممارسته، هي ما يحدد أرضية للبحث النظري ولهذا نستخلص أن نشاط الانسان العملي يتضمن هدف البحث النظري.
فالنشاط العملي للانسان يحدد كل أهدافنا العلمية والنظرية، ولكن لا يؤول إلى النظرية، فانطلاق البحث العلمي هو عبارة عن عملية دفع من احتياجات الممارسة للفكر لاكتشاف نتائج جديدة وتقديمها على شكل أفكار. لذلك نقول أن النظرية اذا لم ترتبط بالممارسة فهي دون أهداف، وأيضا من غير الإمكان ضبط أفق للممارسة اذا لم توجه بالنظرية، ولهذا نتحدث عن جدلية النظرية والممارسة"(انتهى الاقتباس).
لهذا النص براءة ظاهرية منقطعة النظير، لدى قراءته بسطحية، فكل ما يطرح، هو كون الممارسة هي التي تحدد أهداف البحث النظري والعلمي للانسان، وأن هاته الأهداف المطروحة للانسان في ممارسته هي نتاج العالم الموضوعي، وليس نتاج اختياره الحر حتى وان بدت كذلك. إنها، كما يظهر وحسب، "صيغ" ماركسية مائة بالمائة لا تشوبها شائبة، ولا يمكن أن يعترض عليها معترض، وأنه بناء على ذلك، لا يمكن أن نختلف عليها أو فيها، مع تيار البديل الجذري. لكن في هذا الاعتقاد كثيرا من السطحية، ذلك لأنه لا يكفي أن نقول أن هنالك علاقة جدلية بين النظرية والممارسة يكون للممارسة فيها موقع الأولية، وتكون النظرية مشتقة منها والبحث النظري بالتالي ترسمه أهدافها، كي تكون مقاربتنا لعلاقة النظرية بالممارسة مقاربة مادية جدلية، ذلك أنه لأنه من الممكن أن نعطي للنظرية والممارسة مضامين تختلف جذريا عن مضامينها الفعلية، أي كما تطرحها الماركسية، ويختلف بالتالي باختلافها مضمون العلاقة التي نقدمها بين النظرية والممارسة بشكل صيغة "ماركسية"، فإشكالية تبني الماركسية-اللينينية والدفاع عنها لا تحل، في النهاية، عن طريق الصيغ والجمل الجاهزة.
ذلك لأن التجريبية والوضعية والمادية الأنثروبولوجية لها أيضا قراءاتها وتأويلاتها الخاصة لعلاقة النظرية والممارسة، التي تشتق من المضامين التي تعطيها هاته التيارات الفلسفية لكل من النظرية والممارسة، مثال واضح على ذلك هو التحريفية السوفياتية، إذ لم تخل كتبها أبدا (وخاصة معاجمها الفلسفية) من صيغ كهاته، بل ومدعمة بأقوال لماركس وانجلز ولينين - وهي خدعة بصرية، ان جاز القول، سنأتي لتحليل أواليات عملها لاحقا – ولم يكن يعني هذا أن الخروتشوفيين وخلفائهم ماركسيون-لينينيون بل كان بالعكس يؤكد تحريفيتهم بأكثر من شكل. وكذلك فان مختلف تلوينات التحريفية اليوم بالمغرب تستعمل هذه الصيغ دون أن يعني ذلك أنها لم تعد تيارات تحريفية، وقد ناقشنا هاته الظاهرة سابقا في "نحن بحاجة إلى قطيعة جذرية مع التحريفية، لا أقل من ذلك" لدى نقدنا للغموض الذي يكتنف بيان البديل الجذري المغربي، باقتصاره على الصيغ العامة والفضفاضة التي يتفق عليها الجميع ولكن ليس الجميع بالطبع، يعطيها نفس المحتوى، "أعداء الشعوب" مثلا قد يكونون حتى "البيروقراطية الستالينية" كما يقول التروتسكيون.
ان القطيعة الابستيمولوجية التي أنجزها ماركس وانجلز في تاريخ تطور الفكر الإنساني - أي الثورة النظرية التي أنجزها الماركسية في نظرية المعرفة - تشمل بشكل رئيسي إعادة قراءتهما لانعكاس المادة في الوعي / الواقع في الفكر، على ضوء الممارسة الاجتماعية للانسان، ضدا على تصور المادية الميكانيكية التي كانت ترى أن هذا الانعكاس يتم في شكل التأمل السلبي لا بشكل ممارسة عملية، ما تعبر عنه الأطروحة الأولى حول فيورباخ بعبارة : "ان النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها - بما فيها مادية فيورباخ – هي أن الشيء (Gegenstand) الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها الا بشكل موضوع (Objekt) أو بشكل تأمل (Anschauung) لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل تجربة، لا من وجهة النظر الذاتية". (أطروحات حول فيورباخ)، وقد كانت المهمة الرئيسية للماركسيين في حقل الابستيمولوجيا منذ ذلك الحين هي تعميق هاته القطيعة المعرفية بما تشمله من فهم علمي / مادي جدلي لسيرورة انعكاس الواقع الموضوعي في الفكر، على ضوء الممارسة العملية كضرورة لتحقق هاته السيرورة.
الا أن تعميق هذه القطيعة – بل وحتى إرساؤها على سكة صحيحة مع ماركس وانجلز نفسيهما – لم يكن ممكنا دون معرفة المحتوى الحقيقي للممارسة العملية، وصفتها باعتبارها ممارسة اجتماعية، هذا يعني أن الممارسة العملية praxis التي تتوسط بين الانسان والعالم الموضوعي، لا يمكن فهمها الا في ضوء العلاقات التي تربط الانسان بالإنسان / علاقات البشر بعضهم بعضا، أي ان الممارسة العملية التي تربط الانسان بالعالم الموضوعي لا يمكن أن تكون الا ممارسة اجتماعية، أي ممارسة اجتماعية تربط الإنسانية بالعالم الموضوعي، ضد المادية الأنثروبولوجية لفيورباخ التي لا ترى الا الانسان "الفرد"، وبالتالي ترى النشاط النظري نشاطا لأفراد منعزلين في "المجتمع المدني"، والواقع في انعكاسه الخيالي نفسه (الدين) كما يقول ماركس "ونتيجة لذلك لا يرى فيورباخ أن - الشعور الديني – هو نفسه نتاج اجتماعي وأن الفرد المجرد الذي يحلله يرجع في الحقيقة إلى شكل اجتماعي معين." و"ان الحياة الاجتماعية هي بالأساس حياة عملية. وكل الأسرار الخفية التي تجر النظرية نحو الصوفية، تجد حلولها العقلانية في نشاط الانسان العملي وفي فهم هذا النشاط" و"ان وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع – المدني - ووجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع البشري أو البشرية التي تتسم بطابع اجتماعي".(الأطروحات 7-8-10 حول فيورباخ، على التوالي).
ان النزعات التجريبية والبراغماتية والوضعية تنحو دائما نحو الرجوع إلى ما قبل هاته القطيعة المعرفية، وبالتالي إعادة استعادة النظرة المادية الأنثروبولوجية لعلاقة الفكر بالواقع، والأهم من ذلك، والأدهى، استعادة نظرتها لمفهوم "الانسان"، لقد استوعب لينين وستالين مضمون هاته القطيعة المعرفية للماركسية ودافعا عنها في نضالهما ضد التجريبية والاقتصادوية وكافة أشكال إيديولوجية البرجوازية الصغيرة وفلسفتها سواء داخل الحزب البلشفي أم خارجه (مثل الشعبويين والفوضويين). كما ناضل ماو تسي تونغ سيرا على خطاهما لأجل الدفاع عن نظرة المادية الديالكيتكية لعلاقة النظرية بالممارسة، وكان من أهم ما تضمنه دفاعه عن هاته النظرة تمييزه في الممارسة بين التجربة المباشرة والتجربة غير المباشرة، وكيف يتحول الواحد منهما إلى الآخر، وذلك ضد الآراء التجريبية داخل الحزب الشيوعي الصيني التي كان تفهم الممارسة العملية فهما ضيقا يقتصر على التجربة المباشرة ويقصي التجربة غير المباشرة.
ان النكوص إلى النظرة المادية الأنثروبولوجية للانسان لا يمكن أن يتجاوزه أو يلغيه استبدال الانسان الفرد بالتنظيم المفرد أو الحزب المفرد أو الشعب المفرد / أو الأمة المفردة، ليس القفز بالضرورة من الفرد نحو التنظيم قطيعة مع الأطر الفلسفية للمادية الأنثروبولوجية نحو المادية الجدلية، لأن هذا القفز لا يفعل سوى أن يؤنسن humaniser التنظيم أو الحزب أو الشعب، فيصبح للتنظيم مثلا، نفس الموقع الذي هو لدى فيورباخ للانسان الفرد، وبذلك التنظيم يتفردن s’individualise بطريقة يعود فيها الفكر إلى الفيورباخية وهو يعتقد واهما أنه على البساط النظري للماركسية، يمكن تشبيه هذا الانزلاق – لتقريب الصورة - بعملية بسيطة في علم الرياضيات، هي تغيير المتغير لدى محاولة حل معادلة من الدرجة الرابعة مثلا، حيث نقوم بتعويض المجهول المرفوع إلى التربيع x² بمجهول آخر (X أو y) حتى يتسنى لنا حل المعادلة على أساس أنها من الدرجة الثانية فقط، ثم نقوم بعد ذلك بإتمام البحث عن الحل، عن طريق الجذر التربيعي، دون أن يعني هذا خروجنا عن اطار معادلة من الدرجة الرابعة.
هذا يعني بالضرورة أن الممارسة الاجتماعية بالنسبة إلينا كماركسيين لينينيين – خاصة اليوم، في عصر الامبريالية - ليست شيئا آخر غير ممارسة الثورة العالمية نفسها، وليس ممارستنا فحسب نحن كماركسيين لينينيين في المغرب أو غيره. ان الفلسفة الوضعية، المتجلببة بالماركسية، تقوم بالتضييق من مفهوم "الممارسة الاجتماعية" لجعله لا يشمل الا تنظيما أو حزبا أو شعبا بعينه، في حين أنه أوسع من ذلك بكثير، ميزة الثورة البروليتارية هي في عالميتها– في تفاوت تطورها نفسه، وهذا ما يميزنا عن التروتسكيين – التي تفرضها عليها بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية في عصر الامبريالية، باعتبار نمط الإنتاج الرأسمالي أول نمط إنتاج عالمي في تاريخ الإنسانية. وهذا يمنح أساسا تاريخيا للمفهوم الماركسي-اللينيني عن الممارسة الاجتماعية مثلما يمنح أساسا فلسفيا للأممية البروليتارية، وبالتالي فان بناء الخط الفكري والسياسي لحزب الطبقة العاملة في المغرب، لا ينفصم عن بناء الخط الفكري والسياسي للبروليتاريا العالمية بل يتم في إطاره، ان إنتاج الرؤية الإستراتيجية للثورة المغربية يتم في سياق إنتاج الرؤية الإستراتيجية للثورة العالمية، وهذا لا يلغي بالطبع، استقلالهما النسبي.
لقد كان النقاش بين لينين وجيمس كونولي حول معنى الأممية صراعا بين مفهومين متناقضين للأممية البروليتارية، فهاته التي تعني لدى كونولي (وحركة التحرر الوطني في ايرلندا عموما) مجرد امتداد لنضال شعبنا نحن على نضال شعوب أخرى - وبالتالي "دعما" و"مساندة" لهاته الشعوب ينطلق من هذا الفهم بالذات – كانت تعني لدى لينين أبعد من ذلك إذ هي وجوب انطلاق الماركسي من مصالح الثورة العالمية، ومن مدى اشتراكه في التحضير لها ودفعها خطوات إلى الأمام. ما عبر عنه في "ما العمل ؟" في كون "الحركة الاشتراكية-الديمقراطية حركة أممية في جوهرها، وذلك لا يعني فحسب أنه يجب أن نناضل ضد الشوفينية في بلادنا، بل يعني ذلك أيضا أن الحركة المبتدئة في بلاد فتية لا يمكن أن تكون ناجحة الا اذا استوعبت تجربة البلدان الأخرى"(لينين في "انجلز وأهمية النضال النظري). وبالتالي ان الثورة البروليتارية كسيرورة عالمية، تتحول أشكال ممارستها التاريخية الواحدة إلى الأخرى، فما هو تجربة مباشرة للبروليتاريا في بلد معين يتحول إلى تجربة غير مباشرة لها في بلد آخر، هاته التجربة غير المباشرة نفسها يتم الاسترشاد بها في التجربة المباشرة لبلدان أخرى، في وحدة الممارسة الاجتماعية للثورة البروليتارية العالمية، وبالتالي للحركة الشيوعية العالمية. هاته الوحدة هي التي تنبثق منها النظرية الثورية للطبقة العاملة وتتطور، ما دافع عنه ستالين وطوره في "أسس اللينينية" بقوله "ان النظرية هي تجربة الحركة العمالية في جميع البلدان".
هذه الوحدة لا يمكن فهمها الا في ضوء مقاربة المادية الجدلية للعلاقة مابين التحليل والتركيب، ذلك أن التملك النظري لسيرورة مادية محددة لا يمكن أن يمر الا عبر تحديد التناقضات التي تعبر عنها بتحديد أطراف هاته التناقضات، وهذا ما نسميه بالتحليل analyse. ولا يمكن لهاته العملية أن تكون مفيدة للفكر اذا لم تقترن بعملية أخرى هي معرفة الطرف الرئيسي في التناقض الرئيسي الذي يخترقها والذي وحده يمكن أن يرشدنا في فهم طبيعتها، وهذه العملية هي التركيب synthèse، وهو ليس تجميعا انتقائيا للمعطيات والتجارب بل هي سيرورة موضوعية يقوم بها طرف للتناقض بالتهام الطرف الآخر، وتنعكس كذلك في الفكر كما بينت النضالات الإيديولوجية الكبرى للثورة الثقافية، ضد تشويه الفيلسوف التحريفي يان تسين تشين Yan Hsien Tchen للمفهوم الماركسي-اللينيني للتركيب باعتباره "بحثا عن النقاط المشتركة بين النقائض"، ويوجد الكثير مما يقال في هذا الموضوع الشائك، لكن سنترك التفصيل فيه إلى دراسة لاحقة(13).
هذا مفاده أن تناول الممارسة الثورية في علاقتها بالنظرية الثورية في ضوء الفهم الماركسي-اللينيني لمزدوجة التحليل / التركيب يفترض بالضرورة النضال ضد انحرافين : الأول هو انحراف النزعة الماقبلية apriorism، الأساس المنهجي للدوغمائية، والتي تنط إلى التركيب مباشرة قبل التحليل، إذ قبل تحليل التجربة التاريخية للحركة الثورية، محليا وعالميا، تحاول فرض نموذجها النظري على الحركة الثورية (الماوية، على سبيل المثال)، أما الثاني فهو انحراف النزعة الانتقائية، الأساس المنهجي للتجريبية، والتي تلجم الفكر لدى محطة التحليل وبالتالي تنكر القوانين الكونية للانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هذا ينطبق أيضا على نظرة التجريبية / الانتقائية للعلاقة مابين التجربة غير المباشرة والتجربة المباشرة في الممارسة الاجتماعية للإنسانية نفسها، إذ تقصي التجربة غير المباشرة، أو تفهما فهما يلحقها بالتجربة المباشرة، زعما منها أن ذلك إعطاء للأولوية للممارسة. الا أن السؤال الذي يطرح هنا : أين تتجلى بالضبط هاته النزعة لدى البديل الجذري في مقاربته علاقة النظرية بالممارسة ؟ وبالتالي ما الذي يؤكد أن المضمون الذي يعطيه للنظرية، والممارسة – وحتى "الانسان" نفسه – هو هذا المضمون بالذات الذي تقدمه التجريبية ؟ لاستكشاف ذلك، نواصل قراءة المقال :
"ويمكن تحديد خصائص المشكلة التي يبدأ بها البحث النظري، أي المشكل الذي يعترض الممارسة لتحقيق الهدف، في أولى المقاربات، بما يعرفه الانسان وما لا يعرفه، أي بين ما يجهله وما يعرفه. وهو مجال واسع جدا. والانسان يجهل أشياء كثيرة وغير محددة، لكن ليس هنالك مبدأ يمنعنا من تطوير معارفنا. وعلى هذا الأساس نقول ليس للانسان شيء غير ضروري لمعرفته. وفي نفس الآن ليس كل المجهول هو مشكلة البحث العلمي، فالإنسان في نشاطه العملي وفي سير تطوره يخضع للمشاكل التي تعترضه لنظام بحث يكون الأساس المحدد فيه ليس التنقيب في ما يحمله، بل في ما هو ممكن فعليا معرفته ممكنة فعلا في ظل شروط التطور التاريخي التي يمر بها، أي أن الباحث لا يختار أي موضوع يريد لبحثه بل يدرس المشكل الذي معرفته ممكنة فعلا وفي ظل الظروف المحددة، أي التي يطرحها التاريخ على جدول الأعمال. فالبحث النظري من منطلقه مع لحظة تحديد المشكل يبدو كجنين حي تزرع فيه الظروف الموضوعية الروح، لهذا تعد صياغة مشكل البحث مهمة جدية وصعبة ومحكومة بأهداف ومصالح من يقفون خلفها.
وفي نفس الآن، فالموضوع ليس بمعزل عن منطلق أن أهداف الانسان هي نتاج العالم الموضوعي، والأهداف تجده كمعطى أول وتفترضه. وفي حالة الفهم النقيض نؤول إلى الغائية ونعطى لأهداف الانسان الحرية والاستقلال عن المعطى الموضوعي الأولي، بمعنى أن أهداف الانسان مأخوذة خارج الواقع الموضوعي. لذا نقول أن أهداف فاعلية الانسان كجماعات أو كأفراد خاضعة للعالم الموضوعي. وهذه الممارسة في تراكمها تقود الوعي الإنساني في سير حركة إلى أن يكتسب ويعكس قوانين الطبيعة والمجتمع ويصوغها في أفكار وبتطبيقها في الممارسة، أي اختبارها، يصل إلى الحقيقة الموضوعية. وبهذا الموجز المتعسف لسير عملية التطور والتحول التي شهدها ويشهدها تاريخ الانسان لبناء النظرية نتوقف على إحدى استخلاصات لينين في دفاتره الفلسفية : "لكي نفهم يجب أن نبدأ تجريبيا، يجب أن ندرس أن نرتفع من التجريبية إلى العلم، لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء".(انتهى الاقتباس).
يقول الرفاق كاتبو المقال أنفسهم، أن موجزهم "لسير عملية التطور التي شهدها ويشهدها تاريخ الانسان لبناء النظرية" هو موجز متعسف. جميل هو هذا الاعتراف منهم، لكنه ليس، للأسف، كافيا. لأن التمحيص المتأني والرصين يكشف أن هذا الموجز أكثر من متعسف، أو ربما هو متعسف أكثر مما تصور أصحابه أنفسهم، في استعادته لتعسف وتضييق التجريبية لعلاقة النظرية بالممارسة، ولعل بعضا من نقاط الاستعادة هاته تؤكد ما ناقشناه قبل إيراد هذا المقتطف من "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، والبعض الآخر يكشف أشياء أخرى لم نناقشها بعد، وسنتعرض لها في الحين.
أول هذه النقاط مما يستوقف العقل، هو الرفض المتكرر بشكل ملحوظ – نظرا للتأكيد المستمر عليه – لأي بحث نظري يضع أهدافا له لا تستمد من الواقع الموضوعي. وهو رفض مقبول في مبدئه، لكن السؤال الذي يطرح ذاته هنا : كيف سنعرف عما اذا كان موضوع معين للبحث النظري، فعلا مستمدا من الوقائع الموضوعي ومتطلبات الممارسة العملية أم لا ؟ هل يتولد هذا التمييز بصورة عفوية من الممارسة نفسها، بحيث أن المواضيع الذي تطرحه "التاريخ على جدول الأعمال"، تبسط تلقائيا أمام الباحث بمجرد ملاحظته للوقائع الموضوعية، التي ليس بينها وبين الباحث حجاب ؟ أليس من الممكن، في شروط معينة، أن نرفض موضوعا معينا للبحث النظري، تحت حجة أنه ليس مطروحا بمتطلبات ممارستنا العملية، في حين أن تقويم هاته وتوجيه أفقها لا يكون الا بالتصدي له ؟ قد لا يبدو هذا الإشكال المعقد مفهوما من الوهلة الأولى، لذلك سنعمل على توضيحه، أي تفكيك مفاصل تعقده نظريا وعمليا.
لقد قاد حزب العمال جماهير الشعب الفيتنامي في حرب التحرير المناهضة للاحتلال الأمريكي، وقد كان نضال الحزب يستهدف تحرير البلاد من الامبريالية الأمريكية وعملائها في الجنوب (حكومة سايغون)،وإقامة جمهورية ديمقراطية شعبية على كامل التراب الوطني الفيتنامي. نتساءل، هل كان التغير الذي حدث في بنية الثورة البروليتارية العالمية والانقسام الذي وقع صلب الحركة الشيوعية العالمية منذ 1956، مطروحا ضمن مهام الممارسة العملية لحزب العمال الفيتنامي، وبالتالي موضوعا لبحثه النظري أم لا ؟ يمكن أن نعطي لهذا التساؤل إجابتين مختلفين من موقعين فكريين مختلفين، لا : من موقع الوضعية التي تضيق الممارسة العملية إلى "إفراد وجماعات" كما يقول رفاق البديل الجذري، والذي هو موقعهم بالذات. ونعم : من موقع الماركسية-اللينينية التي تفهم الممارسة العملية فهما ماديا جدليا، تكون عبره هاته هي ممارسة الثورة العالمية في عصر الامبريالية. لقد تبنى الحزب الفيتنامي الإجابة الأولى من الموقع الأول – التي تجسدت في موقعه الداعي إلى "الوحدة في المعسكر الاشتراكي" ولاحقا المدافع عن التحريفيين السوفييت بصراحة - والتي تبدو غير مضرة بنظر البراغماتية، قرينة التجريبية، حيث أن الشعب الفيتنامي انتصر في الحرب وحرر بلاده بشجاعة. الا أن الفكر الذي يحصر تقييم التجربة في الانتصار العسكري، من دون تحليل المضامين السياسية لهذا الانتصار (الشعب الجزائري أيضا انتصر على الامبريالية الفرنسية عام 1963، بقيادة البرجوازية الصغيرة !)، يعجز عن تبين تأثير هذا الموضوع الذي تم إهماله كموضوع بحث نظري - وبالتالي معالجة نظرية خاطئة له، بحجة أنه غير مطروح على جدول أعمال التاريخ – على معالجة وبحث المواضيع الأخرى، والتي تبدو، دون غيرها، مطروحة على جدول الأعمال.
مثال آخر نتلمس عبره هذا الإشكال، لدى انقلاب الجنرال الفاشي بينوشي Pinochet على سلفادور أليندي في سنة 1973 بالشيلي. من المعلوم أن الحزب الشيوعي الصيني دعم الانقلاب الفاشي وعقد علاقات ديبلوماسية مع حكومة بينوشي الشيء الذي كان اعترافا بشرعيتها وتغاضيا عن الجرائم التي ارتكبت بحق شعب الشيلي، وقد كان ذلك خطأ جديا. السؤال الذي يطرح هنا بدوره هو : هل كان الصراع الطبقي في المجتمع الصيني، المنعكس في الصراع السياسي صلب الحزب الشيوعي الصيني، حول مجموعة من المسائل التكتيكية الراهنة (مثل العلاقة بالسوفييت، والتحالف مع الولايات المتحدة)،هل كانت هاته التناقضات موضوعا للبحث النظري مطروحا على عاتق الماركسيين-اللينينيين بالشيلي أم لا، تفرضه حاجيات ممارستهم العملية ؟ هل كان أمام الحزب الشيوعي الثوري في الشيلي – الذي كان لا يزال آنذاك ماركسيا لينينيا، قبل أن ينعطف نحو الماوية – مهمة تحليل الأسباب التي دفعت الحزب الشيوعي الصيني يتخذ ذاك الموقف الخاطئ، بناء على نظريته وممارسته في التحالفات التكتيكية للصين الشعبية، والتي يدرس الصراع صلبه، في ضوئها ؟ على هذا السؤال أيضا توجد إجابتان : نعم ولا، من موقعي نظر متناقضين : الماركسية والبراغماتية. ففي الوقت الذي تتساءل هاته الأخيرة متهكمة : وما الفائدة (وهذا هو السؤال المفضل لدى البراغماتية/التجريبية بامتياز : وما الفائدة ؟) التي سيجنيها الشيوعيون الشيليون في النضال ضد الفاشية من معرفة الأسباب التي جعلت الشيوعيين الصينيين ينزلقون ذلك المنزلق ؟ ترى الماركسية ضرورة في التصدي لذلك المنزلق ونقده، لأجل بلورة الخط السياسي الصحيح في تعبئة الجماهير ضد الفاشية، بربطها بخط سديد للجبهة الثورية العالمية، والتي كانت الصين جزءا طليعيا منها آنذاك.
هذا ليس سوى جانب واحد من المأزق النظري الذي يؤدي له موجز البديل الجذري – المتعسف جدا، أكثر من اللازم - لتطور المعرفة عند الانسان (جماعات وأفراد، كما يطرحون)، وهنالك جانب آخر. لأن هذا الإشكال لا ينفتح فقط على إمكانية تغييب موضوع معين أو إسقاطه من دائرة البحث النظري – والتي هي ضمنيا، بحث نظري مغلوط له، ووضع له في غيره موقعه – بتعلة أن متطلبات الممارسة العملية لا تطرحه، وإنما أيضا على إمكانية طرحه بصورة مقلوبة، دون تغييب مفضوح له، وذلك بحجة التماشي مع متطلبات الممارسة، أو، أن الواقع الموضوعي يطرحه بهذا الشكل بالذات لا بغيره. المثال الأكثر وضوحا وقربا على ذلك، هو انحراف العديد من الأحزاب "الشيوعية" العربية عن المادية الجدلية في التعاطي مع واقع وصول البرجوازية الصغيرة للسلطة في بعض الأقطار، إذ هنالك قسم منها انحرف عنها باتجاه الفلسفة العقلانية، وبالتالي رأى في هذا الواقع القائم واقعا مجنونا، لا مدخل لفهمه لأنه من خارج النموذج، وكل ما هو خارج النموذج فهو خارج العقل، وخارج نطاق الفكر العلمي وممارسته في إنتاج المعرفة. وقسم آخر انحرف عنها باتجاه الفلسفة التجريبية، واعتبر، نظرا لذلك، هذا الواقع طبيعيا في حركة التحرر الوطني، ليس بسبب العجز الذاتي للطبقة العاملة عن قيادة التحالف الوطني الثوري، بل لأن البرجوازية الصغيرة لها الشرعية التاريخية لقيادة مرحلة كاملة من حركة التحرر الوطني، بل وقادرة على السير بالمجتمع في طريق من التطور الاقتصادي "اللارأسمالي" والتطور السياسي "الديمقراطي الوطني"، كما كان تسميها التحريفية السوفياتية آنذاك، التي كانت هاته الأحزاب لصيقة بها.
فلنتأمل قليلا هاته الظاهرة، لأنها تساهم بالكثير من الدروس والتجارب في نقد تصور البديل الجذري للبحث النظري وعلاقته بالممارسة / الواقع الموضوعي ومتطلباتهما. ان المعالجة التجريبية لهذا الواقع – وصول البرجوازية الصغيرة للسلطة – لا تطرح كموضوع بحث نظري لها، سوى كيفية انتقال هاته البلدان إلى الاشتراكية سلميا، وضمان المشاركة في السلطة مع الحكم، لأجل الدفع به للإصلاحات السياسية والاقتصادية. ولا تطرح أبدا مهمة الثورة على حكم هاته الطبقة وإسقاطه، لأنه عاجز بنيويا، بعجزها الطبقي، عن تحقيق المهام الديمقراطية نفسها بله الانتقال نحو نمط الإنتاج الاشتراكي. وهي معذورة تمام العذر، لأن هذا هو موضوع البحث النظري، وأهدافه، التي تطرحها الممارسة العملية عليه، فهل يقدر على الاعتراض معترض ؟ لا يمكن نقض هذا المنطق البراغماتي بالمنطق التجريبي نفسه للبديل الجذري، لأنه، وللسخرية، ليس المنطق البراغماتي الا شكلا تاريخيا من المنطق التجريبي، وبالتالي إحدى امتداداته extensions الفلسفية.
لكن لأجل نقض هذا المنطق التجريبي نفسه للبديل الجذري، يجب أن نميز جوهر انزلاقه – أو قل سيره على السكة الصحيحة للتجريبية – فيما يتعلق بعلاقة البحث النظري، موضوعه وأهدافه من جهة، ومابين الممارسة العملية والواقع الموضوعي من جهة ثانية، والذي هو، بالضبط، رفضه لأي استقلالية نسبية لدينامية وتطور البحث النظري عن الممارسة العملية التي تفرضه، التي ينتج عنها بالضرورة، عجزه عن تبين أن الانتقال من التجربة / الممارسة إلى النظرية ليس انتقالا سلسا وتلقائيا، بل أنه يتحقق عبر التركيب / تلخيص تجربة الممارسة العملية بصورة صحيحة، وإلا ضاعت خبرات تجربة الممارسة أو لخصت بصورة خاطئة، وبالتالي فان إنتاج النظرية هو أيضا ممارسة نظرية نقوم فيها باختبار الواقع نظريا، واختبار مفاهمينا النظرية واقعيا. هذا العجز الذي لدى البديل الجذري عن تبين هاته الحقيقة، هو الذي يؤدي بدوره إلى الخلط الفظيع مابين هدف الممارسة النظرية من جهة، ومابين الهدف في الممارسة النظرية، من جهة أخرى.
فإذا كان هدف الممارسة النظرية هو خدمة متطلبات الممارسة العملية، فان الهدف في الممارسة النظرية يختلف حسب المراحل التي يصل إليها البحث النظري في تطوره،وبالتالي التناقضات التي يفكها هذا البحث في كل مرحلة من هاته المراحل. فإذا قلنا مثلا، أن ممارستنا الثورية كماركسيين-لينينيين تطرح أمامنا مهمة بحث نظري يكون هدفه قراءة الوضع الاجتماعي والسياسي بالمغرب، والمرحلة التي يقطعها الصراع الطبقي في البنية الاجتماعية المغربية، لأجل الاسترشاد بهاته القراءة في صياغة البرنامج السياسي للثورة المغربية. ان هذا الهدف العملي يعد هدف الممارسة النظرية، لكن للوصول إليه (البرنامج) نتطرق إلى عدة مواضيع هي مراحل نقطعها في سيرورة بحثنا النظري. منها مثلا، ما يتصل بتقييمنا لتجربة الحركة الشيوعية العالمية وتراث الحركة الماركسية-اللينينية المغربية (ورئيسيا، منظمة "إلى الأمام") الذي يشكل هدفا في الممارسة النظرية، وليس، كما قد يبدو للمنطق التجريبي للبديل الجذري، بلا أساس في الواقع الموضوعي أو لا تطرحه الممارسة العملية ضمن راهن مهامها، ذلك لأنه لا يقبل أي استقلالية نسبية للبحث النظري عن أهدافه العملية، بل ويفهم الأهداف العملية هي نفسها فهما ضيقا جدا. هذا يصح على العلوم الطبيعية أيضا، فإذا كان علم الفلك على سبيل المثال قد نشأ أول ما نشأ، خدمة لحاجيات الانسان في الإنتاج الزراعي، فانه يبحث اليوم عما اذا كانت هنالك أكوان متعددة (Multivers) متوازية فيما بينها،يحاول تحليل النجوم البعيدة كيمائيا، ومعرفة المسافات بين المجرات، وعما اذا كان الكون يتوسع أم لا، فهل هذا يطعن في هذا الموضوع، باعتباره لا تطرحه حاجيات الممارسة، أم هو يطعن بالعكس، في الأطروحة الماركسية للممارسة كمصدر للنظرية ؟ لا هذا ولا ذاك، بل هو يطعن بالعكس تماما، عن التأويل التجريبي الذي يتبناه رفاق البديل الجذري، في مقاربتهم علاقة النظرية بالممارسة.
مثل هذا التأويل لا يمكن أن يغطي عوراته الاستشهاد، أو الاستنجاد بلينين. فمقولة لينين "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء" التي يحاول بها رفاق البديل الجذري تبرير خطهم الفلسفي التجريبي، قد خلت من قبلها المقولات في تبرير العفوية والتجريبية، منها مثلا، مقولة ماركس "ان خطوة تخطوها الحركة إلى الأمام، أهم من دزينة من البرامج" التي استعملها الاقتصادويون ضد لينين الذي كشف بدوره في "ما العمل ؟" الآليات التي يستند إليها هذا الإقحام المتعسف لمقولة ماركس في سياق غير سياقها، بعد اقتلاعها اقتلاعا من سياقها. وربما يعتقد الرفاق في تيار البديل الجذري المغربي أن من الممكن إخافة الماركسيين-اللينينيين بالمقولات أو إفحامهم بالمقتطفات، وفي هذا سقطة نظرية واضحة نشرحها في حينها.
ان التبني الفعلي لتراث لينين النظري والدفاع الحقيقي عنه يكون عبر تبني اللينينية، وليس في تبني لينين بذاته ولذاته، أي كنصوص ومقتطفات يتم اجتزاؤها وتقديمها، في سياقات أخرى، على أنها وجهة النظر اللينينية حول المسألة، حيث يتم تصور تكافئ اللينينية ولينين في عملية مماهاة كاذبة خاطئة. وهاته المماهاة هي كذلك ليس فقط لأنه يمكن استعمال نصوص للينين (وهذا ينطبق على ماركس أيضا) ضد النسق النظري للينينية، مثلما برعت التحريفية السوفياتية في ذلك، بل وأيضا لأن لينين ليس بالضرورة دائما - أي في كل ما تركه لنا من تراث نظري - لينينيا : لقد كان لينين لا يزال يعتبر، في كتاباته الأولى، وفيا لتصور ماركس، أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تقوم أولا الا في البلدان الرأسمالية المتقدمة لأوروبا الغربية ودفعة واحدة، وخارج ذلك لا يمكن للثورة الروسية أن تتكلل بالنجاح :
"سنصنع من ثورة روسيا السياسية المدخل للثورة الاشتراكية في أوروبا ".
(من "الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين" 1905، المجلد 8 من "أعمال لينين الكاملة"، الصفحة 303، طبعة 1965 بالانجليزية، دار التقدم، موسكو).
"يمكن للثورة الروسية أن تنتصر بمجهوداتها الخاصة، الا أنه ليس لديها الإمكانية لإرساء سلطتها وتوطيدها بقوتها وحدها. إنها لا تستطيع فعل ذلك ما لم تكن هنالك بعد ثورة اشتراكية في الغرب."
(من "مؤتمر الوحدة لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي" 1906، المجلد 10 من "أعمال لينين الكاملة"، الصفحة 280، طبعة 1965 بالانجليزية، دار التقدم، موسكو).
من الواضح أن هاته المقتطفات هي فعلا مقتطفات للينين، لكن هل هي لينينية ؟ نقصد، هل يمكن تقديم الأفكار التي عرضها لينين في هاته المقالات، على أنها اللينينية ؟ من الواضح أن الجواب بنعم يصب أوتوماتيكيا في مصلحة التروتسكيين، الذين من حقهم، وفقا لهذا المنطق – وهم يتبعونه يوميا – أن يقدموا مثل هاته المقتطفات على أساس كونها نقضا "للأطروحات الستالينية حول الثورة الاشتراكية في بلد واحد"، على اعتبار أن هاته الأطروحات تتناقض مع اللينينية بتناقضها مع هذا النص ! يمكن لنا أيضا، أن نجيب على التروتسكيين بدورنا عبر إيراد نصوص أخرى للينين تتبث أنه نظر لإمكانية تحقق العملية الثورية في بلد واحد. لكن اتباث أطروحة معينة، ماركسيا، لا يتم عن طريق النصوص، بل ان استحضار النصوص والمقتطفات نفسها يختلف عند الفكر العلمي الماركسي عن استحضارها عند الفكر الديني. في الأول تكون النصوص خاضعة للنسق النظري الذي تأتي هي كتدعيم له، أما في الثاني فإنها تكون هي الأساس في بناء النسق النظري نفسه، يمكن لهذا التمييز أن ينسحب، حتى على القراءة الهيجلية الجديدة لأعمال ماركس – مثلما هي لدى غرامشي – والتي تقوم بتقديم كتابات الشباب لماركس (مخطوطات 1844) ومفاهيمها (مثل الاغتراب aliénation) باعتبارها جزءا من البناء النظري للماركسية تربطها مع كتابات النضج علاقة استمرارية.
لعل هذه النقطة تتخطى بكثير حدود نقد استشهاد رفاق البديل الجذري بلينين، نحو معالجة أعماق تصورنا للماركسية-اللينينية ومنهج مقاربتنا لبنائها النظري. لكن دعنا الآن – ولأسباب منهجية بحتة – فقط في حدود المقتطفات المقتلعة اقتلاعا من سياقها والمحشوة حشوا في غير سياقها. نقول أن إنتاج الفهم العلمي السليم، للنظرية اللينينية عن المعرفة لا يمكن أن يتم الا عبر تحليل مادي ديالكتيكي لسيرورة تطور المعرفة الإنسانية وتطور مقاربة الماركسية لهذا التطور، أما الإتيان بمقبسات للينين لتبرير أطروحات تجريبية، فليس في الأمر من لينينية. وإلا، خرجنا بخلاصة مفادها أن لينين يتناقض مع ذاته حينما ينظر في "ما العمل ؟" لكون الوعي الثوري لا يمكن أن يأتي العمال الا من الخارج، وهذه أطروحة، اذا اقتصرنا على منطق التأويل النصي الضيق لرفاق البديل الجذري، تتناقض بلا شك مع "لتعلم السباحة يجب الذهاب إلى الماء"، أفلا يكتسب العمال الوعي السياسي، في معاركهم اليومية بشكل عفوي، كما كانت تحاجج النزعة التريديونيونية آنذاك ؟ ليس في الحقيقة هذا السؤال الإنكاري، سوى مدخل لاستيعاب حقيقة جوهرية واستعادتها، هي أنه لو كان التبني الفعلي للينينية يتبث بإيراد المقتطفات من لينين، لامتلأت شوارع المغرب باللينينات – جمع لينين – إلى درجة إعاقة حركة المرور.