ثورة أكتوبر بداية الثورة العالمية ومقدمتها : ستالين

ثورة أكتوبر بداية الثورة العالمية ومقدمتها

لا جدال في أن النظرية العامة القائلة بانتصار الثورة المتواقت في بلدان أوروبا الرئيسية، نظرية استحالة انتصار الاشتراكية في بلد واحد، قد ثبت أنها نظرية مصطنعة، غير قابلة للحياة. وتاريخ الأعوام السبعة من الثورة البروليتارية في روسيا يشهد لا لصالح هذه النظرية، بل ضدها. إن هذه النظرية مرفوضة كمخطط لتطور الثورة العالمية لأنها تتناقض مع الوقائع البديهية. وهي ادعى إلى الرفض أيضا كشعار لأنها لا تطلق بل تعرقل مبادهة الأقطار التي تملك، بفضل بعض الشروط التاريخية، إمكانية اختراق جبهة الرأسمال بمفردها، ولأنها بدلا أن تكون حافزا على شن الهجوم على الرأسمال في كل قطر على حدة تقود إلى الانتظار السلبي للحظة الحل العام ، ولأنها تبث بين بروليتاريي مختلف الأقطار لا روح التصميم الثوري، بل روح الشك على طريقة هملت: ماذا لو لم يهب الآخرون لمؤازرتنا! . إن لينين لعلى أتم الصواب حين يقول أن انتصار البروليتاريا في قطر واحد هو حالة نموذجية ، إن الثورة المتواقتة في عدة أقطار لا يمكن أن تكون الا استثناء نادرا ( الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، المجلد23، ص 354، الطبعة الروسية).
ولكن النظرية اللينينية عن الثورة لا تقتصر، كما هو معلوم، على هذا الجانب وحده من المسألة. فهي في الوقت نفسه نظرية تطور الثورة العالمية. وانتصار الاشتراكية في بلد واحد ليس غاية في حد ذاته. ولا يجوز للثورة المنتصرة في قطر من الأقطار أن تعد نفسها مفخرة تكفي نفسها بنفسها، بل أن تعد نفسها عاملا مساعدا، وسيلة لتسريع انتصار البروليتاريا في سائر الأقطار. ذلك أن انتصار الثورة في بلد واحد، في روسيا في مثالنا، ليس مجرد ثمرة لتطور الامبريالية اللا متساوي ولانحلالها التدريجي. بل هو في الوقت نفسه بداية الثورة العالمية ومقدمتها.
لا جدال في أن طرق تطور الثورة العالمية ليست على مثل تلك البساطة التي كان يمكن أن تبدوا بها في السابق، قبل انتصار الثورة في بلد واحد وقبل ظهور الامبريالية المتطورة ويؤكد حتمية المصادمات المسلحة والوهن العام للجبهة الرأسمالية العالمية وإمكانية انتصار الاشتراكية في أقطار منعزلة. وذلك أيضا أن عاملا جديدا قد أعلن عن وجوده: بلاد السوفيتات الشاسعة، الواقعة بين الغرب والشرق، بين مركز الاستغلال المال للعالم وحلبة الاضطهاد الاستعماري، تلك البلاد التي تشعل فتيل الثورة في العالم قاطبة لمجرد وجودها.
إن هذين لعاملان (إن اضرب صفحا عن العوامل الأخرى الأقل أهمية) يستحيل ألا يحسب لهما حساب عند دراسة طرق الثورة العالمية.
لقد كان يسود الاعتقاد في الماضي بأن الثورة ستتطور عن طريق النضج النظامي لعناصر الاشتراكية، وبادئ ذي بدئ في الأقطار الأكثر تطورا، في الأقطار المتقدمة . هذا الأسلوب في رؤية الأشياء بحاجة الآن إلى تعديل جوهري.
يقول لينين:
إن نظام العلاقات الأممية هو الآن على نحو يسمح للدول الغالبة في أوروبا بأن تستعبد دولة أخرى: ألمانيا. ثم إن جملة من الدولة، ومن أعرقها في الغرب، قد وجدت نفسها عقب الانتصار في شروط تتيح لها أن تستخدم هذا الانتصار لتقديم جملة من التنازلات لصالح الطبقات المضطهَدة من قبلها، وهي تنازلات تأخر، بالرغم من تفاهتها، الحركة الثورية في هذه البلدان وتخلق ما يشبه السلام الاجتماعي .
وفي الوقت نفسه، ومن جراء الحرب الامبريالية الأخيرة على وجه الدقة، نرى أن عددا كبيرا من البلدان - الشرق، الهند، الصين،..الخ،- قد قذف به بصورة نهائية خارج طريقه المألوف. فقد سلك تطورها بصورة نهائية سبيل الرأسمالية الأوروبية العام. والاختمار الذي يقض مضاجع أوروبا بأسرها أخذ يشمل هذه البلدان. وواضح الآن في نظر العالم قاطبة أنها اندفعت في طريق للتطور سيؤدي لا محالة إلى نشوب أزمة في مجمل الرأسمالية العالمية .
وبناءا على هذا، ونظرا إلى هذا، فإن بلدان أوروبا الغربية الرأسمالية ستستكمل تطورها نحو الاشتراكية... لا على نحو ما كنا نتوقع سابقا. إنها ستستكمله لا عن طريق نضوج الاشتراكية فيها بانتظام، بل عن طريق استغلال بعض الدول لبعضها الآخر، عن طريق استغلال أول دولة مغلوبة في الحرب الامبريالية الأولى، دخل الشرق نهائيا في الحركة الثورية العالمية . (من الأفضل أقل شرط أن يكون أحسن ، المجلد27، ص415-416، الطبعة الروسية).
إذا أضفنا إلى هذا أن البلدان المغلوبة والمستعمرات ليست الوحيدة التي تستغلها البلدان الغالبة، وان جزءا من البلدان الغالبة يدور هو الآخر في مدار الاستغلال المالي من قبل أقوى البلدان المنتصرة، أي أمريكا وإنكلترا، وان التناقضات بين جميع هذه البلدان تشكل عاملا أساسيا في تحلل الامبريالية العالمية، وان هناك بالإضافة إلى هذه التناقضات تناقضات أخرى بالغة العمق تتطور داخل كل قطر من تلك الأقطار، وأن جميع هذه التناقضات تتعمق وتتفاقم بنتيجة وجود جمهورية السوفيتات الكبيرة إلى جانب تلك البلدان – إذا أخذنا هذا كله بعين الاعتبار تكونت لدينا صورة كاملة بهذا القدر أو ذاك عن غرابة الوضع العالمي.
وأرجح الاحتمالات أن الثورة العالمية ستتطور عن طريق انفصال جملة من البلدان الأخرى انفصالا ثوريا عن منظومة الدول الامبريالية، على أساس لأن بروليتاريي هذه البلدان سيحظون بمؤازرة بروليتاريا الدول الامبريالية. ونحن نرى بأعيننا أن القطر الأول الذي انفصل، القطر الأول المنتصر، يتمتع بمساندة العمال، وبوجه عام، بمساندة الجماهير الكادحة في الأقطار الأخرى. ولولا هذه المساندة لما كان أمكنه الصمود. ومن المؤكد أن هذه المساندة ستتدعم وتتنامى يوما بعد يوم. ولكن من المؤكد أيضا أن تطور الثورة العالمية بالذات، إن سيرورة انفصال جملة من الأقطار الجديدة عن الامبريالية ستكون أسرع وأعمق كلما توطدت الاشتراكية بمزيد من العمق في القطر المنتصر الأول، وكلما تحول هذا القطر بسرعة اكبر إلى قاعدة للتطور اللاحق للثورة العالمية، إلى عتلة لتحلل الامبريالية اللاحق.
وإذا كان صحيحا أن الانتصار النهائي للاشتراكية في القطر المتحرر الأول مستحيل بدون الجهود المتضافرة لبروليتاريي جملة من الأقطار، فمن الصحيح أيضا أن تطور الثورة العالمية سيكون أسرع وأعمق كلما كان العون الذي يمد به القطر الاشتراكي الأول العمال والجماهير الكادحة في سائر الأقطار أكثر نجعا وفعالية.
مما ينبغي أن يتأتى هذا العون؟
ينبغي أن يتأتى أولا من أن القطر المنتصر، سيبدل أقصى ما في المستطاع تحقيقه في قطر واحد من أجل تطور الثورة ومساندتها ويقظتها في جميع الأقطار . (لينين: الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، المجلد 23، ص380، الطبعة الروسية).
والصفة المميزة لهذا العون من جانب القطر المنتصر لا تكمل في انه يعجل بانتصار البروليتاريين في الأقطار الأخرى، بل أيضا في انه يضمن، أن يسهل هذا الانتصار، الانتصار النهائي للاشتراكية في القطر المنتصر الأول.
وأرجح الاحتمالات أنه ستتشكل، في مجرى تطور الثورة العالمية، وإلى جانب بؤر الامبريالية في بعض الأقطار الرأسمالية ومنظومة هذه الأقطار في العالم قاطبة، بؤر للاشتراكية في بعض الأقطار السوفياتية ومنظومة من هذه البؤر في العالم قاطبة، وان الصراع بين هاتين المنظومتين سيملأ تاريخ تطور الثورة العالمية.
وكما يقول لينين فإن:
اتحاد الأمم الحر في الاشتراكية مستحيل بدون نضال عنيد، متفاوت الطول، تشنه الجمهوريات الاشتراكية ضد الدول المتأخرة . (المصدر نفسه).
إن الأهمية العالمية لثورة أكتوبر لا تكمن في أنها تمثل مبادهة كبرى من جانب قطر واحد لتحطيم سلسلة النظام الامبريالي فحسب، ولا في أنها تمثل البؤرة الأولى للإشتراكية في خضم الأقطار الامبريالية فحسب، بل أيضا في أنها تشكل المرحلة الأولى من الثورة العالمية وقاعدة متينة لتطورها اللاحق.
ولهذا لا يخطئ فحسب أولئك الذين يتناسون الطابع الأممي لثورة أكتوبر ويعلنون أن انتصار الثورة في بلد واحد ظاهرة قومية محضة خالصة، بل يخطئ أيضا أولئك الذين يميلون، من غير أن ينسوا الطابع الأممي لثورة أكتوبر إلى النظر إلى هذه الثورة وكأنها شيء سلبي مدعو فقط إلى تلقي الدعم من الخارج. والواقع أن ثورة أكتوبر ليست هي وحدها التي بحاجة إلى مساندة الثورة في الأقطار الأخرى، فثورة هذه الأقطار بحاجة هي الأخرى إلى تأييد ثورة أكتوبر لتسريع عملية الإطاحة بالامبريالية العالمية ودفعها إلى الأمام.
17 كانون الأول 1924.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا