تروتسكية أم لينينية ؟
جوزيف ستالين
تقديم :
"تروتسكية أم لينينية" نصّ كتبه الرفيق ستالين في نوفمبر 1924، هو نصّ نادر التداول حتى باللغات الأجنبية صلب الحركة الشيوعية العالمية وخاصة العربية. أترجم هذا النص إلى اللغة العربية لأنه يكتسي، في نظرنا، أهمية بالغة لعدة أسباب :
1- لهذا النص أهمية تتعلق بكتابة التاريخ الحقيقي لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى التي شكلت منعرجا حاسما في تاريخ البشرية باعتباره يتناول الأحداث واللحظات العصيبة في تحضير وإنجاز تلك الثورة على لسان أحد أهم زعمائها الذي كان في قلب جميع الأحداث المتعلقة بها. فالنص من هذه الناحية يهمّ كافة المؤرخين الديمقراطيين الشرفاء فضلا عن المثقفين الشيوعيين.
2- لهذا النص أهمية استثنائية باعتبار أوّلا - تاريخ كتابته في نوفمبر 1924 بعيد وفاة لينين، أي في فترة ما زالت فيها التروتسكية وتروتسكي "أقوياء" صلب الحزب البلشفي وصلب الحركة الشيوعية العالمية. في فترة لا يمكن لأحد أن يزعم فيها أن ستالين كان "مسيطرا" على الحزب والدولة السوفيتية، وثانيا – باعتبار شكله حيث جاء في شكل خطاب علني مفتوح وبحضور الخصوم السياسيين. في هذه الظروف ينبري ستالين ليفضح أكاذيب تروتسكي والتروتسكيين حول انتفاضة أكتوبر والحزب البلشفي والتي اتخذت شكل هجوم فكري ممنهج ضد البلشفية وزعمائها وعلى رأسهم لينين.
3- لهذا النص أهمية بالغة لا لتضمنه أفكارا نظرية ضد أطروحات التروتسكية حول الثورة الدائمة" أو الحزب، الخ - فقد تناول ستالين هذه المسائل بأكثر تفصيل وبكمال أكبر في مؤلفاته الأخرى مثل "أسس ومسائل اللينينية" و"ثورة أكتوبر وتاكتيك الشيوعيين الروس" الخ – بل لتناوله مسائل تكتيكية تتعلق بالتحضير الحي لثورة أكتوبر ولكونه يبين بكلّ موضوعية وعلنية وبالوثائق القادة الحقيقيين لانتفاضة أكتوبر المظفرة والقادة الحقيقيين للنصر على الثورة المضادة والدور الحقيقي لتروتسكي سواء في الانتفاضة أو في الحرب الأهلية.
4- لهذا النص أهمية ملحوظة لأنه يبرز، مرة أخرى، إحدى أهم خصال القائد الفذ يوسف ستالين وهي الموضوعية والانضباط الحزبي. فرغم خطورة التشويهات التي يروجها تروتسكي عن لينين والحزب البلشفي ورغم حدّة النقاش لدحض تلك التشويهات، نجد ستالين هادئا، صلبا يشير إلى تروتسكي بـ"الرفيق تروتسكي" ويعارض أي لجوء لعقوبات ضده ويطرح في المقابل خوض صراع إيديولوجي علني شامل ضد التروتسكية كتّيار معادي للينينية باستقلال عن شخص تروتسكي.
-------------------------------------
تصدير :
"إن هذا المطلوب لهو أصعب على المرء من تقديم الدليل على بطولته خلال بضعة أيام، دون أن يترك مكانه التقليدي، دون أن يشرع بالحملة، مكتفيا بهبة إنتفاض ضد رومانوف الوحش و الأبله، أو ضد كيرنسكي الغبي، المغرور. إن بطولة القيام بعمل تنظيمي عنيد و طويل النفس، على نطاق البلاد كلها، لهو أصعب إلى ما لا حد له، و لكنه أرفع إلى ما لا حد له من بطولة الإنتفاضات."
( "رسالة إلى عمال بيتروغراد" - البرافدا العدد 101، 23 أيار 1918).
---------------------------
تروتسكية أم لينينية ؟
- خطاب ستالين في الجلسة العامة للكتلة الشيوعية في المجلس المركزي للنقابات الروسية (19 نوفمبر 1924)
أيها الرفاق،
بعد التقرير المفصل للرفيق كامنييف لم يبق لي إلا القليل لقوله. لذلك سأكتفي بدحض بعض الأساطير التي ينشرها تروتسكي وأصدقائه حول ثورة أكتوبر ودور الرفيق تروتسكي في الثورة والحزب والتحضير الثوري، الخ. سأتناول أيضا التروتسكية بوصفها إيديولوجية معادية للينينية وسأتحدث، أخيرا عن واجبات الحزب إزاء الأعمال الفكرية الأخيرة للرفيق تروتسكي.
ينشر بحماس مميز بين أعضاء الحزب أن اللجنة المركزية أعلنت معارضتها للانتفاضة في أكتوبر 1917. ويحكى بصورة اعتيادية أنه في 10 أكتوبر أعلنت غالبية اللجنة المركزية في البداية معارضتها للانتفاضة لكن دخول أحد العمال بصورة فجئية إلى القاعة أدى إلى انقلاب الأمور. وينسب إلى هذا العامل قوله : " أنتم تصوتون ضد الانتفاضة لكنني أحذركم من أن الانتفاضة ستقع مع ذلك" ويقال أن اللجنة المركزية متأثرة بهذا القول قررت آنذاك الانتفاضة.
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد أحدوثة، فقد روى جون ريد أيضا هذه القصة في كتابه "عشرة أيام هزت العالم". لم يكن جون ريد آنذاك عضوا بعد في حزبنا وقد وقع في فخ م. سوخانوف. هذه الحكاية وقع تضمينها وتكرارها مرارا في جملة من الكراريس التي كتبها أصدقاء تروتسكي ومن ضمنها مؤخرا كراس حول أكتوبر من تأليف الرفيق سيركين.
وتسهم المؤلفات الفكرية الأخيرة للرفيق تروتسكي إلى حدّ كبير في ترويج هذه الإشاعات. لا حاجة لإثبات أن كل هذه الترهات غير مطابقة للحقيقة وأن لا شيء من ذلك القبيل حصل في اجتماع اللجنة المركزية. لم نمنح أهمية لهذه الإشاعات لأننا تعودنا على التفاهات المتأتية من المعارضة أو من أشخاص خارج الحزب. لم نولي كذلك أهمية لأخطاء جون ريد. لكن بعد مؤلف تروتسكي الأخير لم يعد بالإمكان ترك هذه الأساطير تمر في صمت لأنه باستخدامها يراد تكوين الشباب. وللأسف نجحوا نوعا ما في هذا المجال، لذلك يجب أن أواجه بالوقائع هذه الإشاعات الحمقاء التي يقع ترويجها.
إليكم الوقائع.
إنها تحطم الكثير من الأساطير ومن بينها تلك التي تقول بأن اللجنة المركزية أعلنت معارضتها للانتفاضة. وتحطّم الأسطورة القائلة بأن اللجنة المركزية كانت قاب قوسين أو أدنى من الانقسام بسبب الخلافات حول مسألة الانتفاضة. يتضح من محاضر الجلسة أن معارضي الانتفاضة الحينية- كامنييف وزينوفييف- دخلوا كأعضاء في المكتب السياسي المكلف بقيادة الانتفاضة المسلحة. لم تكن إذن مسألة الانقسام واردة.
يدّعي تروتسكي أن حزبنا كان يضم في أكتوبر 1917، في شخصي كامنييف وزينوفييف، جناحا يمينيا شبه اشتراكي ديمقراطي. لو كان ذلك صحيحا، لما استطعنا أن نفهم كيف أمكن للحزب تلافي الانقسام وكيف يحتل هؤلاء الرفاق أهم المناصب في الحزب بوصفهم أعضاء في المكتب السياسي الذي قاد الانتفاضة. نعرف صرامة لينين إزاء الاشتراكية الديمقراطية. لم يكن لينين ليسمح أبدا بأن يتواجد في الحزب رفاق يحملون ميلا إلى الاشتراكية الديمقراطية، ومن باب أولى وأحرى، لم يكن ليسمح بتعيين هؤلاء الرفاق في أهم المناصب.
بالنسبة لهؤلاء الرفاق، يتعلق الأمر ببلاشفة قدامى يقفون على الأرضية العامة للبلشفية، هناك وحدة في الرؤى حول المسائل الجوهرية : طبيعة الثورة الروسية، القوى المحركة للثورة، دور الفلاحين، أسس تنظيم الحزب، الخ. بدون هذه الوحدة في وجهات النظر ما كان يمكن تجنب الانقسام. على العكس من ذلك، لم تؤدي الخلافات بين هؤلاء الرفاق وبين أغلبية اللجنة المركزية إلى الانقسام بل زالت خلال بضعة أيام لأن كامنييف وزينوفييف كانوا لينينيين وبلاشفة.
لنتحدث الآن عن أسطورة دور تروتسكي في انتفاضة أكتوبر. يروج أصدقاء تروتسكي بوقاحة أن تروتسكي هو المهندس والقائد الوحيد للانتفاضة.
يساهم في ترويج هذا اللغو خاصة الرفيق لينتسنر محرّر المؤلفات الكاملة لتروتسكي والذي يتجاهل بصفة ممنهجة دور الحزب ودور اللجنة المركزية ولجنة لينينغراد في تنظيم الانتفاضة. واضعا نفسه في مقدمة الأحداث، يساهم تروتسكي أيضا، عن قصد أو بدونه، في نشر هذه الادعاءات.
لا يخطر في بالي التشكيك في أهمية الدور الذي لعبه الرفيق تروتسكي في الانتفاضة، لكن عليّ القول بأنه لم يكن ولا يمكن أن يكون دورا مميّزا : بوصفه رئيسا لسوفييت بتروغراد لم يكن يقم سوى بتنفيذ إرادة الهيئات المختصة في الحزب التي كانت تقوده خطوة بخطوة. إن برجوازيين صغار من طينة سوخانوف يجدون في ذلك غرابة لكن الوقائع، الوقائع الحقيقية، تأكد تماما ما كنت بصدد قوله.
لننظر إلى بروتوكول جلسة اللجنة المركزية بتاريخ 16 أكتوبر. الحاضرون: أعضاء اللجنة المركزية، ممثلو لجنة بتروغراد، المنظمة العسكرية، لجان مصانع، نقابات، عمال سكك الحديد. بالإضافة إلى الرفاق كريلنكو، شوتمان، كالينين، فولودارسكي، شليبنيكوف، لاتزيس وغيرهم. على جدول الأعمال مسألة التحضير العملي للانتفاضة. وقع تبني لائحة لينين من طرف 20 صوتا مقابل 2 وامتناع 2. وتقرر تكوين جهاز مركزي مكلف بالتنظيم الفعلي للانتفاضة ويضم هذا الجهاز خمسة رفاق هم : سفردلوف، ستالين، دزرجنسكي، بوبنوف وأوريتسكي. هذه اللجنة ستقود الأعمال التنفيذية حسب تعليمات اللجنة المركزية.
وهكذا، كما ترون، حصل أمر "غريب" في هذه الجلسة للجنة المركزية. وقع تكوين الجهاز المركزي المكلف بالقيادة التنفيذية للانتفاضة دون تعيين الرفيق تروتسكي، "المهندس" و"المحرك الرئيسي" و"القائد الوحيد" للانتفاضة، إلى عضوية ذلك الجهاز !
بوصفه عضوا جديدا نسبيا في حزبنا، لم يكن بإمكان تروتسكي أن يلعب دورا مميّزا سواء في الحزب أو في الانتفاضة. لم يكن، ككل مناضل مسؤول، سوى منفّذ لإرادة اللجنة المركزية وهياكلها. كلّ شخص له اطلاع على منظمة الحزب البلشفي سيفهم دون عناء كبير أنه لا يمكن أن يجري الأمر إلا على هذا النحو. لو عارض تروتسكي إرادة اللجنة المركزية لما أمكن له أن يمارس أدنى تأثير على مجريات الأحداث. إن ما يروّج في الحزب عن دوره المتميز لا يعدو أن يكون سوى تزييف مغرض.
لا يعني ذلك أن انتفاضة أكتوبر لم يكن لها مهندس. إن قائدها ومهندسها هو لينين الذي وقع تبني لوائحه حول الانتفاضة من طرف اللجنة المركزية. كونه كان مجبرا على العيش في السرية لا يعني، مهما قال الرفيق تروتسكي، أنه ليس المهندس الحقيقي للحركة. إنه لمن الغباء والحمق إنكار هذا الدور للينين.
إليكم الوقائع.
قد يقال لنا نحن متفقون على ذلك ولكن هل يمكن الشك في أن الرفيق تروتسكي قد أبلى بلاءا حسنا في أكتوبر؟ صحيح أن تروتسكي أبلى بلاءا حسنا في أكتوبر ولكن ليس وحده من أبلى البلاء الحسن. الاشتراكيون الثوريون اليساريون مثلا الذين كانوا يسبرون معنا في تلك الفترة لم يبلوا بلاءا سيئا. بل يمكنني القول بصفة عامة أنه في مرحلة الانتفاضة المظفرة عندما يكون العدو معزولا وقوى الثورة في تعاظم مستمر، ليس من الصعب أن يبلى المرء بلاءا حسنا. في مثل تلك اللحظات، حتى العناصر المتأخرة يمكن أن تصبح أبطالا. لكن نضال البرولتاريا لا يتمثل دوما في الهجوم ولا يتشكل دوما من سلسلة لا تنقطع من الانتصارات بل يعرف انتكاسات وهزائم. يجب على الثوريين الحقيقيين أن يثبتوا شجاعتهم ليس في فترة انتصار الانتفاضة وحدها بل كذلك في فترة الانتكاسات والتراجعات.
لم يكن بلاء الاشتراكيون اليساريون سيئا في فترة أكتوبر عندما ساندوا البلاشفة، لكننا نعرف مدى الارتباك الذي تملك هؤلاء "الشجعان" في فترة بريست-ليتوفسك وكيف رمى بهم هجوم الامبريالية الألمانية في يأس مظلم.
تروتسكي الذي أبلى بلاءا حسنا في أكتوبر، لم يكن له الشجاعة والصلابة الضروريين لكي لا يقتف آثار الاشتراكيين الثوريين اليساريين في فترة بريست-ليتوفسك، فترة الاخفاق المؤقت. لا شك أن الوضع كان في غاية الصعوبة وأنه كان يتطلب شجاعة وحضورا ذهنيا خارقا للعادة للتراجع في الوقت المناسب دون تمكين العدو من سحقنا وإبرام السلم في الوقت المناسب ممّا سمح بإنقاذ الجيش البرولتاري والمحافظة على الاحتياطات الفلاحية لكي ننقض على العدو بعد فترة تهدئة بقوى جديدة.
يعتبر تروتسكي ان الدرس الرئيسي الذي يجب أن نستخلصه من مرحلة أكتوبر هو أن لا "ننحرف". هذا غير صحيح لأن صيغة الرفيق تروتسكي لا تتضمن سوى جزء من الحقيقة. أما الحقيقة، كل الحقيقة، فتتمثل في أنه يجب أن لا "ننحرف" لا فقط لحظة الهجوم الثوري ولكن أيضا يجب أن نحافظ على صلابتنا عند اخفاقات الثورة، عندما يجبرنا العدو على التراجع. لا يشكل أكتوبر سوى بداية الثورة البرولتارية ومن المحزن أن ننحرف في البداية ولكن الأكثر حزنا أن ننحرف في مرحلة المحن الصعبة التي تمر بها الثورة بعد مسك السلطة. ان المحافظة على السلطة غداة الثورة مهمة لا تقل جسامة عن الاستيلاء عليها. إن تروتسكي الذي انحرف في فترة بريست-لتوفسك في وقت صعب للغاية لما كنّا قريبين من فقدان السلطة، سيفهم أنه من غير المناسب بالمرّة الحديث بعد ذلك عن أخطاء كامنييف وزينوفييف في أكتوبر.
- الحزب وتحضير أكتوبر
عندما نستمع إلى الرفيق تروتسكي يتحدث يمكن أن يذهب في اعتقادنا أن الحزب البلشفي في الفترة بين مارس وأكتوبر، وقد نهشته النزاعات الداخلية، كان يضع جميع أنواع العراقيل أمام لينين، وأنه لو لم يكن الرفيق تروتسكي موجودا ما من أحد يعلم ماذا سيكون مآل ثورة أكتوبر. من المسلّي أن نسمع تروتسكي يقول هذه الأشياء عن الحزب، لأننا نقرأ في مقدمة الجزء الثالث من كتابه أن "الحزب هو الأداة الرئيسية للثورة البرولتارية" وأن "الثورة البرولتارية لم يكن لها أن تنتصر بدون الحزب...". حتى حكمة الآلهة لا تكفي لتفسير كيف كان يمكن للثورة أن تنتصر إذا كانت "أداتها الرئيسية" على تلك الحالة الرثة.
ينقسم تاريخ التحضير لثورة أكتوبر إلى عدة مراحل :
* فترة الاتجاه الجديد للحزب (مارس- أفريل)
أهم الأحداث المميزة لهذه الفترة هي التالية : أ) سقوط القيصرية، ب) تكوين الحكومة المؤقتة (دكتاتورية البرجوازية)، ج) ظهور سوفيتات العمال والجنود (دكتاتورية البرولتاريا والفلاحين)، د) تعايش الدكتاتوريتين، هـ) مظاهرة أفريل، و) الأزمة الأولى للسلطة.
تميزت هذه الفترة بتواجد، في نفس الوقت وإلى جانب دكتاتورية البرجوازية، للدكتاتورية البرولتارية والفلاحية التي سلمت ثقتها للدكتاتورية البرجوازية وآمنت بجهودها السلمية ومنحت بإرادتها السلطة للبرجوازية وأصبحت بذلك ملحقة بها. لم تنشأ بعد نزاعات جدية بين الدكتاتوريتين وقد وقع تشكيل لجنة سميت بلجنة "الاتصال" مكلفة بربط الصلة بين الأجهزة.
لقد حصل أعظم تحول في تاريخ حزبنا. فقد أصبحت الأرضية القديمة لقلب الحكم التي وقعت صياغتها قبل الثورة رغم دقتها ووضوحها، غير ملائمة لشروط النضال الجديدة. لم يعد بالإمكان لنشاط الحزب أن يهدف مباشرة إلى إسقاط الحكومة نظرا لارتباط هذه الأخيرة بالسوفياتات التي كانت تحت تأثير الاشتراكيين القوميين، وإلاّ فسيخوض نضالا غير متناسب مستخدما قواه ضد الحكومة والسوفياتات معا. لكنه كان من المستحيل أيضا أن يساند الحكومة المؤقتة التي كان يعي ميولها الامبريالية.
كانت ظروف النضال الجديدة تفرض على الحزب اتجاها سياسيا جديدا. كان الحزب، أي أغلبيته، يتلمس باحثا عن الطريق الجديدة. وقد اعتمد سياسة قوامها ممارسة الضغط عبر السوفياتات على الحكومة المؤقتة في مسألة السلم، لم يقرر بصفة فورية توسيع الشعار القديم لدكتاتورية البرولتاريا والفلاحين إلى حدّ رفع شعار "كل السلطة للسوفياتات". كانت سياسة نصف الخطوة هذه ترمي إلى فضح الطابع الامبريالي للحكومة المؤقتة وانتزاع السوفياتات من تحت تأثيرها من خلال مناقشة مسائل ملموسة داخل السوفياتات. لقد كانت تلك السياسة خاطئة لأنها تخلق أوهاما سلمية لم يتأخر الاشتراكيون القوميون في استغلالها ولأنها تعيق التربية الثورية للجماهير. كنت، على غرار رفاق آخرين، أشاطر وجهة النظر الخاطئة هذه، لكن مع منتصف أفريل لما وقع تبني أطروحات لينين تخليت كليا عنها. ( ساند زينوفييف، الذي يريد تروتسكي تقديمه كأحد أتباع هلفردنغ، كليا وجهة نظر لينين ).
إن توجها جديدا يفرض نفسه. وقد سطّر لينين في أطروحات أفريل الشهيرة الخط الجديد للحزب. هل وجد خلاف في ذلك الوقت بين الحزب ولينين؟ نعم ولكن لم يدم سوى أسبوعين. لقد شكلت ندوة منظمة بتروغراد خلال النصف الثاني من أفريل والتي تبنت أطروحات لينين منعرجا في تاريخ حزبنا. وقد أقرّت ندوة الحزب في آخر أفريل قرار منظمة بتروغراد ووقع تبني التكتيك الجديد بأغلبية الرفاق الساحقة.
والآن وبعد مرور سبع سنوات على ذلك، يظهر تروتسكي غبطته لخلافات بين بلاشفة اندثرت منذ مدة طويلة والتي يقدمها تروتسكي على أنها صراع بين حزبين في صلب البلشفية. انه يغالي في الأمور الى أقصى حدّ، لأن الحزب البلشفي تغلب على تلك الخلافات بدون حصول أي ضرر. سيكون حزبنا مجرد طائفة منغلقة لا حزبا ثوريا إذا لم يقبل في صفوفه الاختلاف في الأفكار. يعلم الجميع أن تاريخ حزبنا شهد اختلافات أخرى في الأفكار مثل تلك التي برزت في فترة الدوما الثالثة ولكن ذلك لم يمسّ من وحدة الحزب. وقد لا يكون دون فائدة توجيه السؤال لتروتسكي حول موقفه في تلك الفترة.
يزعم "محرّر" أعمال تروتسكي الرفيق لنتسنر أن الرسائل الأمريكية لتروتسكي (مارس 1917) "تستبق" "رسائل من بعيد" للينين (التي نشرت أيضا في مارس) والتي تضمنت الأفكار التي أسس عليها لينين أطروحات أفريل. "استباق كلّي" هكذا يرى الرفيق لنتسنر ولا يبدي تروتسكي طبعا أي اعتراض على هذه المقارنة ويقبلها بامتنان. لكن، بداية، لا وجود لأي شبه بين رسائل تروتسكي ورسائل لينين، لا في الفكر ولا في الاستنتاجات. رسائل تروتسكي تكرر شعار " لا للقيصرية، حكومة عمالية" المعادي للبلشفية، شعار يعني الثورة بدون الفلاحين. يكفي أن نقارن مجموعتي الرسائل لنكتشف الفرق.
ثمّ كيف نفسر أن لينين، بعد يومين من رجوعه إلى روسيا، برسم المسافة بينه وبين تروتسكي. من منا لا يعرف تصريحات لينين المتتالية حول شعار تروتسكي "لا للقيصرية، حكومة عمالية" حيث يعتبره محاولة "للقفز على الحركة الفلاحية التي لا تزال حية" ويصفه بـ"لعبة الاستيلاء على السلطة بواسطة الحركة العمالية". أي شبه بين الأطروحات البلشفية للينين والصيغة المعادية للبلشفية لتروتسكي؟ لماذا شعر الرفيق لنتسنر بالحاجة إلى أن يضيف إلى الأساطير الأخرى حول الثورة تلك المتعلقة بـ"استباق" رسائل تروتسكي الأمريكية لرسائل لينين*.
------------ * عرض الأساطير ذاك يتضمن أيضا رواية حول الرفيق تروتسكي بوصفه المنظم "الوحيد" و"الرئيسي" للحرب الأهلية. يجب عليّ أيهاالرفاق القول بأن هذه الرواية غير حقيقية بالمرة.بعيدا عن التفكير في التشكيك في الدور الهام للرفيق تروتسكي في الحرب الأهلية، أجدني مجبرا على التصريح عاليا وبصورة قاطعة بأن شرف تنظيم انتصاراتنا لا يعود إلى أشخاص بل إلى مجموع العناصر المتقدمة من عمال بلدنا أي إلى الحزب الشيوعي لروسيا. وقد يكون من المفيد أن نستشهد ببعض الأمثلة. تعرفون أننا نعتبر كولتشاك ودنكين ألدّ أعداء الجمهورية السوفيتية وتعرفون أن بلدنا بدأ يسترد أنفاسه فقط بعد الانتصار على هذين العدوين. لكن التاريخ يبين لنا أن جيوشنا انتصرت على كولتشاك ودنكين بعد تنفيذ خطط مناقضة لخطط تروتسكي. لتحكموا بأنفسكم :
- كولتشاك : صيف 1919، جيوشنا بصدد شن هجوم على كولتشاك متوجهة لأخذ "أوفا". جلسة الجنة المركزية، تروتسكي يقترح وقف الهجوم عند خط "بيالايا" (قبيل "أوفا") وترك الأورال بين يدي كولتشاك وسحب جزء من جيوشنا من الجبهة الشرقية لتقوية الجبهة الجنوبية. بعد نقاش مثير أعلنت اللجنة المركزية معارضتها وقررت عدم ترك الأورال بمصانعه وسكك حديده إلى كولتشاك الذي سيستغل ذلك وسيتمكن بسهولة من تنظيم جيشه بمساعدة الفلاحين ومن ثمة يستأنف الهجوم نحو الفولغا. قررت إذن (اللجنة المركزية) طرد كولتشاك إلى ما وراء الأورال في الصحاري السيبيرية أوّلا، ثم النظر بعد ذلك في تقوية الجبهة الجنوبية بجيوش تسحب من الجبهة الشرقية. قدم تروتسكي الذي تمّ رفض مقترحه استقالته لكن اللجنة المركزية رفضت قبولها، أما القائد فاتسليس الذي كان يساند خطة تروتسكي فقد استقال ووقع تعويضه بكامنييف. ومنذ ذلك الحين لم يشارك تروتسكي مباشرة في عمليات الجبهة الشرقية.
- دانكين : خريف 1919، فشل الهجوم على دانكين، "الدائرة الحديدية" حول "مامنتوف" لم تؤدي إلى تقدم، احتل دانكين "كورسك" ويزحف على "أوريل". وقعت دعوة تروتسكي من الجبهة لحضور إجتماع اللجنة المركزية. أعلنت اللجنة المركزية أن الوضع يبعث على القلق وقررت أن ترسل إلى الجبهة الجنوبية موظفين عسكريين جدد من الحزب وتنحية تروتسكي. طلب الموظفون المرسلون إلى الجبهة أن يمتنع تروتسكي عن كل "تدخل" في العمليات. قبل تروتسكي ذلك وتواصلت العمليات في غيابه حتي تمكنت جيوشنا من تحرير "روستوف" و"أوديسا".[-----------------
* مرحلة التعبئة الثورية للجماهير (ماي – أوت)
أهم الأحداث المميزة لهذه المرحلة هي التالية : أ) مظاهرة أفريل في بتروغراد وتشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة "اشتراكيين"، ب) مظاهرات الأول من أيّار في المدن الرئيسية تحت شعار "سلم ديمقراطية"، ج) مظاهرة جوان في بتروغراد تحت شعار "يسقط الوزراء الرأسماليون"، د) هجوم جوان وإخفاقات الجيش الروسي، هـ) الاستعراض المسلح في بتروغراد في جويلية واستقالة أعضاء الحكومة من الكاديت، و) نشر فرق معادية للثورة وقع سحبها من الجبهة وتخريب مقر تحرير البرافدا، نشاط معادي للثورة ضد السوفياتات وتشكيل حكومة ائتلافية جديدة برئاسة كيرنسكي، ز) المؤتمر السادس للحزب يطلق شعار تحضير الانتفاضة المسلحة، ح) انقلاب كورنيلوف الفاشل ضد بتروغراد وتواصل نشاط السوفياتات، استقالة الكاديت وتشكيل "المديرية".
يجب أن نعتبر أن الخط الأكثر تمييزا لهذه المرحلة يتمثل في احتداد الأزمة وتحطيم التوازن بين السوفياتات والحكومة المؤقتة. فقد وصلت "لجنة الاتصال" إلى حالة لم تعد تستطيع معها الاشتغال وكانت "أزمة السلطة" و"شطحات الوزراء" على لسان الجميع في تلك الفترة. وقد ساهمت الأزمة على الجبهة والفوضى في المؤخرة في تقوية أقصى اليسار وعزل، من الجانبين، "الاشتراكيين" الباحثين عن صفقة والقوميين. كانت الثورة تنضج والثورة المضادة تثير باستمرار موجات ثورية جديدة. أصبحت مسألة انتقال السلطة بين أيدي طبقة جديدة على جدول الأعمال.
هل وجدت في تلك الفترة خلافات صلب الحزب؟ نعم، ولكنها ذات طابع موضوعي على عكس ما يزعم تروتسكي الذي يبذل جهده لاكتشاف "يمين" و"يسار" في الحزب، خلافات لا يمكن أن نتصور بدونها حزبا حيّا ويعمل بصفة جدية.
يخطئ تروتسكي لما يصرّح أن مظاهرة أفريل في بتروغراد أثارت خلافات في اللجنة المركزية، فقد عارضت اللجنة المركزية بالإجماع محاولة مجموعة من الرفاق اعتقال أعضاء الحكومة المؤقتة في وقت لم يكن فيه البلاشفة سوى أقلية صلب السوفياتات وكذلك في الجيش. لو لم يكتب الرفيق تروتسكي "تاريخ" ثورة أكتوبر بالرجوع إلى سوخانوف، ولو اعتمد على وثائق لا يمكن الطعن فيها لاستطاع دون عناء كبير أن يقتنع بعدم صحة ما طرحه. يخطئ أيضا لما يزعم أن محاولة تنظيم مظاهرة بتروغراد "يمبادرة" من لينين والتي ضبط تاريخها في 9 جوان، قد وقع اعتبارها "عمل مغامر" من طرف أعضاء "اليمين" في اللجنة المركزية. لو لم يستق تروتسكي من كتاب سوخانوف لاستطاع أن يعرف أن مظاهرة 9 جوان قد تأجلت باتفاق كامل مع لينين الذي دافع عن هذا القرار للجنة المركزية في خطاب مطول ألقاه في اجتماع لجنة بتروغراد (أنظر محاضر لجنة بتروغراد).
يخطئ الرفيق تروتسكي تماما عندما يتحدث عن "خلافات مأساوية" في اللجنة المركزية حول الاستعراض المسلح في جويلية. ولا يعدو أن يكون سوى محض تلفيق من طرفه افتراضه أن بعض ألأعضاء في المجموعة القيادية للجنة المركزية "اعتبروا أحداث جويلية كمغامرة في غير محلها". إن تروتسكي الذي لم يصبح في تلك الفترة عضوا في اللجنة المركزية والذي لم يكن سوى نائبنا في مجلس السوفيات، لا يمكنه طبعا أن يعرف أن اللجنة المركزية لا تعتبر الاستعراض انتفاضة مسلحة وأنها سعت فقط إلى جسّ نبض العدو وأنه لا اللجنة المركزية ولا لينين خطر في باله تحويل الاستعراض إلى انتفاضة في وقت مازالت فيه سوفياتات المدن الرئيسية تجت تأثير الاشتراكيين القوميين. طبعا يمكن أن يكون بعض البلاشفة قد حزن لهزيمة جويلية، وأنا أعرف حالات من البلاشفة المعتقلين في تلك الفترة أبدوا حتى رغبة في مغادرة صفوفنا. لكن أن يستخلص المرء من ذلك استنتاجات ضد أعضاء مزعومين ليمين مزعوم في اللجنة المركزية فهذا يعتبر تزييفا فجا للتاريخ.
يخطئ تروتسكي لما يصرح أنه خلال مغامرة كورنيلوف اضطرت مجموعة من قياديي الحزب إلى التحالف مع الاشتراكيين القوميين لمساندة الحكومة المؤقتة. يتعلق الأمر طبعا بـ"اليمين" المزعوم الذي يطرد النوم عن تروتسكي. تروتسكي على خطأ. إن عدة وثائق ومنها مثلا أعداد الجريدة المركزية للحزب تكذبه قطعيا. يستشهد تروتسكي برسالة للينين ينبه فيها اللجنة المركزية من دعم محتمل لكرنسكي. ولكن تروتسكي لا يفهم رسائل لينين ولا يفقه مطلقا معناها وأهدافها. في هذه الرسائل يتعرض لينين لأخطاء لم توجد بعد ولكن يمكن أن تقع، فهو ينبه الحزب ليجنبه أي خطوات خاطئة متوقعة. في بعض الأحيان يهول مسألة في "غاية البساطة"، "يجعل من البعوضة فيلا" لنفس هدف تربية الحزب.
إن زعيم الحزب، خاصة عندما يكون مجبرا على العيش في السرية، لا يمكنه إلا أن يتصرف بتلك الطريقة. يجب عليه أن يكون أكثر حذرا من رفاقه في النضال ويدق ناقوس الخطر لتحذير الحزب من أية أخطاء ممكنة حتى لو كانت "أشياء بسيطة". لكن، أن نستنتج من تلك الرسائل خلافات "مأساوية" فذلك يعني عدم فهم وعدم معرفة بلينين وهو ما يفسر أخطاء تفسيرات تروتسكي. باختصار، لم يكن هناك خلافات بين أعضاء اللجنة المركزية خلال مغامرة كورنيلوف.
بعد هزيمة جويلية، ظهرت فعلا خلافات بين اللجنة المركزية ولينين بخصوص السوفياتات. نعرف أن لينين كان يريد تركيز اهتمام الحزب حول تحضير الانتفاضة خارج إطار السوفياتات وكان يحذرنا من عدم الانبهار بالسوفياتات. كان يرى أن السوفياتات قد تحولت إلى صحراء وأن الجماهير كرهتها بفعل سيطرة الاشتراكيين القوميين عليها. لكن اللجنة المركزية والمؤتمر السادس للحزب تبنوا سياسة أكثر حذرا تأخذ في الاعتبار امكانية استئناف نشاط السوفياتات وقد بيّنت عملية كورنيلوف صحة وجهة النظر هذه وقد اعترف لينين بذلك لاحقا. وللمفارقة، لم يتشبث تروتسكي بهذا الخلاف ولم يهوله "بصورة غير مناسبة".
وهكذا، يعطينا الحزب في تلك الفترة مشهدا عن منظمة صلبة ومنضبطة متواجدة في قلب التحضيرات الثورية للجماهير.
* مرحلة التحضير للانتفاضة
لنبرز الأحداث المميزة لتلك المرحلة : أ) دعوة الكونفرانس الديمقراطي وفشل التحالف مع السوفياتات، ب) كسب البلاشفة لسوفييت موسكو وبتروغراد، ج) مؤتمر سوفياتات المناطق الشمالية وقرار سوفييت بتروغراد ضد التحاق الحامية بالجبهة، د) قرار اللجنة المركزية حول الانتفاضة وتشكيل اللجنة العسكرية الثورية لسوفييت بتروغراد، هـ) قرار حامية بتروغراد حول الدعم المسلح لسوفييت بتروغراد وتنظيم مندوبي اللجنة العسكرية الثورية، و) بدء عمل القوات المسلحة البلشفية واعتقال أعضاء "الحكومة المؤقتة"، ز) الاستيلاء على السلطة من طرف اللجنة العسكرية الثورية لسوفييت بتروغراد وتشكيل مجلس مفوضي الشعب من طرف المؤتمر الثاني للسوفياتات.
تميزت هذه المرحلة بتفاقم سريع للأزمة وبتذبذب الدوائر الحاكمة وبعزلة الاشتراكيين الثوريين والمناشفة وبالانتقال الجماعي للعناصر المترددة إلى البلشفية.
كان التكتيك الثوري غريب جدا في تلك الفترة إذ تميز بالخصوص بشن الهجوم مع البقاء في حالة دفاعية. فقد كان رفض سوفييت بتروغراد إرسال الجيوش، دون شك، عملا هجوميا ثوريا لكنه كان مبرّرا بضرورة الدفاع عن بتروغراد ضد عدوان محتمل من طرف أعدائنا. ويعتبر تشكيل اللجنة العسكرية الثورية، بدون شك، عملا هجوميا أكثر جدية وأكثر صراحة لكنه تمّ تحت شعار الرقابة السوفياتية للسلط العسكرية. وكان إعلان تأييد الحامية للجنة العسكرية الثورية وتنظيم شبكة كاملة من المفوضين يعني، بدون شك، الشروع في الانتفاضة ومع ذلك فقد قطعت الثورة خطواتها الحاسمة تحت شعار ضرورة الدفاع عن سوفييت بتروغراد ضد الهجمات المحتملة للثورة المضادة.
كان ذلك بمثابة إخفاء الثورة لأنشطتها الهجومية تحت عباءة الدفاع بغرض جلب العناصر المترددة بسهولة أكبر. هذا ما يفسّر الطابع الدفاعي ظاهريا للخطب والمقالات والشعارات في تلك الفترة رغم أنها كانت ترمي، تحت هذا الشكل، إلى تحقيق أهداف هجومية.
هل وجدت في تلك الفترة خلافات صلب اللجنة المركزية؟ نعم، بل حتى خلافات هامة. لن أكرر ما ذكرته منذ قليل حول الخلافات في مسألة الانتفاضة، لكنني سأتناول بالتفصيل ثلاثة مسائل : المشاركة في البرلمان التمهيدي، دور السوفياتات في الانتفاضة وتاريخ هذه الأخيرة. يصبح ذلك ضروريا أكثر على اعتبار سعي تروتسكي لإبراز نفسه في المقدمة وتشويهه "بطريق الخطأ" وجهة نظر لينين حول المسألتين الأخيرتين.
ما من شك في أن الخلافات حول مسألة البرلمان التمهيدي كانت خلافات جدية. ماذا كان هدف البرلمان التمهيدي؟ كان يهدف إلى مساعدة البرجوازية على تهميش السوفياتات. لقد أجهض البرلمان التمهيدي مثلما أجهضت مغامرة كورنيلوف، ولكن المناشفة والاشتراكيين الثوريين قاموا بإحداث البرلمان التمهيدي خدمة لمصلحة البرجوازية ولو شارك البلاشفة في أعمال هذا المجلس لكانت النتيجة تضليل العمال حول طابعه الحقيقي. هذا ما يفسّر الحملة العنيفة التي شنها لينين في رسائله على أنصار المشاركة في البرلمان التمهيدي.
شكّل دخول البلاشفة إلى البرلمان التمهيدي، دون شك، خطأ كبيرا ولكن من غير المقبول أن نفترض على طريقة الرفيق تروتسكي أن الرفاق أنصار ذلك الدخول كانوا يرغبون "في قيادة الحركة العمالية إلى خندق الاشتراكية الديمقراطية". هذا غير صحيح مطلقا ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما استطاع الحزب إصلاح خطئه والخروج من البرلمان التمهيدي بتلك الطريقة الاستعراضية. إن الطريقة والسرعة اللتين تمكن الحزب بواسطتهما من إصلاح موقفه تثبت حيوية الحزب وقوته. اسمحوا لي أيضا بإصلاح خطأ صغير للرفيق لنتسنر، "محرر" أعمال تروتسكي، حول جلسة الكتلة البلشفية التي قررت الدخول في البرلمان التمهيدي. يقول لنتسنر أن رفيقين شغلا وظيفة المقرّرين في هذه الجلسة هما كامنييف وتروتسكي. هذا غير صحيح، كان هناك أربعة مقررين، إثنان (تروتسكي وستالين) كانا مع مقاطعة البرلمان التمهيدي، وإثنان (كامنييف ونوقوين) مع المشاركة.
فشل تروتسكي في مغامرته أيضا لمّا حاول الحديث عن وجهة نظر لينين حول شكل الانتفاضة. فعندما نقرأ كتاب تروتسكي عن لينين يسودنا الانطباع بأن الحزب كان سيظفر بالسلطة "بدون السوفياتات" لو استمع إلى لينين في أكتوبر.(تروتسكي: حول لينين، ص 71، الطبعة الروسية). منتقدا هذا الخور الذي ينسبه إلى لينين، يعلن تروتسكي بكل ثقة "كان ذلك سيكون خطأ". يصرّح تروتسكي هنا بشيء غير صحيح، إنه يشوه فكرة لينين حول دور السوفيتات في الانتفاضة ويمكننا الاستشهاد بجملة من الوثائق تبرز أن لينين كان يقترح الظفر بالسلطة عن طريق سوفيات بتروغراد أو موسكو وليس بدونهما. لماذا اعتقد تروتسكي أنه من الضروري رواية هذه الأسطورة الغريبة عن لينين؟
لم يكن تروتسكي أوفر حظا لما "استعرض" وجهة نظر كلّ من اللجنة المركزية ولينين حول تاريخ الانتفاضة. ففي روايته لوقائع الإجتماع الشهير للجنة المركزية في 10 أكتوبر، يزعم أنه وقع تبني لائحة في هذا الاجتماع تقضي بأن "اندلاع الانتفاضة لن يتأخر إلى ما بعد 15 أكتوبر" (المصدر السايق). يبدو إذن حسب تروتسكي أن اللجنة المركزية حدّدت في البداية تاريخ الانتفاضة في 15 أكتوبر لكنها تراجعت في قرارها لاحقا وحددت تاريخا جديدا في 25 أكتوبر. هذا غير صحيح، لم تتبنى اللجنة المركزية في تلك الفترة غير قرارين حول الانتفاضة في 10 و16 أكتوبر.
وقعت صياغة قرار 10 أكتوبر على النحو التالي:
" إن اللجنة المركزية، آخذة في الاعتبار الوضع العالمي للثورة الروسية ( انتفاضة البحرية الألمانية، تطور الثورة الاشتراكية العالمية في كامل أوروبا، خطر السلم بين القوى الامبريالية ضد الثورة الروسية)، الوضع العسكري في روسيا (سعي البرجوازية والحكومة- كيرنسكي ومن لفّ لفه – إلى تسليم بتروغراد للألمان)،ظفر الحزب البرولتاري بأغلبية السوفيتات، انتفاضة الفلاحين، تعاظم تعاطف الجماهير الشعبية مع حزبنا، نتائج انتخابات موسكو وأخيرا قرب محاولة جديدة لكورنيلوف (إبعاد حامية بتروغراد وتعويضها بجنود قوزاق، محاصرة "منسك" من طرف القوزاق، الخ)، تعتبر أن الانتفاضة المسلحة أصبحت على جدول الأعمال.
إن اللجنة المركزية معتبرة الانتفاضة المسلحة حتمية ووشيكة، توجه نداءا إلى كافة منظمات الحزب من أجل أن تقرّر وتحلّ على هذا الأساس جميع المسائل العملية (مؤتمر سوفياتات المناطق الشمالية، نقل حامية بتروغراد، موقف حاميات موسكو ومنسك، الخ.)".
وفيما يلي نص اللائحة التي وقع تبنيها في اجتماع 16 أكتوبر بحضور موظفين مسؤولين :
"يبارك الكونفراس لائحة اللجنة المركزية ويوافق عليها دون تحفظ ويدعو كل المنظمات وكل العمال وكل الجنود لأن تدفع إلى الحد الأقصى التحضيرات للانتفاضة المسلحة وأن تدعم الجهاز المركزي الذي أحدث لهذا الغرض من طرف اللجنة المركزية، وينتظر بكل ثقة أن تقرر اللجنة المركزية والسوفييت اللحظة المناسبة لاطلاق الحركة والوسائل المناسبة لضمان انتصارها."
كما تلاحظون، فقد خانت الذاكرة تروتسكي.
يدّعي تروتسكي دون وجه حق أن لينين لم يفهم أهمية الظفر بالسلطة بواسطة المؤتمر المركزي لسوفياتات عامة روسيا في 25 أكتوبر وبأنه ألحّ على الظفر بالسلطة قبل 25 أكتوبر. هذا غير صحيح.
لقد اقترح لينين الظفر بالسلطة قبل 25 أكتوبر لسببين :
1- لأن المعادين للثورة كان يمكنهم في كل لحظة تسليم بتروغراد للألمان.
2- لأنه لا يمكن إصلاح الخطأ الذي وقع فيه سوفييت بتروغراد بإعلانه بصورة مكشوفة وعلنية عن تاريخ الانتفاضة في 25 أكتوبر، إلاّ إذا بدأت الانتفاضة قبل التاريخ المحدد.
كان لينين يعرف أن العدوّ، بعد علمه بتاريخ الانتفاضة نتيجة تهوّر سوفييت بتروغراد (تروتسكي كان مندوب البلاشفة في سوفييت بتروغراد !)، لن يبقى مكتوف الأيدي. يتعلق الأمر إذن بالنسبة للينين باستباق العدو وبحتمية بدء الانتفاضة قبل التاريخ المحدّد. هذا ما يفسر إدانته بعنف في رسائله لـ"مقدسي تاريخ 25 أكتوبر".
وقد أثبتت الأحداث صحة وجهة نظر لينين فقد بدأت الانتفاضة قبل اجتماع مؤتمر سوفياتات عامة روسيا. ليس المؤتمر من ظفر بالسلطة بل سوفييت بتروغراد واللجنة العسكرية الثورية ثم سلمت السلطة لمؤتمر السوفياتات. لذلك فإن تحاليل تروتسكي المطولة حول أهمية الشرعية السوفيتية غير ذات موضوع.
حزبنا، إذن، حيوي وقوي وهو يقود الجماهير الثورية التي هاجمت السلطة البرجوازية وحطمتها. ها قد نصرنا الحقيقة وأعدنا الأمور إلى نصابها.
* تروتسكية أم لينينية؟
ها قد حطمنا الأساطير التي نشرها تروتسكي وأصدقائه حول ثورة أكتوبر، ضد لينين وحول الحزب. إلى ما يرمي تروتسكي من وراء نشر هذه الأساطير حول أكتوبر ومن وراء التحضيرات التي سبقت محاولته الأخيرة؟ ما هو مغزى وهدف الهجوم الفكري لتروتسكي في وقت يجد فيه الحزب نفسه مثقل الكاهل بالأعمال، ويجب عليه تكريس كل قواه للنهوض الاقتصادي، في وقت لا يريد فيه الحزب استئناف نقاش حول مسائل ليست راهنة بالمرّة؟
يصرّح تروتسكي أن كل ذلك ضروريا لـ"دراسة أكتوبر". ولكن هل يجب لدراسة أكتوبر أن نهاجم الحزب ولينين؟ أي "تاريخ" هذا لأحداث أكتوبر يبدأ وينتهي بالانتقاص من القائد الفعلي لانتفاضة أكتوبر ومن الحزب الذي أنجز هذه الانتفاضة؟
لا يتعلق الأمر في الحقيقة بدراسة ثورة أكتوبر. ما هكذا ينبغي أن ندرس أكتوبر ونكتب التاريخ. من البديهي أن لتروتسكي هدفا مغايرا. إنه يسعى مرة أخرى عن طريق الأعمال الأدبية لخلق شروط ملائمة لإحلال التروتسكية محلّ اللينينية.
يظن أنه من الضروري أن ينزع عن الحزب وكوادره أمجادهم وذلك من أجل تحقيق النصر للتروتسكية "الايديولوجية البرولتارية الوحيدة" وتقديم كل ذلك طبعا تحت يافطة اللينينية !
للتروتسكية ثلاثة خصائص مميزة تجعلها متعارضة بصورة مطلقة مع اللينينية :
1) التروتسكية هي نظرية الثورة الدائمة، و"الثورة الدائمة" بالمفهوم التروتسكي هي الثورة بدون اعتبار الفلاحين الصغار كقوة ثورية. الثورة الدائمة هي، إذا استعملنا تعبير لينين، هي "القفز" على الحركة الفلاحية أو "اللعب بمسألة الظفر بالسلطة". إن ثورة من هذا القبيل ستنهار حتما لأنها تحرم البرولتاريا الروسية من حليفها المتمثل في صغار الفلاحين. لذلك ناضلت اللينينية منذ 1905 ضد التروتسكية.
كيف ينظر تروتسكي للينينية في نضالها ذاك؟ إنه يعتبرها نظرية تحتوي على "خصائص معادية للثورة" (تروتسكي، "1905"). ولماذا يدين تروتسكي اللينينية إلى هذه الدرجة؟ لأن اللينينية دافعت دوما عن فكرة الدكتاتورية البرولتارية والفلاحية. لكن تروتسكي لا يقف عند هذا الحدّ، كتب ما يلي :
"إن كل بناء اللينينية قائم حاليا على الأكاذيب والتزييف ويحمل في طياته بذور انهياره !" (رسالة تروتسكي إلى تشيدزة، 25 فيفري 1913).
كما ترون، نحن إزاء خطين متناقضين كليا.
2) التروتسكية تعني الريبة من الحزب البلشفي، من صلابته الهيكلية وعدائه المطلق للعناصر الانتهازية. تعني التروتسكية في ميدان التنظيم نظرية التعايش بين الثوريين والانتهازيين، التعايش مع جميع المجموعات والكتل التي تعجّ بالانتهازيين داخل الحزب على أساس الوحدة المطلقة. تعرفون بالتأكيد تاريخ "حلف أوت" لصاحبه الرفيق تروتسكي الذي جمع أنصارا لمارتوف وعناصر من الأوتزوفستيين (أنصار مقاطعة الدوما) والتصفويين والتروتسكيين مكونا بذلك حزبا "نموذجيا". ومن المعروف أيضا أن هذا الحزب متعدد الألوان كان يهدف للقضاء على الحزب البلشفي. فيما كانت "خلافاتنا" آنذاك؟ لقد اعتبرت اللينينية أن القضاء على "حلف أوت" هو الضمانة لتطور الحزب البرولتاري فيما اعتبرت التروتسكية هذا الحلف بمثابة القاعدة "الحقيقية" للحزب.
هنا أيضا، كما ترون، خطان متناقضان.
3) التروتسكية تعني الارتياب من قادة البلشفية ومحاولة تشويههم. لا أعرف في الحزب تيارا يمكن مقارنته بالتروتسكية من حيث الرغبة في تشويه قادة اللينينية والهياكل المركزية للحزب. قديما كان تروتسكي يصف لينين بـ"مستغلّ محترف لكلّ ما هو متخلف في الحركة العمالية الروسية".
كيف حصل أن تروتسكي وهو مثقل الكاهل بهذا العبء الثقيل، موجود خلال حركة أكتوبر ضمن صفوف البلاشفة؟ لقد تخلص من ذلك العبء وألقاه بين الهوامش. بدون هذه "العملية" الصغيرة، لم يكن أيّ تعاون جدّي مع الرفيق تروتسكي ممكنا. فقد ألقي بنظرية "حلف أوت" أي نظرية الوحدة مع المناشفة إلى سلة المهملات منذ ما قبل الثورة. وبالفعل، أية وحدة يمكن أن تقع بين البلاشفة والمناشفة عشية النضال المسلح؟
نفس المصير البائس لاقته نظرية الثورة الدائمة، ما من بلشفي واحد فكّر في أخذ السلطة مباشرة غداة ثورة فيفري. كان تروتسكي يعلم أن البلاشفة لن يسمحوا له "باللعب بالاستيلاء على السلطة" كما يقول لينين فلم يكن أمام تروتسكي من خيار سوى الانضمام إلى سياسة البلاشفة في مسألة الظفر بتأييد السوفياتات والفلاحين. أما فيما يخص الخاصية الثالثة (ارتيابه من القادة البلاشفة) فقد اضطرّ تروتسكي للتخلي عنها بعد أن عاين انهيار نظرياته.
إن التعاون الطويل بين اللينينيين والرفيق تروتسكي لم يكن ممكنا إلا بشرط تخلي تروتسكي كليا عن أخطائه السابقة وانضمامه دون أفكار مسبقة إلى اللينينية. لكن تروتسكي الذي يستعرض "دروس أكتوبر" نسي إبراز هذا المعطى.
التروتسكية الجديدة ليست مواصلة تامة للتروتسكية القديمة فقد تغيّر غلافها وفقدت أجمل ريشها، لقد صارت ودودة أكثر ومعتدلة أكثر مقارنة بالتروتسكية القديمة رغم محافظتها على نفس السمات الجوهرية. لا تحارب التروتسكية الجديدة بصورة مكشوفة اللينينية فهي تفضل الاشتغال تحت ظلّها لأنها ضعيفة. ولا يمكن أن ننسب لمحض الصدفة صعود التروتسكية إلى المسرح بعد أن فقدنا لينين. ما كان للتروتسكية أن تغامر بهذه الخطوة الخطرة لو كان لينين ما يزال بيننا.
الخطوط المميزة للتروتسكية الجديدة
1) الثورة الدائمة : لا ترى التروتكسية الجديدة حاجة في الدفاع بصورة مكشوفة عن نظرية الثورة الدائمة بل تكتفي بتسجيل أن ثورة أكتوبر قد أكدت كليا فكرة الثورة الدائمة وتستخلص النتيجة التالية: ليست اللينينية صحيحة ومقبولة إلاّ في الجزء الذي نشأ بعد الحرب وفي فترة ثورة أكتوبر، أماّ لينينية ما قبل الحرب وما قبل الثورة فهي غير صحيحة. وهكذا تقسّم اللينينية إلى جزئين منفصبين: لينينية ما قبل الحرب واللينينية الجديدة التي تعتزم التروتسكية تطويعها لأفكارها الخاصة.
ولكن نحن نقول أن اللينينية ليست نظرية انتقائية مكونة من عدة قطع بل هي نظرية غير قابلة للتجزئة نشأت في 1903 واغتنت بتجارب ثلاثة ثورات وهي الآن نظرية نضال الطبقة العاملة العالمية. يقول لينين : "وجدت البلشفية كتيار في الحياة السياسية وكحزب منذ 1903. يجب أن ننظر لتاريخ البلشفية ككلّ مع جميع المراحل التي مرّت بها لكي نستطيع أن نفهم كيف تمكنت من خلق وصون، في الظروف الأكثر صعوبة، هذا الانضباط الحديدي الذي بدونه ما كان للبرولتاريا أن تنتصر." (لينين: المرض الطفولي). البلشفية واللينينية متطابقان، هما اسمان مختلفان لنفس الشيء. لذلك فإن نظرية تقسيم اللينينية إلى قسمين ترمي إلى القضاء على اللينينية.
لا حاجة للقول بأن هذه النظرية الغريبة لا تصلح للحزب في شيء.
2) النظرية التروتسكية الجديدة حول الحزب : سعت التروتسكية القديمة إلى تخريب الحزب البلشفي عن طريق نظرية (وممارسة) الوحدة مع المنشفيك المفلسة والتي لا نريد حتى تذكرها. وتحاول التروتسكية الجديدة تخريب الحزب عن طريق نظرية جديدة "ديمقراطية" تتمثل في معارضة الكوادر البلشفية القدامى بالجيل الجديد في الحزب.
تقسّم التروتسكية تاريخ حزبنا إلى فترتين مختلفتين من حيث القيمة: فترة ما قبل وفترة ما بعد أكتوبر. تعتبر أن فترة ما قبل أكتوبر تنتمي إلى "ما قبل التاريخ"، هي مجرد فترة تحضيرية، أما التاريخ الحقيقي للحزب فلا يبدأ إلا بعد أكتوبر. من جهة، نجد الكوادر "القدامى"، " ما قبل التاريخ"، ومن الجهة الأخرى نجد الحزب الجديد الحقيقي والحزب "التاريخي". هل من حاجة لإثبات أن هذا الرسم الطريف يهدف إلى تخريب الوحدة بين الكوادر القديمة والجديدة للحزب؟
لا حاجة للقول بأن هذه النظرية الغريبة لا تصلح للحزب في شيء.
3) التروتسكية وقادة البلشفية: سعت التروتسكية القديمة إلى الانتقاص من لينين دون الخوف تقريبا من نتائج مسعاها أما التروتسكية الجديدة فتواصل مسعاها مع بعض الحذر، تحاول استئناف تمشي التروتسكية القديمة مع كيل المديح للينين. وأعتقد أنه من المفيد تقديم بعض الأمثلة.
يعرف الحزب في لينين ذلك الثوري الذي لا يتراجع أمام أي شيء، ولكنه يعرف أيضا أن لينين كان حذرا ولم يكن يحب التطرف المبالغ فيه. فقد كان يحارب بحزم أولئك الذين يمارسون القمع إلى درجة مبالغ فيها مثل تروتسكي. يتحدث تروتسكي عن هذا الموضوع في كتابه عن لينين. نستخلص من حديثه أن لينين لم يحارب بجدية المبالغات في القمع وأنه كان ينتهز "كلّ فرصة سانحة للتأكيد على ضرورة القمع" (ص 104 من الطبعة الروسية). يتضح من عرض الرفيق تروتسكي أن لينين كان أكثر البلاشفة دموية. أي حاجة دفعت تروتسكي لإبراز لينين في هذه الصورة المشوهة التي لا تشبه مطلقا الصورة الحقيقية؟
يعرف الحزب في لينين ذلك الرفيق النموذجي الذي لا يحبذ حلّ المسائل بصورة منفردة بدون نقاش معمق واستشارة مسبقة للهيئة المختصة. يتحدث تروتسكي في كتابه أيضا عن هذه الميزة للينين لكن الصورة التي يرسمها عنه أقرب إلى رجل الدين الصيني الذي يحلّ المشاكل الأكثر أهمية في الجو الصامت لمكتب عمله انطلاقا من تعاليم السماء.
هل تريدون معرفة كيف قرر حزبنا حلّ المجلس التأسيسي؟ استمعوا إلى تروتسكي :
" قال لينين: يجب طبعا حلّ المجلس التأسيسي، لكن ماذا نفعل مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين؟
العجوز ناتونسون Nathanson طمأننا ونصحنا قائلا : انسفوا المجلس التأسيس مباشرة بعد تبادل أولى الخطب.
برافو ! صاح لينين فرحا : ما هو صحيح صحيحا، لكن ماذا ستقول جماعتك؟
البعض متردّدون لكنهم سيقبلون الأمر المحتوم في نهاية الأمر" ( تروتسكي: حول لينين).
هل تريدون معرفة كيف اتخذ حزبنا القرار حول المجلس الأعلى للحرب؟ استمعوا أيضا إلى تروتسكي :
"كنت أقول لفلاديمير اليتش كلما أذهب إلى هيئة الأركان : بدون مساهمة مختصين جدّيين وذوي خبرة لن نخرج أبدا من الفوضى.
- أجاب: صحيح ولكننهم سيقومون بخيانتنا بالتأكيد
- قلت: سنلحق بكلّ منهم مفتش
- قال: يستحسن أن نلحق بكلّ منهم مفتشين إثنين، لكن يجب أن يكونوا مفتشين نشيطين و لا ينقصنا ذلك.
وهكذا قمت بإرساء أسس المجلس الأعلى للحرب". ( تروتسكي: حول لينين).
هكذا يكتب الرفيق تروتسكي التاريخ.
لماذا يروي لنا الرفيق تروتسكي هذه الأساطير الشرقية؟ لكي يرفع من مكانة لينين : يصعب علينا تصديقه.
يعرف الحزب لينين ويقدّره لكونه أعظم ماركسي في عصرنا وأعمق المفكرين وأكثر الثوريين خبرة وأنه لا يمكن أن نشك في وجود أدنى ميل لديه نحو البلانكية. تروتسكي يرسم لنا لينين ذلك البلانكي الذي يشير على الحزب في أكتوبر بأن "يستولي على السلطة بقواه الخاصة وياستقلال عن السوفييت ودون علمه". سبق لي أن أوضحت أن هذه القصة لا تحتوي على ذرة من الحقيقة.
ما هو السبب الذي جعل تروتسكي يتكبد عناء رواية هذا التزييف الفظيع؟ ألسنا إزاء محاولة للانتقاص من لينين ؟
تلك هي العلامات المميزة للتروتسكية الجديدة.
فيما يتمثل خطر التروتسكية الجديدة؟ إنه يتمثل في أن التروتسكية بحكم إيديولوجيتها لها كلّ الحظوظ لكي تصبح نقطة تجميع الشرائح غير البرولتارية التي لا تريد سوى إضعاف الدكتاتورية البرولتارية وتفسخها.
ستسألونني : وماذا بعد؟ ما هي واجبات الحزب القادمة إزاء الهجوم الفكري الجديد للرفيق تروتسكي؟
لقد تحرّكت التروتسكية لإزاحة البلشفية ونسف قواعدها ومن واجب الحزب دفن التروتسكية كإيديولوجية. سمعنا حديثا عن عقوبات ضد المعارضة وخطر الإنقسام. هذا هراء أيها الرفاق، حزبنا قوي وحازم ولا يقبل أي انقسام. أما العقوبات فأنا أعارضها صراحة، لسنا في حاجة الآن للعقوبات بل إلى عمل إيديولوجي شامل ضد التروتسكية المنبعثة من جديد.
لم نرغب في هذا الجدل الفكري لكن التروتسكية فرضته علينا بنشاطها المعادي للينينية. إذن، نحن مستعدون أيها الرفاق.
ترجمة عزالدين بن عثمان الحديدي عن النص الفرنسي من "كراسات بلشفية" 1925
"تروتسكية أم لينينية" نصّ كتبه الرفيق ستالين في نوفمبر 1924، هو نصّ نادر التداول حتى باللغات الأجنبية صلب الحركة الشيوعية العالمية وخاصة العربية. أترجم هذا النص إلى اللغة العربية لأنه يكتسي، في نظرنا، أهمية بالغة لعدة أسباب :
1- لهذا النص أهمية تتعلق بكتابة التاريخ الحقيقي لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى التي شكلت منعرجا حاسما في تاريخ البشرية باعتباره يتناول الأحداث واللحظات العصيبة في تحضير وإنجاز تلك الثورة على لسان أحد أهم زعمائها الذي كان في قلب جميع الأحداث المتعلقة بها. فالنص من هذه الناحية يهمّ كافة المؤرخين الديمقراطيين الشرفاء فضلا عن المثقفين الشيوعيين.
2- لهذا النص أهمية استثنائية باعتبار أوّلا - تاريخ كتابته في نوفمبر 1924 بعيد وفاة لينين، أي في فترة ما زالت فيها التروتسكية وتروتسكي "أقوياء" صلب الحزب البلشفي وصلب الحركة الشيوعية العالمية. في فترة لا يمكن لأحد أن يزعم فيها أن ستالين كان "مسيطرا" على الحزب والدولة السوفيتية، وثانيا – باعتبار شكله حيث جاء في شكل خطاب علني مفتوح وبحضور الخصوم السياسيين. في هذه الظروف ينبري ستالين ليفضح أكاذيب تروتسكي والتروتسكيين حول انتفاضة أكتوبر والحزب البلشفي والتي اتخذت شكل هجوم فكري ممنهج ضد البلشفية وزعمائها وعلى رأسهم لينين.
3- لهذا النص أهمية بالغة لا لتضمنه أفكارا نظرية ضد أطروحات التروتسكية حول الثورة الدائمة" أو الحزب، الخ - فقد تناول ستالين هذه المسائل بأكثر تفصيل وبكمال أكبر في مؤلفاته الأخرى مثل "أسس ومسائل اللينينية" و"ثورة أكتوبر وتاكتيك الشيوعيين الروس" الخ – بل لتناوله مسائل تكتيكية تتعلق بالتحضير الحي لثورة أكتوبر ولكونه يبين بكلّ موضوعية وعلنية وبالوثائق القادة الحقيقيين لانتفاضة أكتوبر المظفرة والقادة الحقيقيين للنصر على الثورة المضادة والدور الحقيقي لتروتسكي سواء في الانتفاضة أو في الحرب الأهلية.
4- لهذا النص أهمية ملحوظة لأنه يبرز، مرة أخرى، إحدى أهم خصال القائد الفذ يوسف ستالين وهي الموضوعية والانضباط الحزبي. فرغم خطورة التشويهات التي يروجها تروتسكي عن لينين والحزب البلشفي ورغم حدّة النقاش لدحض تلك التشويهات، نجد ستالين هادئا، صلبا يشير إلى تروتسكي بـ"الرفيق تروتسكي" ويعارض أي لجوء لعقوبات ضده ويطرح في المقابل خوض صراع إيديولوجي علني شامل ضد التروتسكية كتّيار معادي للينينية باستقلال عن شخص تروتسكي.
-------------------------------------
تصدير :
"إن هذا المطلوب لهو أصعب على المرء من تقديم الدليل على بطولته خلال بضعة أيام، دون أن يترك مكانه التقليدي، دون أن يشرع بالحملة، مكتفيا بهبة إنتفاض ضد رومانوف الوحش و الأبله، أو ضد كيرنسكي الغبي، المغرور. إن بطولة القيام بعمل تنظيمي عنيد و طويل النفس، على نطاق البلاد كلها، لهو أصعب إلى ما لا حد له، و لكنه أرفع إلى ما لا حد له من بطولة الإنتفاضات."
( "رسالة إلى عمال بيتروغراد" - البرافدا العدد 101، 23 أيار 1918).
---------------------------
تروتسكية أم لينينية ؟
- خطاب ستالين في الجلسة العامة للكتلة الشيوعية في المجلس المركزي للنقابات الروسية (19 نوفمبر 1924)
أيها الرفاق،
بعد التقرير المفصل للرفيق كامنييف لم يبق لي إلا القليل لقوله. لذلك سأكتفي بدحض بعض الأساطير التي ينشرها تروتسكي وأصدقائه حول ثورة أكتوبر ودور الرفيق تروتسكي في الثورة والحزب والتحضير الثوري، الخ. سأتناول أيضا التروتسكية بوصفها إيديولوجية معادية للينينية وسأتحدث، أخيرا عن واجبات الحزب إزاء الأعمال الفكرية الأخيرة للرفيق تروتسكي.
ينشر بحماس مميز بين أعضاء الحزب أن اللجنة المركزية أعلنت معارضتها للانتفاضة في أكتوبر 1917. ويحكى بصورة اعتيادية أنه في 10 أكتوبر أعلنت غالبية اللجنة المركزية في البداية معارضتها للانتفاضة لكن دخول أحد العمال بصورة فجئية إلى القاعة أدى إلى انقلاب الأمور. وينسب إلى هذا العامل قوله : " أنتم تصوتون ضد الانتفاضة لكنني أحذركم من أن الانتفاضة ستقع مع ذلك" ويقال أن اللجنة المركزية متأثرة بهذا القول قررت آنذاك الانتفاضة.
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد أحدوثة، فقد روى جون ريد أيضا هذه القصة في كتابه "عشرة أيام هزت العالم". لم يكن جون ريد آنذاك عضوا بعد في حزبنا وقد وقع في فخ م. سوخانوف. هذه الحكاية وقع تضمينها وتكرارها مرارا في جملة من الكراريس التي كتبها أصدقاء تروتسكي ومن ضمنها مؤخرا كراس حول أكتوبر من تأليف الرفيق سيركين.
وتسهم المؤلفات الفكرية الأخيرة للرفيق تروتسكي إلى حدّ كبير في ترويج هذه الإشاعات. لا حاجة لإثبات أن كل هذه الترهات غير مطابقة للحقيقة وأن لا شيء من ذلك القبيل حصل في اجتماع اللجنة المركزية. لم نمنح أهمية لهذه الإشاعات لأننا تعودنا على التفاهات المتأتية من المعارضة أو من أشخاص خارج الحزب. لم نولي كذلك أهمية لأخطاء جون ريد. لكن بعد مؤلف تروتسكي الأخير لم يعد بالإمكان ترك هذه الأساطير تمر في صمت لأنه باستخدامها يراد تكوين الشباب. وللأسف نجحوا نوعا ما في هذا المجال، لذلك يجب أن أواجه بالوقائع هذه الإشاعات الحمقاء التي يقع ترويجها.
إليكم الوقائع.
إنها تحطم الكثير من الأساطير ومن بينها تلك التي تقول بأن اللجنة المركزية أعلنت معارضتها للانتفاضة. وتحطّم الأسطورة القائلة بأن اللجنة المركزية كانت قاب قوسين أو أدنى من الانقسام بسبب الخلافات حول مسألة الانتفاضة. يتضح من محاضر الجلسة أن معارضي الانتفاضة الحينية- كامنييف وزينوفييف- دخلوا كأعضاء في المكتب السياسي المكلف بقيادة الانتفاضة المسلحة. لم تكن إذن مسألة الانقسام واردة.
يدّعي تروتسكي أن حزبنا كان يضم في أكتوبر 1917، في شخصي كامنييف وزينوفييف، جناحا يمينيا شبه اشتراكي ديمقراطي. لو كان ذلك صحيحا، لما استطعنا أن نفهم كيف أمكن للحزب تلافي الانقسام وكيف يحتل هؤلاء الرفاق أهم المناصب في الحزب بوصفهم أعضاء في المكتب السياسي الذي قاد الانتفاضة. نعرف صرامة لينين إزاء الاشتراكية الديمقراطية. لم يكن لينين ليسمح أبدا بأن يتواجد في الحزب رفاق يحملون ميلا إلى الاشتراكية الديمقراطية، ومن باب أولى وأحرى، لم يكن ليسمح بتعيين هؤلاء الرفاق في أهم المناصب.
بالنسبة لهؤلاء الرفاق، يتعلق الأمر ببلاشفة قدامى يقفون على الأرضية العامة للبلشفية، هناك وحدة في الرؤى حول المسائل الجوهرية : طبيعة الثورة الروسية، القوى المحركة للثورة، دور الفلاحين، أسس تنظيم الحزب، الخ. بدون هذه الوحدة في وجهات النظر ما كان يمكن تجنب الانقسام. على العكس من ذلك، لم تؤدي الخلافات بين هؤلاء الرفاق وبين أغلبية اللجنة المركزية إلى الانقسام بل زالت خلال بضعة أيام لأن كامنييف وزينوفييف كانوا لينينيين وبلاشفة.
لنتحدث الآن عن أسطورة دور تروتسكي في انتفاضة أكتوبر. يروج أصدقاء تروتسكي بوقاحة أن تروتسكي هو المهندس والقائد الوحيد للانتفاضة.
يساهم في ترويج هذا اللغو خاصة الرفيق لينتسنر محرّر المؤلفات الكاملة لتروتسكي والذي يتجاهل بصفة ممنهجة دور الحزب ودور اللجنة المركزية ولجنة لينينغراد في تنظيم الانتفاضة. واضعا نفسه في مقدمة الأحداث، يساهم تروتسكي أيضا، عن قصد أو بدونه، في نشر هذه الادعاءات.
لا يخطر في بالي التشكيك في أهمية الدور الذي لعبه الرفيق تروتسكي في الانتفاضة، لكن عليّ القول بأنه لم يكن ولا يمكن أن يكون دورا مميّزا : بوصفه رئيسا لسوفييت بتروغراد لم يكن يقم سوى بتنفيذ إرادة الهيئات المختصة في الحزب التي كانت تقوده خطوة بخطوة. إن برجوازيين صغار من طينة سوخانوف يجدون في ذلك غرابة لكن الوقائع، الوقائع الحقيقية، تأكد تماما ما كنت بصدد قوله.
لننظر إلى بروتوكول جلسة اللجنة المركزية بتاريخ 16 أكتوبر. الحاضرون: أعضاء اللجنة المركزية، ممثلو لجنة بتروغراد، المنظمة العسكرية، لجان مصانع، نقابات، عمال سكك الحديد. بالإضافة إلى الرفاق كريلنكو، شوتمان، كالينين، فولودارسكي، شليبنيكوف، لاتزيس وغيرهم. على جدول الأعمال مسألة التحضير العملي للانتفاضة. وقع تبني لائحة لينين من طرف 20 صوتا مقابل 2 وامتناع 2. وتقرر تكوين جهاز مركزي مكلف بالتنظيم الفعلي للانتفاضة ويضم هذا الجهاز خمسة رفاق هم : سفردلوف، ستالين، دزرجنسكي، بوبنوف وأوريتسكي. هذه اللجنة ستقود الأعمال التنفيذية حسب تعليمات اللجنة المركزية.
وهكذا، كما ترون، حصل أمر "غريب" في هذه الجلسة للجنة المركزية. وقع تكوين الجهاز المركزي المكلف بالقيادة التنفيذية للانتفاضة دون تعيين الرفيق تروتسكي، "المهندس" و"المحرك الرئيسي" و"القائد الوحيد" للانتفاضة، إلى عضوية ذلك الجهاز !
بوصفه عضوا جديدا نسبيا في حزبنا، لم يكن بإمكان تروتسكي أن يلعب دورا مميّزا سواء في الحزب أو في الانتفاضة. لم يكن، ككل مناضل مسؤول، سوى منفّذ لإرادة اللجنة المركزية وهياكلها. كلّ شخص له اطلاع على منظمة الحزب البلشفي سيفهم دون عناء كبير أنه لا يمكن أن يجري الأمر إلا على هذا النحو. لو عارض تروتسكي إرادة اللجنة المركزية لما أمكن له أن يمارس أدنى تأثير على مجريات الأحداث. إن ما يروّج في الحزب عن دوره المتميز لا يعدو أن يكون سوى تزييف مغرض.
لا يعني ذلك أن انتفاضة أكتوبر لم يكن لها مهندس. إن قائدها ومهندسها هو لينين الذي وقع تبني لوائحه حول الانتفاضة من طرف اللجنة المركزية. كونه كان مجبرا على العيش في السرية لا يعني، مهما قال الرفيق تروتسكي، أنه ليس المهندس الحقيقي للحركة. إنه لمن الغباء والحمق إنكار هذا الدور للينين.
إليكم الوقائع.
قد يقال لنا نحن متفقون على ذلك ولكن هل يمكن الشك في أن الرفيق تروتسكي قد أبلى بلاءا حسنا في أكتوبر؟ صحيح أن تروتسكي أبلى بلاءا حسنا في أكتوبر ولكن ليس وحده من أبلى البلاء الحسن. الاشتراكيون الثوريون اليساريون مثلا الذين كانوا يسبرون معنا في تلك الفترة لم يبلوا بلاءا سيئا. بل يمكنني القول بصفة عامة أنه في مرحلة الانتفاضة المظفرة عندما يكون العدو معزولا وقوى الثورة في تعاظم مستمر، ليس من الصعب أن يبلى المرء بلاءا حسنا. في مثل تلك اللحظات، حتى العناصر المتأخرة يمكن أن تصبح أبطالا. لكن نضال البرولتاريا لا يتمثل دوما في الهجوم ولا يتشكل دوما من سلسلة لا تنقطع من الانتصارات بل يعرف انتكاسات وهزائم. يجب على الثوريين الحقيقيين أن يثبتوا شجاعتهم ليس في فترة انتصار الانتفاضة وحدها بل كذلك في فترة الانتكاسات والتراجعات.
لم يكن بلاء الاشتراكيون اليساريون سيئا في فترة أكتوبر عندما ساندوا البلاشفة، لكننا نعرف مدى الارتباك الذي تملك هؤلاء "الشجعان" في فترة بريست-ليتوفسك وكيف رمى بهم هجوم الامبريالية الألمانية في يأس مظلم.
تروتسكي الذي أبلى بلاءا حسنا في أكتوبر، لم يكن له الشجاعة والصلابة الضروريين لكي لا يقتف آثار الاشتراكيين الثوريين اليساريين في فترة بريست-ليتوفسك، فترة الاخفاق المؤقت. لا شك أن الوضع كان في غاية الصعوبة وأنه كان يتطلب شجاعة وحضورا ذهنيا خارقا للعادة للتراجع في الوقت المناسب دون تمكين العدو من سحقنا وإبرام السلم في الوقت المناسب ممّا سمح بإنقاذ الجيش البرولتاري والمحافظة على الاحتياطات الفلاحية لكي ننقض على العدو بعد فترة تهدئة بقوى جديدة.
يعتبر تروتسكي ان الدرس الرئيسي الذي يجب أن نستخلصه من مرحلة أكتوبر هو أن لا "ننحرف". هذا غير صحيح لأن صيغة الرفيق تروتسكي لا تتضمن سوى جزء من الحقيقة. أما الحقيقة، كل الحقيقة، فتتمثل في أنه يجب أن لا "ننحرف" لا فقط لحظة الهجوم الثوري ولكن أيضا يجب أن نحافظ على صلابتنا عند اخفاقات الثورة، عندما يجبرنا العدو على التراجع. لا يشكل أكتوبر سوى بداية الثورة البرولتارية ومن المحزن أن ننحرف في البداية ولكن الأكثر حزنا أن ننحرف في مرحلة المحن الصعبة التي تمر بها الثورة بعد مسك السلطة. ان المحافظة على السلطة غداة الثورة مهمة لا تقل جسامة عن الاستيلاء عليها. إن تروتسكي الذي انحرف في فترة بريست-لتوفسك في وقت صعب للغاية لما كنّا قريبين من فقدان السلطة، سيفهم أنه من غير المناسب بالمرّة الحديث بعد ذلك عن أخطاء كامنييف وزينوفييف في أكتوبر.
- الحزب وتحضير أكتوبر
عندما نستمع إلى الرفيق تروتسكي يتحدث يمكن أن يذهب في اعتقادنا أن الحزب البلشفي في الفترة بين مارس وأكتوبر، وقد نهشته النزاعات الداخلية، كان يضع جميع أنواع العراقيل أمام لينين، وأنه لو لم يكن الرفيق تروتسكي موجودا ما من أحد يعلم ماذا سيكون مآل ثورة أكتوبر. من المسلّي أن نسمع تروتسكي يقول هذه الأشياء عن الحزب، لأننا نقرأ في مقدمة الجزء الثالث من كتابه أن "الحزب هو الأداة الرئيسية للثورة البرولتارية" وأن "الثورة البرولتارية لم يكن لها أن تنتصر بدون الحزب...". حتى حكمة الآلهة لا تكفي لتفسير كيف كان يمكن للثورة أن تنتصر إذا كانت "أداتها الرئيسية" على تلك الحالة الرثة.
ينقسم تاريخ التحضير لثورة أكتوبر إلى عدة مراحل :
* فترة الاتجاه الجديد للحزب (مارس- أفريل)
أهم الأحداث المميزة لهذه الفترة هي التالية : أ) سقوط القيصرية، ب) تكوين الحكومة المؤقتة (دكتاتورية البرجوازية)، ج) ظهور سوفيتات العمال والجنود (دكتاتورية البرولتاريا والفلاحين)، د) تعايش الدكتاتوريتين، هـ) مظاهرة أفريل، و) الأزمة الأولى للسلطة.
تميزت هذه الفترة بتواجد، في نفس الوقت وإلى جانب دكتاتورية البرجوازية، للدكتاتورية البرولتارية والفلاحية التي سلمت ثقتها للدكتاتورية البرجوازية وآمنت بجهودها السلمية ومنحت بإرادتها السلطة للبرجوازية وأصبحت بذلك ملحقة بها. لم تنشأ بعد نزاعات جدية بين الدكتاتوريتين وقد وقع تشكيل لجنة سميت بلجنة "الاتصال" مكلفة بربط الصلة بين الأجهزة.
لقد حصل أعظم تحول في تاريخ حزبنا. فقد أصبحت الأرضية القديمة لقلب الحكم التي وقعت صياغتها قبل الثورة رغم دقتها ووضوحها، غير ملائمة لشروط النضال الجديدة. لم يعد بالإمكان لنشاط الحزب أن يهدف مباشرة إلى إسقاط الحكومة نظرا لارتباط هذه الأخيرة بالسوفياتات التي كانت تحت تأثير الاشتراكيين القوميين، وإلاّ فسيخوض نضالا غير متناسب مستخدما قواه ضد الحكومة والسوفياتات معا. لكنه كان من المستحيل أيضا أن يساند الحكومة المؤقتة التي كان يعي ميولها الامبريالية.
كانت ظروف النضال الجديدة تفرض على الحزب اتجاها سياسيا جديدا. كان الحزب، أي أغلبيته، يتلمس باحثا عن الطريق الجديدة. وقد اعتمد سياسة قوامها ممارسة الضغط عبر السوفياتات على الحكومة المؤقتة في مسألة السلم، لم يقرر بصفة فورية توسيع الشعار القديم لدكتاتورية البرولتاريا والفلاحين إلى حدّ رفع شعار "كل السلطة للسوفياتات". كانت سياسة نصف الخطوة هذه ترمي إلى فضح الطابع الامبريالي للحكومة المؤقتة وانتزاع السوفياتات من تحت تأثيرها من خلال مناقشة مسائل ملموسة داخل السوفياتات. لقد كانت تلك السياسة خاطئة لأنها تخلق أوهاما سلمية لم يتأخر الاشتراكيون القوميون في استغلالها ولأنها تعيق التربية الثورية للجماهير. كنت، على غرار رفاق آخرين، أشاطر وجهة النظر الخاطئة هذه، لكن مع منتصف أفريل لما وقع تبني أطروحات لينين تخليت كليا عنها. ( ساند زينوفييف، الذي يريد تروتسكي تقديمه كأحد أتباع هلفردنغ، كليا وجهة نظر لينين ).
إن توجها جديدا يفرض نفسه. وقد سطّر لينين في أطروحات أفريل الشهيرة الخط الجديد للحزب. هل وجد خلاف في ذلك الوقت بين الحزب ولينين؟ نعم ولكن لم يدم سوى أسبوعين. لقد شكلت ندوة منظمة بتروغراد خلال النصف الثاني من أفريل والتي تبنت أطروحات لينين منعرجا في تاريخ حزبنا. وقد أقرّت ندوة الحزب في آخر أفريل قرار منظمة بتروغراد ووقع تبني التكتيك الجديد بأغلبية الرفاق الساحقة.
والآن وبعد مرور سبع سنوات على ذلك، يظهر تروتسكي غبطته لخلافات بين بلاشفة اندثرت منذ مدة طويلة والتي يقدمها تروتسكي على أنها صراع بين حزبين في صلب البلشفية. انه يغالي في الأمور الى أقصى حدّ، لأن الحزب البلشفي تغلب على تلك الخلافات بدون حصول أي ضرر. سيكون حزبنا مجرد طائفة منغلقة لا حزبا ثوريا إذا لم يقبل في صفوفه الاختلاف في الأفكار. يعلم الجميع أن تاريخ حزبنا شهد اختلافات أخرى في الأفكار مثل تلك التي برزت في فترة الدوما الثالثة ولكن ذلك لم يمسّ من وحدة الحزب. وقد لا يكون دون فائدة توجيه السؤال لتروتسكي حول موقفه في تلك الفترة.
يزعم "محرّر" أعمال تروتسكي الرفيق لنتسنر أن الرسائل الأمريكية لتروتسكي (مارس 1917) "تستبق" "رسائل من بعيد" للينين (التي نشرت أيضا في مارس) والتي تضمنت الأفكار التي أسس عليها لينين أطروحات أفريل. "استباق كلّي" هكذا يرى الرفيق لنتسنر ولا يبدي تروتسكي طبعا أي اعتراض على هذه المقارنة ويقبلها بامتنان. لكن، بداية، لا وجود لأي شبه بين رسائل تروتسكي ورسائل لينين، لا في الفكر ولا في الاستنتاجات. رسائل تروتسكي تكرر شعار " لا للقيصرية، حكومة عمالية" المعادي للبلشفية، شعار يعني الثورة بدون الفلاحين. يكفي أن نقارن مجموعتي الرسائل لنكتشف الفرق.
ثمّ كيف نفسر أن لينين، بعد يومين من رجوعه إلى روسيا، برسم المسافة بينه وبين تروتسكي. من منا لا يعرف تصريحات لينين المتتالية حول شعار تروتسكي "لا للقيصرية، حكومة عمالية" حيث يعتبره محاولة "للقفز على الحركة الفلاحية التي لا تزال حية" ويصفه بـ"لعبة الاستيلاء على السلطة بواسطة الحركة العمالية". أي شبه بين الأطروحات البلشفية للينين والصيغة المعادية للبلشفية لتروتسكي؟ لماذا شعر الرفيق لنتسنر بالحاجة إلى أن يضيف إلى الأساطير الأخرى حول الثورة تلك المتعلقة بـ"استباق" رسائل تروتسكي الأمريكية لرسائل لينين*.
------------ * عرض الأساطير ذاك يتضمن أيضا رواية حول الرفيق تروتسكي بوصفه المنظم "الوحيد" و"الرئيسي" للحرب الأهلية. يجب عليّ أيهاالرفاق القول بأن هذه الرواية غير حقيقية بالمرة.بعيدا عن التفكير في التشكيك في الدور الهام للرفيق تروتسكي في الحرب الأهلية، أجدني مجبرا على التصريح عاليا وبصورة قاطعة بأن شرف تنظيم انتصاراتنا لا يعود إلى أشخاص بل إلى مجموع العناصر المتقدمة من عمال بلدنا أي إلى الحزب الشيوعي لروسيا. وقد يكون من المفيد أن نستشهد ببعض الأمثلة. تعرفون أننا نعتبر كولتشاك ودنكين ألدّ أعداء الجمهورية السوفيتية وتعرفون أن بلدنا بدأ يسترد أنفاسه فقط بعد الانتصار على هذين العدوين. لكن التاريخ يبين لنا أن جيوشنا انتصرت على كولتشاك ودنكين بعد تنفيذ خطط مناقضة لخطط تروتسكي. لتحكموا بأنفسكم :
- كولتشاك : صيف 1919، جيوشنا بصدد شن هجوم على كولتشاك متوجهة لأخذ "أوفا". جلسة الجنة المركزية، تروتسكي يقترح وقف الهجوم عند خط "بيالايا" (قبيل "أوفا") وترك الأورال بين يدي كولتشاك وسحب جزء من جيوشنا من الجبهة الشرقية لتقوية الجبهة الجنوبية. بعد نقاش مثير أعلنت اللجنة المركزية معارضتها وقررت عدم ترك الأورال بمصانعه وسكك حديده إلى كولتشاك الذي سيستغل ذلك وسيتمكن بسهولة من تنظيم جيشه بمساعدة الفلاحين ومن ثمة يستأنف الهجوم نحو الفولغا. قررت إذن (اللجنة المركزية) طرد كولتشاك إلى ما وراء الأورال في الصحاري السيبيرية أوّلا، ثم النظر بعد ذلك في تقوية الجبهة الجنوبية بجيوش تسحب من الجبهة الشرقية. قدم تروتسكي الذي تمّ رفض مقترحه استقالته لكن اللجنة المركزية رفضت قبولها، أما القائد فاتسليس الذي كان يساند خطة تروتسكي فقد استقال ووقع تعويضه بكامنييف. ومنذ ذلك الحين لم يشارك تروتسكي مباشرة في عمليات الجبهة الشرقية.
- دانكين : خريف 1919، فشل الهجوم على دانكين، "الدائرة الحديدية" حول "مامنتوف" لم تؤدي إلى تقدم، احتل دانكين "كورسك" ويزحف على "أوريل". وقعت دعوة تروتسكي من الجبهة لحضور إجتماع اللجنة المركزية. أعلنت اللجنة المركزية أن الوضع يبعث على القلق وقررت أن ترسل إلى الجبهة الجنوبية موظفين عسكريين جدد من الحزب وتنحية تروتسكي. طلب الموظفون المرسلون إلى الجبهة أن يمتنع تروتسكي عن كل "تدخل" في العمليات. قبل تروتسكي ذلك وتواصلت العمليات في غيابه حتي تمكنت جيوشنا من تحرير "روستوف" و"أوديسا".[-----------------
* مرحلة التعبئة الثورية للجماهير (ماي – أوت)
أهم الأحداث المميزة لهذه المرحلة هي التالية : أ) مظاهرة أفريل في بتروغراد وتشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة "اشتراكيين"، ب) مظاهرات الأول من أيّار في المدن الرئيسية تحت شعار "سلم ديمقراطية"، ج) مظاهرة جوان في بتروغراد تحت شعار "يسقط الوزراء الرأسماليون"، د) هجوم جوان وإخفاقات الجيش الروسي، هـ) الاستعراض المسلح في بتروغراد في جويلية واستقالة أعضاء الحكومة من الكاديت، و) نشر فرق معادية للثورة وقع سحبها من الجبهة وتخريب مقر تحرير البرافدا، نشاط معادي للثورة ضد السوفياتات وتشكيل حكومة ائتلافية جديدة برئاسة كيرنسكي، ز) المؤتمر السادس للحزب يطلق شعار تحضير الانتفاضة المسلحة، ح) انقلاب كورنيلوف الفاشل ضد بتروغراد وتواصل نشاط السوفياتات، استقالة الكاديت وتشكيل "المديرية".
يجب أن نعتبر أن الخط الأكثر تمييزا لهذه المرحلة يتمثل في احتداد الأزمة وتحطيم التوازن بين السوفياتات والحكومة المؤقتة. فقد وصلت "لجنة الاتصال" إلى حالة لم تعد تستطيع معها الاشتغال وكانت "أزمة السلطة" و"شطحات الوزراء" على لسان الجميع في تلك الفترة. وقد ساهمت الأزمة على الجبهة والفوضى في المؤخرة في تقوية أقصى اليسار وعزل، من الجانبين، "الاشتراكيين" الباحثين عن صفقة والقوميين. كانت الثورة تنضج والثورة المضادة تثير باستمرار موجات ثورية جديدة. أصبحت مسألة انتقال السلطة بين أيدي طبقة جديدة على جدول الأعمال.
هل وجدت في تلك الفترة خلافات صلب الحزب؟ نعم، ولكنها ذات طابع موضوعي على عكس ما يزعم تروتسكي الذي يبذل جهده لاكتشاف "يمين" و"يسار" في الحزب، خلافات لا يمكن أن نتصور بدونها حزبا حيّا ويعمل بصفة جدية.
يخطئ تروتسكي لما يصرّح أن مظاهرة أفريل في بتروغراد أثارت خلافات في اللجنة المركزية، فقد عارضت اللجنة المركزية بالإجماع محاولة مجموعة من الرفاق اعتقال أعضاء الحكومة المؤقتة في وقت لم يكن فيه البلاشفة سوى أقلية صلب السوفياتات وكذلك في الجيش. لو لم يكتب الرفيق تروتسكي "تاريخ" ثورة أكتوبر بالرجوع إلى سوخانوف، ولو اعتمد على وثائق لا يمكن الطعن فيها لاستطاع دون عناء كبير أن يقتنع بعدم صحة ما طرحه. يخطئ أيضا لما يزعم أن محاولة تنظيم مظاهرة بتروغراد "يمبادرة" من لينين والتي ضبط تاريخها في 9 جوان، قد وقع اعتبارها "عمل مغامر" من طرف أعضاء "اليمين" في اللجنة المركزية. لو لم يستق تروتسكي من كتاب سوخانوف لاستطاع أن يعرف أن مظاهرة 9 جوان قد تأجلت باتفاق كامل مع لينين الذي دافع عن هذا القرار للجنة المركزية في خطاب مطول ألقاه في اجتماع لجنة بتروغراد (أنظر محاضر لجنة بتروغراد).
يخطئ الرفيق تروتسكي تماما عندما يتحدث عن "خلافات مأساوية" في اللجنة المركزية حول الاستعراض المسلح في جويلية. ولا يعدو أن يكون سوى محض تلفيق من طرفه افتراضه أن بعض ألأعضاء في المجموعة القيادية للجنة المركزية "اعتبروا أحداث جويلية كمغامرة في غير محلها". إن تروتسكي الذي لم يصبح في تلك الفترة عضوا في اللجنة المركزية والذي لم يكن سوى نائبنا في مجلس السوفيات، لا يمكنه طبعا أن يعرف أن اللجنة المركزية لا تعتبر الاستعراض انتفاضة مسلحة وأنها سعت فقط إلى جسّ نبض العدو وأنه لا اللجنة المركزية ولا لينين خطر في باله تحويل الاستعراض إلى انتفاضة في وقت مازالت فيه سوفياتات المدن الرئيسية تجت تأثير الاشتراكيين القوميين. طبعا يمكن أن يكون بعض البلاشفة قد حزن لهزيمة جويلية، وأنا أعرف حالات من البلاشفة المعتقلين في تلك الفترة أبدوا حتى رغبة في مغادرة صفوفنا. لكن أن يستخلص المرء من ذلك استنتاجات ضد أعضاء مزعومين ليمين مزعوم في اللجنة المركزية فهذا يعتبر تزييفا فجا للتاريخ.
يخطئ تروتسكي لما يصرح أنه خلال مغامرة كورنيلوف اضطرت مجموعة من قياديي الحزب إلى التحالف مع الاشتراكيين القوميين لمساندة الحكومة المؤقتة. يتعلق الأمر طبعا بـ"اليمين" المزعوم الذي يطرد النوم عن تروتسكي. تروتسكي على خطأ. إن عدة وثائق ومنها مثلا أعداد الجريدة المركزية للحزب تكذبه قطعيا. يستشهد تروتسكي برسالة للينين ينبه فيها اللجنة المركزية من دعم محتمل لكرنسكي. ولكن تروتسكي لا يفهم رسائل لينين ولا يفقه مطلقا معناها وأهدافها. في هذه الرسائل يتعرض لينين لأخطاء لم توجد بعد ولكن يمكن أن تقع، فهو ينبه الحزب ليجنبه أي خطوات خاطئة متوقعة. في بعض الأحيان يهول مسألة في "غاية البساطة"، "يجعل من البعوضة فيلا" لنفس هدف تربية الحزب.
إن زعيم الحزب، خاصة عندما يكون مجبرا على العيش في السرية، لا يمكنه إلا أن يتصرف بتلك الطريقة. يجب عليه أن يكون أكثر حذرا من رفاقه في النضال ويدق ناقوس الخطر لتحذير الحزب من أية أخطاء ممكنة حتى لو كانت "أشياء بسيطة". لكن، أن نستنتج من تلك الرسائل خلافات "مأساوية" فذلك يعني عدم فهم وعدم معرفة بلينين وهو ما يفسر أخطاء تفسيرات تروتسكي. باختصار، لم يكن هناك خلافات بين أعضاء اللجنة المركزية خلال مغامرة كورنيلوف.
بعد هزيمة جويلية، ظهرت فعلا خلافات بين اللجنة المركزية ولينين بخصوص السوفياتات. نعرف أن لينين كان يريد تركيز اهتمام الحزب حول تحضير الانتفاضة خارج إطار السوفياتات وكان يحذرنا من عدم الانبهار بالسوفياتات. كان يرى أن السوفياتات قد تحولت إلى صحراء وأن الجماهير كرهتها بفعل سيطرة الاشتراكيين القوميين عليها. لكن اللجنة المركزية والمؤتمر السادس للحزب تبنوا سياسة أكثر حذرا تأخذ في الاعتبار امكانية استئناف نشاط السوفياتات وقد بيّنت عملية كورنيلوف صحة وجهة النظر هذه وقد اعترف لينين بذلك لاحقا. وللمفارقة، لم يتشبث تروتسكي بهذا الخلاف ولم يهوله "بصورة غير مناسبة".
وهكذا، يعطينا الحزب في تلك الفترة مشهدا عن منظمة صلبة ومنضبطة متواجدة في قلب التحضيرات الثورية للجماهير.
* مرحلة التحضير للانتفاضة
لنبرز الأحداث المميزة لتلك المرحلة : أ) دعوة الكونفرانس الديمقراطي وفشل التحالف مع السوفياتات، ب) كسب البلاشفة لسوفييت موسكو وبتروغراد، ج) مؤتمر سوفياتات المناطق الشمالية وقرار سوفييت بتروغراد ضد التحاق الحامية بالجبهة، د) قرار اللجنة المركزية حول الانتفاضة وتشكيل اللجنة العسكرية الثورية لسوفييت بتروغراد، هـ) قرار حامية بتروغراد حول الدعم المسلح لسوفييت بتروغراد وتنظيم مندوبي اللجنة العسكرية الثورية، و) بدء عمل القوات المسلحة البلشفية واعتقال أعضاء "الحكومة المؤقتة"، ز) الاستيلاء على السلطة من طرف اللجنة العسكرية الثورية لسوفييت بتروغراد وتشكيل مجلس مفوضي الشعب من طرف المؤتمر الثاني للسوفياتات.
تميزت هذه المرحلة بتفاقم سريع للأزمة وبتذبذب الدوائر الحاكمة وبعزلة الاشتراكيين الثوريين والمناشفة وبالانتقال الجماعي للعناصر المترددة إلى البلشفية.
كان التكتيك الثوري غريب جدا في تلك الفترة إذ تميز بالخصوص بشن الهجوم مع البقاء في حالة دفاعية. فقد كان رفض سوفييت بتروغراد إرسال الجيوش، دون شك، عملا هجوميا ثوريا لكنه كان مبرّرا بضرورة الدفاع عن بتروغراد ضد عدوان محتمل من طرف أعدائنا. ويعتبر تشكيل اللجنة العسكرية الثورية، بدون شك، عملا هجوميا أكثر جدية وأكثر صراحة لكنه تمّ تحت شعار الرقابة السوفياتية للسلط العسكرية. وكان إعلان تأييد الحامية للجنة العسكرية الثورية وتنظيم شبكة كاملة من المفوضين يعني، بدون شك، الشروع في الانتفاضة ومع ذلك فقد قطعت الثورة خطواتها الحاسمة تحت شعار ضرورة الدفاع عن سوفييت بتروغراد ضد الهجمات المحتملة للثورة المضادة.
كان ذلك بمثابة إخفاء الثورة لأنشطتها الهجومية تحت عباءة الدفاع بغرض جلب العناصر المترددة بسهولة أكبر. هذا ما يفسّر الطابع الدفاعي ظاهريا للخطب والمقالات والشعارات في تلك الفترة رغم أنها كانت ترمي، تحت هذا الشكل، إلى تحقيق أهداف هجومية.
هل وجدت في تلك الفترة خلافات صلب اللجنة المركزية؟ نعم، بل حتى خلافات هامة. لن أكرر ما ذكرته منذ قليل حول الخلافات في مسألة الانتفاضة، لكنني سأتناول بالتفصيل ثلاثة مسائل : المشاركة في البرلمان التمهيدي، دور السوفياتات في الانتفاضة وتاريخ هذه الأخيرة. يصبح ذلك ضروريا أكثر على اعتبار سعي تروتسكي لإبراز نفسه في المقدمة وتشويهه "بطريق الخطأ" وجهة نظر لينين حول المسألتين الأخيرتين.
ما من شك في أن الخلافات حول مسألة البرلمان التمهيدي كانت خلافات جدية. ماذا كان هدف البرلمان التمهيدي؟ كان يهدف إلى مساعدة البرجوازية على تهميش السوفياتات. لقد أجهض البرلمان التمهيدي مثلما أجهضت مغامرة كورنيلوف، ولكن المناشفة والاشتراكيين الثوريين قاموا بإحداث البرلمان التمهيدي خدمة لمصلحة البرجوازية ولو شارك البلاشفة في أعمال هذا المجلس لكانت النتيجة تضليل العمال حول طابعه الحقيقي. هذا ما يفسّر الحملة العنيفة التي شنها لينين في رسائله على أنصار المشاركة في البرلمان التمهيدي.
شكّل دخول البلاشفة إلى البرلمان التمهيدي، دون شك، خطأ كبيرا ولكن من غير المقبول أن نفترض على طريقة الرفيق تروتسكي أن الرفاق أنصار ذلك الدخول كانوا يرغبون "في قيادة الحركة العمالية إلى خندق الاشتراكية الديمقراطية". هذا غير صحيح مطلقا ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما استطاع الحزب إصلاح خطئه والخروج من البرلمان التمهيدي بتلك الطريقة الاستعراضية. إن الطريقة والسرعة اللتين تمكن الحزب بواسطتهما من إصلاح موقفه تثبت حيوية الحزب وقوته. اسمحوا لي أيضا بإصلاح خطأ صغير للرفيق لنتسنر، "محرر" أعمال تروتسكي، حول جلسة الكتلة البلشفية التي قررت الدخول في البرلمان التمهيدي. يقول لنتسنر أن رفيقين شغلا وظيفة المقرّرين في هذه الجلسة هما كامنييف وتروتسكي. هذا غير صحيح، كان هناك أربعة مقررين، إثنان (تروتسكي وستالين) كانا مع مقاطعة البرلمان التمهيدي، وإثنان (كامنييف ونوقوين) مع المشاركة.
فشل تروتسكي في مغامرته أيضا لمّا حاول الحديث عن وجهة نظر لينين حول شكل الانتفاضة. فعندما نقرأ كتاب تروتسكي عن لينين يسودنا الانطباع بأن الحزب كان سيظفر بالسلطة "بدون السوفياتات" لو استمع إلى لينين في أكتوبر.(تروتسكي: حول لينين، ص 71، الطبعة الروسية). منتقدا هذا الخور الذي ينسبه إلى لينين، يعلن تروتسكي بكل ثقة "كان ذلك سيكون خطأ". يصرّح تروتسكي هنا بشيء غير صحيح، إنه يشوه فكرة لينين حول دور السوفيتات في الانتفاضة ويمكننا الاستشهاد بجملة من الوثائق تبرز أن لينين كان يقترح الظفر بالسلطة عن طريق سوفيات بتروغراد أو موسكو وليس بدونهما. لماذا اعتقد تروتسكي أنه من الضروري رواية هذه الأسطورة الغريبة عن لينين؟
لم يكن تروتسكي أوفر حظا لما "استعرض" وجهة نظر كلّ من اللجنة المركزية ولينين حول تاريخ الانتفاضة. ففي روايته لوقائع الإجتماع الشهير للجنة المركزية في 10 أكتوبر، يزعم أنه وقع تبني لائحة في هذا الاجتماع تقضي بأن "اندلاع الانتفاضة لن يتأخر إلى ما بعد 15 أكتوبر" (المصدر السايق). يبدو إذن حسب تروتسكي أن اللجنة المركزية حدّدت في البداية تاريخ الانتفاضة في 15 أكتوبر لكنها تراجعت في قرارها لاحقا وحددت تاريخا جديدا في 25 أكتوبر. هذا غير صحيح، لم تتبنى اللجنة المركزية في تلك الفترة غير قرارين حول الانتفاضة في 10 و16 أكتوبر.
وقعت صياغة قرار 10 أكتوبر على النحو التالي:
" إن اللجنة المركزية، آخذة في الاعتبار الوضع العالمي للثورة الروسية ( انتفاضة البحرية الألمانية، تطور الثورة الاشتراكية العالمية في كامل أوروبا، خطر السلم بين القوى الامبريالية ضد الثورة الروسية)، الوضع العسكري في روسيا (سعي البرجوازية والحكومة- كيرنسكي ومن لفّ لفه – إلى تسليم بتروغراد للألمان)،ظفر الحزب البرولتاري بأغلبية السوفيتات، انتفاضة الفلاحين، تعاظم تعاطف الجماهير الشعبية مع حزبنا، نتائج انتخابات موسكو وأخيرا قرب محاولة جديدة لكورنيلوف (إبعاد حامية بتروغراد وتعويضها بجنود قوزاق، محاصرة "منسك" من طرف القوزاق، الخ)، تعتبر أن الانتفاضة المسلحة أصبحت على جدول الأعمال.
إن اللجنة المركزية معتبرة الانتفاضة المسلحة حتمية ووشيكة، توجه نداءا إلى كافة منظمات الحزب من أجل أن تقرّر وتحلّ على هذا الأساس جميع المسائل العملية (مؤتمر سوفياتات المناطق الشمالية، نقل حامية بتروغراد، موقف حاميات موسكو ومنسك، الخ.)".
وفيما يلي نص اللائحة التي وقع تبنيها في اجتماع 16 أكتوبر بحضور موظفين مسؤولين :
"يبارك الكونفراس لائحة اللجنة المركزية ويوافق عليها دون تحفظ ويدعو كل المنظمات وكل العمال وكل الجنود لأن تدفع إلى الحد الأقصى التحضيرات للانتفاضة المسلحة وأن تدعم الجهاز المركزي الذي أحدث لهذا الغرض من طرف اللجنة المركزية، وينتظر بكل ثقة أن تقرر اللجنة المركزية والسوفييت اللحظة المناسبة لاطلاق الحركة والوسائل المناسبة لضمان انتصارها."
كما تلاحظون، فقد خانت الذاكرة تروتسكي.
يدّعي تروتسكي دون وجه حق أن لينين لم يفهم أهمية الظفر بالسلطة بواسطة المؤتمر المركزي لسوفياتات عامة روسيا في 25 أكتوبر وبأنه ألحّ على الظفر بالسلطة قبل 25 أكتوبر. هذا غير صحيح.
لقد اقترح لينين الظفر بالسلطة قبل 25 أكتوبر لسببين :
1- لأن المعادين للثورة كان يمكنهم في كل لحظة تسليم بتروغراد للألمان.
2- لأنه لا يمكن إصلاح الخطأ الذي وقع فيه سوفييت بتروغراد بإعلانه بصورة مكشوفة وعلنية عن تاريخ الانتفاضة في 25 أكتوبر، إلاّ إذا بدأت الانتفاضة قبل التاريخ المحدد.
كان لينين يعرف أن العدوّ، بعد علمه بتاريخ الانتفاضة نتيجة تهوّر سوفييت بتروغراد (تروتسكي كان مندوب البلاشفة في سوفييت بتروغراد !)، لن يبقى مكتوف الأيدي. يتعلق الأمر إذن بالنسبة للينين باستباق العدو وبحتمية بدء الانتفاضة قبل التاريخ المحدّد. هذا ما يفسر إدانته بعنف في رسائله لـ"مقدسي تاريخ 25 أكتوبر".
وقد أثبتت الأحداث صحة وجهة نظر لينين فقد بدأت الانتفاضة قبل اجتماع مؤتمر سوفياتات عامة روسيا. ليس المؤتمر من ظفر بالسلطة بل سوفييت بتروغراد واللجنة العسكرية الثورية ثم سلمت السلطة لمؤتمر السوفياتات. لذلك فإن تحاليل تروتسكي المطولة حول أهمية الشرعية السوفيتية غير ذات موضوع.
حزبنا، إذن، حيوي وقوي وهو يقود الجماهير الثورية التي هاجمت السلطة البرجوازية وحطمتها. ها قد نصرنا الحقيقة وأعدنا الأمور إلى نصابها.
* تروتسكية أم لينينية؟
ها قد حطمنا الأساطير التي نشرها تروتسكي وأصدقائه حول ثورة أكتوبر، ضد لينين وحول الحزب. إلى ما يرمي تروتسكي من وراء نشر هذه الأساطير حول أكتوبر ومن وراء التحضيرات التي سبقت محاولته الأخيرة؟ ما هو مغزى وهدف الهجوم الفكري لتروتسكي في وقت يجد فيه الحزب نفسه مثقل الكاهل بالأعمال، ويجب عليه تكريس كل قواه للنهوض الاقتصادي، في وقت لا يريد فيه الحزب استئناف نقاش حول مسائل ليست راهنة بالمرّة؟
يصرّح تروتسكي أن كل ذلك ضروريا لـ"دراسة أكتوبر". ولكن هل يجب لدراسة أكتوبر أن نهاجم الحزب ولينين؟ أي "تاريخ" هذا لأحداث أكتوبر يبدأ وينتهي بالانتقاص من القائد الفعلي لانتفاضة أكتوبر ومن الحزب الذي أنجز هذه الانتفاضة؟
لا يتعلق الأمر في الحقيقة بدراسة ثورة أكتوبر. ما هكذا ينبغي أن ندرس أكتوبر ونكتب التاريخ. من البديهي أن لتروتسكي هدفا مغايرا. إنه يسعى مرة أخرى عن طريق الأعمال الأدبية لخلق شروط ملائمة لإحلال التروتسكية محلّ اللينينية.
يظن أنه من الضروري أن ينزع عن الحزب وكوادره أمجادهم وذلك من أجل تحقيق النصر للتروتسكية "الايديولوجية البرولتارية الوحيدة" وتقديم كل ذلك طبعا تحت يافطة اللينينية !
للتروتسكية ثلاثة خصائص مميزة تجعلها متعارضة بصورة مطلقة مع اللينينية :
1) التروتسكية هي نظرية الثورة الدائمة، و"الثورة الدائمة" بالمفهوم التروتسكي هي الثورة بدون اعتبار الفلاحين الصغار كقوة ثورية. الثورة الدائمة هي، إذا استعملنا تعبير لينين، هي "القفز" على الحركة الفلاحية أو "اللعب بمسألة الظفر بالسلطة". إن ثورة من هذا القبيل ستنهار حتما لأنها تحرم البرولتاريا الروسية من حليفها المتمثل في صغار الفلاحين. لذلك ناضلت اللينينية منذ 1905 ضد التروتسكية.
كيف ينظر تروتسكي للينينية في نضالها ذاك؟ إنه يعتبرها نظرية تحتوي على "خصائص معادية للثورة" (تروتسكي، "1905"). ولماذا يدين تروتسكي اللينينية إلى هذه الدرجة؟ لأن اللينينية دافعت دوما عن فكرة الدكتاتورية البرولتارية والفلاحية. لكن تروتسكي لا يقف عند هذا الحدّ، كتب ما يلي :
"إن كل بناء اللينينية قائم حاليا على الأكاذيب والتزييف ويحمل في طياته بذور انهياره !" (رسالة تروتسكي إلى تشيدزة، 25 فيفري 1913).
كما ترون، نحن إزاء خطين متناقضين كليا.
2) التروتسكية تعني الريبة من الحزب البلشفي، من صلابته الهيكلية وعدائه المطلق للعناصر الانتهازية. تعني التروتسكية في ميدان التنظيم نظرية التعايش بين الثوريين والانتهازيين، التعايش مع جميع المجموعات والكتل التي تعجّ بالانتهازيين داخل الحزب على أساس الوحدة المطلقة. تعرفون بالتأكيد تاريخ "حلف أوت" لصاحبه الرفيق تروتسكي الذي جمع أنصارا لمارتوف وعناصر من الأوتزوفستيين (أنصار مقاطعة الدوما) والتصفويين والتروتسكيين مكونا بذلك حزبا "نموذجيا". ومن المعروف أيضا أن هذا الحزب متعدد الألوان كان يهدف للقضاء على الحزب البلشفي. فيما كانت "خلافاتنا" آنذاك؟ لقد اعتبرت اللينينية أن القضاء على "حلف أوت" هو الضمانة لتطور الحزب البرولتاري فيما اعتبرت التروتسكية هذا الحلف بمثابة القاعدة "الحقيقية" للحزب.
هنا أيضا، كما ترون، خطان متناقضان.
3) التروتسكية تعني الارتياب من قادة البلشفية ومحاولة تشويههم. لا أعرف في الحزب تيارا يمكن مقارنته بالتروتسكية من حيث الرغبة في تشويه قادة اللينينية والهياكل المركزية للحزب. قديما كان تروتسكي يصف لينين بـ"مستغلّ محترف لكلّ ما هو متخلف في الحركة العمالية الروسية".
كيف حصل أن تروتسكي وهو مثقل الكاهل بهذا العبء الثقيل، موجود خلال حركة أكتوبر ضمن صفوف البلاشفة؟ لقد تخلص من ذلك العبء وألقاه بين الهوامش. بدون هذه "العملية" الصغيرة، لم يكن أيّ تعاون جدّي مع الرفيق تروتسكي ممكنا. فقد ألقي بنظرية "حلف أوت" أي نظرية الوحدة مع المناشفة إلى سلة المهملات منذ ما قبل الثورة. وبالفعل، أية وحدة يمكن أن تقع بين البلاشفة والمناشفة عشية النضال المسلح؟
نفس المصير البائس لاقته نظرية الثورة الدائمة، ما من بلشفي واحد فكّر في أخذ السلطة مباشرة غداة ثورة فيفري. كان تروتسكي يعلم أن البلاشفة لن يسمحوا له "باللعب بالاستيلاء على السلطة" كما يقول لينين فلم يكن أمام تروتسكي من خيار سوى الانضمام إلى سياسة البلاشفة في مسألة الظفر بتأييد السوفياتات والفلاحين. أما فيما يخص الخاصية الثالثة (ارتيابه من القادة البلاشفة) فقد اضطرّ تروتسكي للتخلي عنها بعد أن عاين انهيار نظرياته.
إن التعاون الطويل بين اللينينيين والرفيق تروتسكي لم يكن ممكنا إلا بشرط تخلي تروتسكي كليا عن أخطائه السابقة وانضمامه دون أفكار مسبقة إلى اللينينية. لكن تروتسكي الذي يستعرض "دروس أكتوبر" نسي إبراز هذا المعطى.
التروتسكية الجديدة ليست مواصلة تامة للتروتسكية القديمة فقد تغيّر غلافها وفقدت أجمل ريشها، لقد صارت ودودة أكثر ومعتدلة أكثر مقارنة بالتروتسكية القديمة رغم محافظتها على نفس السمات الجوهرية. لا تحارب التروتسكية الجديدة بصورة مكشوفة اللينينية فهي تفضل الاشتغال تحت ظلّها لأنها ضعيفة. ولا يمكن أن ننسب لمحض الصدفة صعود التروتسكية إلى المسرح بعد أن فقدنا لينين. ما كان للتروتسكية أن تغامر بهذه الخطوة الخطرة لو كان لينين ما يزال بيننا.
الخطوط المميزة للتروتسكية الجديدة
1) الثورة الدائمة : لا ترى التروتكسية الجديدة حاجة في الدفاع بصورة مكشوفة عن نظرية الثورة الدائمة بل تكتفي بتسجيل أن ثورة أكتوبر قد أكدت كليا فكرة الثورة الدائمة وتستخلص النتيجة التالية: ليست اللينينية صحيحة ومقبولة إلاّ في الجزء الذي نشأ بعد الحرب وفي فترة ثورة أكتوبر، أماّ لينينية ما قبل الحرب وما قبل الثورة فهي غير صحيحة. وهكذا تقسّم اللينينية إلى جزئين منفصبين: لينينية ما قبل الحرب واللينينية الجديدة التي تعتزم التروتسكية تطويعها لأفكارها الخاصة.
ولكن نحن نقول أن اللينينية ليست نظرية انتقائية مكونة من عدة قطع بل هي نظرية غير قابلة للتجزئة نشأت في 1903 واغتنت بتجارب ثلاثة ثورات وهي الآن نظرية نضال الطبقة العاملة العالمية. يقول لينين : "وجدت البلشفية كتيار في الحياة السياسية وكحزب منذ 1903. يجب أن ننظر لتاريخ البلشفية ككلّ مع جميع المراحل التي مرّت بها لكي نستطيع أن نفهم كيف تمكنت من خلق وصون، في الظروف الأكثر صعوبة، هذا الانضباط الحديدي الذي بدونه ما كان للبرولتاريا أن تنتصر." (لينين: المرض الطفولي). البلشفية واللينينية متطابقان، هما اسمان مختلفان لنفس الشيء. لذلك فإن نظرية تقسيم اللينينية إلى قسمين ترمي إلى القضاء على اللينينية.
لا حاجة للقول بأن هذه النظرية الغريبة لا تصلح للحزب في شيء.
2) النظرية التروتسكية الجديدة حول الحزب : سعت التروتسكية القديمة إلى تخريب الحزب البلشفي عن طريق نظرية (وممارسة) الوحدة مع المنشفيك المفلسة والتي لا نريد حتى تذكرها. وتحاول التروتسكية الجديدة تخريب الحزب عن طريق نظرية جديدة "ديمقراطية" تتمثل في معارضة الكوادر البلشفية القدامى بالجيل الجديد في الحزب.
تقسّم التروتسكية تاريخ حزبنا إلى فترتين مختلفتين من حيث القيمة: فترة ما قبل وفترة ما بعد أكتوبر. تعتبر أن فترة ما قبل أكتوبر تنتمي إلى "ما قبل التاريخ"، هي مجرد فترة تحضيرية، أما التاريخ الحقيقي للحزب فلا يبدأ إلا بعد أكتوبر. من جهة، نجد الكوادر "القدامى"، " ما قبل التاريخ"، ومن الجهة الأخرى نجد الحزب الجديد الحقيقي والحزب "التاريخي". هل من حاجة لإثبات أن هذا الرسم الطريف يهدف إلى تخريب الوحدة بين الكوادر القديمة والجديدة للحزب؟
لا حاجة للقول بأن هذه النظرية الغريبة لا تصلح للحزب في شيء.
3) التروتسكية وقادة البلشفية: سعت التروتسكية القديمة إلى الانتقاص من لينين دون الخوف تقريبا من نتائج مسعاها أما التروتسكية الجديدة فتواصل مسعاها مع بعض الحذر، تحاول استئناف تمشي التروتسكية القديمة مع كيل المديح للينين. وأعتقد أنه من المفيد تقديم بعض الأمثلة.
يعرف الحزب في لينين ذلك الثوري الذي لا يتراجع أمام أي شيء، ولكنه يعرف أيضا أن لينين كان حذرا ولم يكن يحب التطرف المبالغ فيه. فقد كان يحارب بحزم أولئك الذين يمارسون القمع إلى درجة مبالغ فيها مثل تروتسكي. يتحدث تروتسكي عن هذا الموضوع في كتابه عن لينين. نستخلص من حديثه أن لينين لم يحارب بجدية المبالغات في القمع وأنه كان ينتهز "كلّ فرصة سانحة للتأكيد على ضرورة القمع" (ص 104 من الطبعة الروسية). يتضح من عرض الرفيق تروتسكي أن لينين كان أكثر البلاشفة دموية. أي حاجة دفعت تروتسكي لإبراز لينين في هذه الصورة المشوهة التي لا تشبه مطلقا الصورة الحقيقية؟
يعرف الحزب في لينين ذلك الرفيق النموذجي الذي لا يحبذ حلّ المسائل بصورة منفردة بدون نقاش معمق واستشارة مسبقة للهيئة المختصة. يتحدث تروتسكي في كتابه أيضا عن هذه الميزة للينين لكن الصورة التي يرسمها عنه أقرب إلى رجل الدين الصيني الذي يحلّ المشاكل الأكثر أهمية في الجو الصامت لمكتب عمله انطلاقا من تعاليم السماء.
هل تريدون معرفة كيف قرر حزبنا حلّ المجلس التأسيسي؟ استمعوا إلى تروتسكي :
" قال لينين: يجب طبعا حلّ المجلس التأسيسي، لكن ماذا نفعل مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين؟
العجوز ناتونسون Nathanson طمأننا ونصحنا قائلا : انسفوا المجلس التأسيس مباشرة بعد تبادل أولى الخطب.
برافو ! صاح لينين فرحا : ما هو صحيح صحيحا، لكن ماذا ستقول جماعتك؟
البعض متردّدون لكنهم سيقبلون الأمر المحتوم في نهاية الأمر" ( تروتسكي: حول لينين).
هل تريدون معرفة كيف اتخذ حزبنا القرار حول المجلس الأعلى للحرب؟ استمعوا أيضا إلى تروتسكي :
"كنت أقول لفلاديمير اليتش كلما أذهب إلى هيئة الأركان : بدون مساهمة مختصين جدّيين وذوي خبرة لن نخرج أبدا من الفوضى.
- أجاب: صحيح ولكننهم سيقومون بخيانتنا بالتأكيد
- قلت: سنلحق بكلّ منهم مفتش
- قال: يستحسن أن نلحق بكلّ منهم مفتشين إثنين، لكن يجب أن يكونوا مفتشين نشيطين و لا ينقصنا ذلك.
وهكذا قمت بإرساء أسس المجلس الأعلى للحرب". ( تروتسكي: حول لينين).
هكذا يكتب الرفيق تروتسكي التاريخ.
لماذا يروي لنا الرفيق تروتسكي هذه الأساطير الشرقية؟ لكي يرفع من مكانة لينين : يصعب علينا تصديقه.
يعرف الحزب لينين ويقدّره لكونه أعظم ماركسي في عصرنا وأعمق المفكرين وأكثر الثوريين خبرة وأنه لا يمكن أن نشك في وجود أدنى ميل لديه نحو البلانكية. تروتسكي يرسم لنا لينين ذلك البلانكي الذي يشير على الحزب في أكتوبر بأن "يستولي على السلطة بقواه الخاصة وياستقلال عن السوفييت ودون علمه". سبق لي أن أوضحت أن هذه القصة لا تحتوي على ذرة من الحقيقة.
ما هو السبب الذي جعل تروتسكي يتكبد عناء رواية هذا التزييف الفظيع؟ ألسنا إزاء محاولة للانتقاص من لينين ؟
تلك هي العلامات المميزة للتروتسكية الجديدة.
فيما يتمثل خطر التروتسكية الجديدة؟ إنه يتمثل في أن التروتسكية بحكم إيديولوجيتها لها كلّ الحظوظ لكي تصبح نقطة تجميع الشرائح غير البرولتارية التي لا تريد سوى إضعاف الدكتاتورية البرولتارية وتفسخها.
ستسألونني : وماذا بعد؟ ما هي واجبات الحزب القادمة إزاء الهجوم الفكري الجديد للرفيق تروتسكي؟
لقد تحرّكت التروتسكية لإزاحة البلشفية ونسف قواعدها ومن واجب الحزب دفن التروتسكية كإيديولوجية. سمعنا حديثا عن عقوبات ضد المعارضة وخطر الإنقسام. هذا هراء أيها الرفاق، حزبنا قوي وحازم ولا يقبل أي انقسام. أما العقوبات فأنا أعارضها صراحة، لسنا في حاجة الآن للعقوبات بل إلى عمل إيديولوجي شامل ضد التروتسكية المنبعثة من جديد.
لم نرغب في هذا الجدل الفكري لكن التروتسكية فرضته علينا بنشاطها المعادي للينينية. إذن، نحن مستعدون أيها الرفاق.
ترجمة عزالدين بن عثمان الحديدي عن النص الفرنسي من "كراسات بلشفية" 1925