خالد بوزرع :قُـــــــصَاصَــــة


قُـــــــصَاصَــــة

نشرت الرسالة أسفله، ضمن صفحات إحدى الجرائد الوطنية في أوائل التسعينات، و يقال ــ والعهدة على القائل ــ أنه وبعد نشر هذه الرسالة بيوم واحد، فوجىء الناس في صبيحة اليوم التالي بإختفاء مقر الصحيفة بالكامل ومعه طاقمها وأرشيفاتها وغير ذلك، وكأن الأرض انشقت فجأة وابتلعت الجميع، كما تمت مصادرة العدد من الأسواق، (هذه المعلومات صرح  بها صديق فضل ألا يذكر إسمه). أما عن طريقة عثوري على هذه الرسالة فلا تخلو من طرافة، ولأكون صادقا بالكامل، فهي لا تخلو من مرارة أيضا، فمن عاداتي التي عكفت عليها منذ الصغر أن أطلع على الجرائد التي تستعمل للف النعناع أو المعدنوس..، طبعا  تكون المقالات في الغالب مبتورة و هنا يأتي دوري، فأتناول قلما أكتب به هوامشا أو أية فكرة تخطر على بالي، وقد أضع نهاية محتملة للمقال الذي طالته أيدي الزمن.. أما إذا كان بالجريدة صورة لممثلة جميلة، فغالبا ما أعلقها بجدار غرفتي، لا لجمالها كما قد تعتقدون، و لكن لأخفي ضررا أحدثته في الجدار عن والدي، الذي لا تفلت من عيناه التي تغيبان وراء نظارات طبية سميكة أبسط التفاصيل.. ما دخل القراء بهواياتي على أية حال، لقد سمحت لنفسي بأن أثرثر من جديد، (و هي بالمناسبة هواية أخرى من هواياتي) المهم.. لكي لا أطيل ستكونون قد اكتشفتم مما قيل أنني وجدت الرسالة بعد أن كانت تستعمل كورق للتلفيف، ولست أيضا في حاجة إلى القول أن الهوامش هي من إبداع مخيلتي.
‘’أمي! إنه الليل، قاس كالمعتاد ببرده وظلمته وأسئلته المستفزة، قد لا يكون من اللائق أن أقحمك في عالمي، لكن يصعب علي أن أرحل دون أن أجد أحدا ما أودعه، لن أزعجك بتفاصيل القصة، فأنا أعرف أن في حياتك ما يكفي من المشاكل، أكتب إليك لأعتذر فحسب، فأنا لن أكون إلى جانبك بعد الآن!
لقد تمردت على العشرات من نصائحك لكن يا أماه، أنا لست كالآخرين، الآخرون ينظرون إلى المرآة كل صباح ليتأكدوا من تسريحة شعرهم وبياض أسنانهم، أنا يا أمي لا أملك مرآة ولا أنظر إلى نفسي إلا من خلال عيون الناس الذين قهرتهم الظروف مثلي، قد تتسآلين "أليست محاولاتك مجرد رغبة مجنونة لزرع الحياة بأرض جذباء لا تنجب إلا الموت؟" لا يا أماه، أرضنا حية، لكن و لأننا موتى فنحن نرى الموت في كل مكان، الأشياء مقلوبة في هذا البلد اللعين لا غير، الشيطان يغذو قديسا، الخيانة تصبح قيمة أخلاقية أعيد الإعتبار لصاحبها، تساوت الضحية والجلاد، بل ويالسخرية الأقدار، من لا يزال حيا في صفوف الضحايا إنضم إلى المنتصرين مؤقتا وهو يلعق جراحه كالكلب، أما باعة الوطن، المجرمون.. لقد أضحوا أبطالا اليوم يا أمي، يمشون بكل ثقة في واضحة النهار، أما في الليل فهم ينشغلون بعد نقودهم التي لا تنتهي، فيما نكتفي نحن بعد نجوم السماء ما لم تختف وراء ستار سميك من السحاب.. بعد كتابة هذه السطور أعتقد يا أمي أن من الأفضل للمرء أن يكون خفاشا، معلق من القدمين حتى يرى الحقيقة!
كان بإمكاني أن أعيش حياة مريحة بعيدا عن المتاعب، لكنني يا أمي لم أولد لأركع، مصيبتي يا أمي أنني إنسان، نعم.. ربما تمنيت أن أصبح طبيبا، لكنني يا أماه صرت إنسانا و أعتقد الآن أن ذلك أفضل.
لست على هذا الدرب بمفردي، ففي أماكن مجهولة ترقد جثتهم بلباسهم الأمازيغي و بملامحهم البدوية التي لم يبقى منها شيء، لقد دفنوا بطريقة غير لائقة، لا شواهد على قبورهم.. لا قبور لهم في الحقيقة، مجرد حفرة عميقة حشرت فيها الجثت بشكل عشوائي وبالكاد يغطيها التراب!! هؤلاء سبقوني إلى الدرب يا أمي.
لا تبكي يا أماه فالعيون لم تخلق لنا لتذرف الدموع فقط، بإمكانها أن تشتعل بنيران الغضب أيضا، ماذا جنينا من هذا الحزن على أية حال؟ أليس السبب في الصدأ الذي أصاب قلوبنا؟! لا تبكي يا أماه فأنا لست خائفا من الموت، لست خائفا من هذا الجدار الممتد أمامي، أنا خائف من دموعك فقط، أنا لم أخسر شيئا! أتعتقدين يا أمي أن حياتي كانت أفضل عندما كنت أتمدد كجثة غادرتها الحياة على حصيرة متآكلة وعيناي نصف مغمضتين، لا يا أماه.. تلك لم تكن حياة، لكن الأوغاد قد أفسدوا عقولنا حتى أصبحنا مصابين بعمى الألوان، لا نرى غير الأبيض والأسود.
لست خائفا من الموت.. نعم، أبإمكانهم أن يقتلوا رجلا ميتا؟! صدقيني يا أمي الحدود بين الحياة والموت مطموسة لا يكاد المرء يتبينها.. لقد أعدموا معنوياتنا كأناس، أصدروا حكمهم هذا منذ أن طرحتنا أرحام أمهاتنا مكرهين إلى هذا العالم!! لكن أتعرفين شيئا يا أمي؟ نحن منتصرون في كل الحالات، نعم لا تستغربي.. حتى و إن قتلونا جميعا لا يفعلون غير أن يصححوا خطأ إرتكبته الطبيعة.
لم أعد أكترث يا أمي! فليطلق الأوغاذ رصاصهم، لكن تأكدي، رصاصهم الغاذر لن يبقى طويلا بجسدي، يوما ما.. نعم يا أمي يوما ما سيرتد عليهم و سيحصدهم واحدا واحدا، فموتي لن يكون نهاية القصة، إنها البداية فحسب!
لا تصدقي الأكاذيب التي سيقولونها عني، فإبنك يا أمي رجل، و عندما يحين الوقت، سأدخن سيجارتي بهدوء، و أقف أمامهم منتصبا شامخا كالنخلة التي زرعتها يوم مولدي، سيحتاجون إلى أكثر من مجرد بندقية للنيل من عزيمتي، فإبنك يا أمي رجل لا يستسلم حتى وهو مستلق في القبر!
أحبك يا أمي، لم أقلها من قبل رغم أنني أحسست بها دائما، ليس لدي أدنى فكرة عن السبب، ربما كنت خجولا، ربما عاداتنا تقضي بذلك.. و ربما تعلمنا التعبير عن مشاعرنا بطريقة خاطئة، أحبك يا أمي!!
هامش 1: الجريدة مبتورة في هذا الموضع و لا أدري إن كانت الرسالة كاملة أم ينقصها المزيد.
هامش 2: الرصاص لم يرتد، بقي هناك مدفونا مع الجثت.
هامش 3: لا حظ لنا في الحياة ولا نصيب، كحلاق فتح محلا في حي يسكنه القرعان.
هامش 4: صديقي رأى كابوسا ليلة أمس و ظل يتمتم بكلام غامض إلتقطت منه أذناي كلمتي "الجذاذة، المفتش"
                                                                                                                          خالد بوزرع
 المصدر :

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا